نجحت العديد من الشركات الرقمية الأميركية الرائدة، بما فيها جوجل وأمازون وإيباي وأوبر، في توسيع نطاق أعمالها على المستوى الدولي عن طريق تقديم منتجاتها وخدماتها ومنصّاتها في بلدان أخرى. ومع ذلك، فشلت جميعها في الصين، أكبر سوق رقمي في العالم.
وتشمل الأسباب المعلنة على نطاق واسع لهذه الإخفاقات فرض الرقابة بواسطة الحكومة الصينية والاختلافات الثقافية بين الصين والغرب. وفي حين لعبت هذه العوامل دوراً دون شك في هذا الإخفاق؛ فإنّ مثل هذه التفسيرات مبسطة للغاية. على سبيل المثال، نجحت جوجل في السيطرة على العديد من الأسواق الأجنبية التي لديها أنظمة سياسية وثقافات مختلفة جذرياً (بما في ذلك إندونيسيا وتايلاند). ولم تمنع هذه العوامل نجاح الشركات الغربية متعددة الجنسيات بالصين في صناعة السيارات والسلع الاستهلاكية سريعة الحركة، وحتى في القطاعات التي تلعب فيها الثقافة دوراً هاماً، مثل المقاهي ومطاعم الوجبات السريعة وصناعة الأفلام. هناك أسباب أعمق وراء هذا الفشل المنهجي للشركات الرقمية الغربية في الصين. (يشير مصطلح الشركات الرقمية إلى تلك الشركات التي ركزت منذ تأسيسها على الخدمات الرقمية عبر الإنترنت والتقنيات ذات الصلة، بما في ذلك الهواتف المحمولة. ولا تشمل شركات تقنية المعلومات التقليدية التي تعتمد على بيع الأجهزة الإلكترونية أو البرمجيات كمصدر رئيس للإيرادات).
ومع ذلك، لم تتوقف الشركات الرقمية الغربية عن محاولة اقتحام السوق الصينية سريعة النمو. إذ تحاول جوجل إعادة دخول سوق الصين من خلال تأسيس مكاتب جديدة ومركز للذكاء الاصطناعي وإبرام صفقات جديدة مع شركتي جيه دي دوت كوم (JD.com) وتينسنت (Tencent) الصينيتين الشهيرتين، وتحاول طرح منتجات جديدة (بما فيها تطبيق محلي مثير للجدل للبحث على الهاتف المحمول سيراقب نتائج البحث بشكل صارم)، والاستثمار في الشركات الناشئة الواعدة بالبلاد. وتوسّع شركات إير بي إن بي (Airbnb) ولينكد إن ووي وورك (WeWork) حضورها في الصين أيضاً، كما توسّع أمازون نطاق أعمالها بالصين في مجال التجارة الإلكترونية عبر الحدود وخدمة أمازون برايم وخدمات أمازون ويب سيرفيسيز.
ويبقى السؤال هو، هل سيكون هذا كافياً؟ وماذا يمكن أن تفعله هذه الشركات بشكل مختلف هذه المرة لتحقيق النجاح؟
الموت بألف طعنة
استناداً إلى دراسة شاملة لمدة خمس سنوات، يحدد بحثي - الذي نُشر في أكاديمية استكشافات الإدارة هذا العام - بشكل منهجي أسباب إخفاق كبرى الشركات الرقمية الغربية في الصين. وتستخدم هذه الدراسة جولتين من المقابلات لتحديد ما يصفه عالم النفس الأميركي الحائز على جائزة نوبل دانيال كانيمان بأنه الرؤية الداخلية والرؤية الخارجية لهذه الظاهرة.
أولاً، أُجريت مقابلات مع 40 من كبار المدراء التنفيذيين في ست من أبرز الشركات الرقمية الغربية (جوجل وياهو وإيباي وأمازون وغروبون Groupon وأوبر) والشركات المنافسة لها بشكل مباشر في الصين (بايدو وسوهو تشاينا وتاوباو وجيه دي دوت كوم وميتوان Meituan وديدي)، وكان الهدف من ذلك هو تحديد الرؤية الداخلية لهذه الظاهرة. وأشارت الرواية السائدة الناتجة عن هذه المقابلات إلى نقص العزم والصبر الاستراتيجي من جانب الشركات الرقمية الغربية بصفته السبب الرئيس لإخفاقها. وهذا يتمثل في سبعة عوامل:
- الافتقار إلى الفهم العميق (الكافي) للسوق الصينية.
- سوء إدارة العلاقات مع المسؤولين الصينيين والحكومة الصينية.
- محاولات فاشلة لفرض نماذج أعمال عالمية غير مناسبة للسوق الصينية.
- الإخفاق في التعامل مع المنافسة الشرسة للغاية في الصين.
- الإخفاق في إدارة العلاقات بفاعلية مع شركاء الأعمال المحليين.
- فرض منصات تقنية طُورّت من أجل السوق الأميركية في الصين.
- بنية تنظيمية شديدة المركزية أدت إلى بطء عملية اتخاذ القرار.
ثانياً، أُجريت مقابلات مع 185 من المراقبين ذوي الخبرة في الصين لتحديد الرؤية الخارجية لهذه الظاهرة. وسلطت هذه المقابلات الضوء على إخفاق الشركات الرقمية الغربية في التأقلم مع بيئة الأعمال التجارية في الصين بصفته السبب الرئيس لإخفاقها. ووُصف ذلك باللغة الصينية بما يعني أنّ هذه الشركات أخفقت في "تثبيت أقدامها على الأرض". وأدى ذلك إلى سلسلة من العيوب التنافسية؛ ما سمح للشركات الرقمية الصينية بالتقدم في معركة الحصول على الحصة السوقية. وشملت هذه العوامل المحددة ما يلي:
الإخفاق في التعامل مع عدد كبير للغاية من المنافسين المحليين.
الإخفاق في التعامل مع المنافسين المحليين الأقوياء.
التقليل من شأن الاختلافات الكبيرة بين الصناعة الرقمية وغيرها من الصناعات.
الإخفاق في تطوير الاستراتيجيات التجارية ونقلها بفاعلية.
استراتيجيات الابتكار غير الفعالة.
الإخفاق في تضمين الأعمال بشكل كامل في الصين.
وعلى الرغم من الاختلافات بين الرؤية الداخلية والرؤية الخارجية لهذه النظرية، تتشابه هذه العوامل في ثلاث نقاط: 1) الفهم السيء لبيئة الأعمال. 2) صياغة الاستراتيجية والتواصل بشكل غير فعال. 3) ضعف الأداء في التشغيل والتنفيذ.
لم يكن فشل الشركات الغربية في الصين بسبب عامل محدد واحد، بل بسبب الآثار المتراكمة لعوامل عدة بمرور الوقت. إنه "موت بألف طعنة" كما قال أحد كبار المسؤولين التنفيذيين سابقاً في شركة إيباي.
حتى الآن، أخفقت الشركات الرقمية الغربية في الاستفادة من ميزتها التنافسية الواضحة في الصين. وأخفقت في فهم بيئة الأعمال المعقدة هناك وتهيئة استراتيجياتها ونماذج أعمالها لتناسب السوق الصينية، وفشلت في تطوير تقنيات وخدمات جديدة تلبي حاجات المستخدمين الصينيين. وقللت هذه الشركات من قوة ومرونة المنافسين الصينيين والتحديات الهائلة التي تنطوي عليها محاولة السيطرة على أكبر سوق رقمي في العالم. لقد أعطتها نجاحاتها في الأسواق العالمية الأخرى إحساساً زائفاً بالأمان والتفوق بفضل ميزاتها التنافسية.
وفي حين تستفيد الشركات الغربية متعددة الجنسيات في القطاعات الأخرى من التقنيات المتقدمة وخطوط الإنتاج القائمة وسلاسل التوريد العالمية التي قد تحتاج الشركات الصينية إلى سنوات من الاستثمار للحاق بها، لا تستفيد الشركات الرقمية من ذلك. إذ تعمل هذه الشركات في بيئة تعد عوائق دخول السوق فيها قليلة نسبياً ويقتصر تركيز المنافسة فيها على ابتكار المنتجات ونماذج الأعمال وتقديم الخدمات بدلاً من التقنيات الأكثر تقدماً.
هل يمكن أن تعود هذه الشركات إلى اللعبة؟
هل الشركات الرقمية الغربية محكوم عليها بالإخفاق في السوق الصينية إلى الأبد؟ الإجابة لا بالطبع؛ فالمشاكل ليست مستعصية على الحل، لكن حجم ونشاط السوق الرقمية الصينية توضح أنّ أي حلول تركز فقط على تلك المشاكل لن تكون كافية على الأرجح. وتحتاج الميزات التنافسية التي أفادت الشركات الرقمية الغربية في البلدان الأخرى إلى التعديل لتناسب السوق الصينية. هناك ثلاثة دروس مهمة على وجه الخصوص:
1- القيام بكل شيء صحيح لا يكفي: لدى الصين اختلافات جغرافية وفروقات اقتصادية واجتماعية في مناطقها، وتتطور بنيتها المؤسسية وتفضيلات السوق بسرعة وبشكل عشوائي أحياناً؛ لذلك تواجه السيطرة والحفاظ على الهيمنة في الصين تحديات فريدة من نوعها. وعلى عكس الأسواق الرقمية الأخرى، فإنّ القيام بكل شيء صحيح في الصين لا يكون كافياً في كثير من الأحيان لتحقيق النجاح بسبب المنافسة القوية.
على سبيل المثال شركة أوبر. قبل أن تقتحم الشركة الأميركية السوق الصينية، أدى كبار مدرائها عملهم بعناية لتجنب الأخطاء التي تسببت في فشل العديد من الشركات متعددة الجنسيات الأخرى (رقمية وغير رقمية). أسست أوبر شركة فرعية مستقلة بشراكة مع بايدو، أكبر محرك بحث في الصين، وخصصت ما يكفي من رأس المال، وسددت إعانات بقيمة 2 مليار دولار للفوز بالحصة السوقية وطرحت خدمات مصممة خصيصاً للسوق الصينية. ولعب مؤسس أوبر والرئيس التنفيذي للشركة آنذاك، ترافيس كالانيك، دوراً هاماً وقضى أكثر من 20% من وقته في الصين.
وعلى الرغم من كل هذا، تراجعت أوبر في السوق الصينية؛ فماذا حدث؟ من الصعب أن نحدد أي مسؤولية فردية من جانب أوبر في ذلك. لكن أحد التحديات الجديرة بالملاحظة هي أنّ أوبر واجهت لأول مرة منافساً حقيقياً وهي شركة ديدي تشو شينغ، التي كانت أكثر تصميماً وكان لديها احتياطي نقدي أكبر وكانت تركز على الصين فقط في ذلك الوقت. باعت أوبر عملياتها إلى ديدي تشو شينغ، وتشير هذه الحالة إلى أنّ مجرد معالجة جميع الأخطاء المعروفة التي ارتكبتها الشركات متعددة الجنسيات الأخرى في الماضي لا تكفي في كثير من الأحيان لضمان النجاح في المستقبل. هناك حاجة إلى نهج أكثر شمولية.
2- تراكم المزايا التدريجية في السوق الرقمية حيث "الفائز يأخذ كل شيء": في حين أنّ الابتكارات الجذرية في المنتجات ونماذج الأعمال والتكنولوجيات تتصدر العناوين الرئيسة، نظراً لأهميتها بالنسبة إلى القدرة التنافسية طويلة المدى للشركات الرقمية، فإنّ ما يجري تجاهله في كثير من الأحيان من تراكم المزايا التدريجية عبر مختلف المجالات التنافسية مع مرور الوقت هو أيضاً أمر ضروري للبقاء على قيد الحياة.
تختلف السوق الرقمية اختلافاً كبيراً عن قطاعات السوق الأخرى. ولم يكن لدى الشركات الرقمية الغربية سوى تاريخ قصير لامتلاك أي مزايا لا تُضاهى. وسمح تركيز الشركات الرقمية على ابتكارات المنتجات ونماذج الأعمال، فضلاً عن العوائق التقنية القليلة نسبياً لدخول السوق، بظهور عدد كبير للغاية من المنافسين الصينيين. وفي سوق تلعب فيه الثقافة القومية دوراً بارزاً مثل هذه، تفضل الصين الشركات المحلية؛ لأنها غالباً ما تكون أفضل في فهم المستخدمين وبيئة الأعمال. كما أنّ الشركات المحلية أكثر مهارة في إدارة العلاقات مع الجهات التنظيمية وبالتالي تكون أقوى في التأثير وأفضل في التنبؤ بالتغييرات التنظيمية. وغالباً ما يجري تقليد التقنيات والملكية الفكرية التي تعتمد عليها الشركات الرقمية الغربية وتهيئتها بسهولة لتناسب الأذواق المحلية في الفضاء الرقمي.
وفي السوق الرقمية - التي تتسم بأنّ الفائز يحصل على كل شيء - حيث يبقى عادة لاعب أو اثنين فقط في كل تخصص، يمكن أن يزداد حجم المزايا التدريجية وأهميتها وتزداد العائدات. ويمكن أن تصبح الآثار التراكمية لأي ميزة كهذه هي ما يميز الفائزين عن الخاسرين.
3- أساليب تجريبية في الاستراتيجية والابتكار: تدعو حالات الشك الهائلة في السوق الرقمية سريعة التطور إلى اتباع أساليب تجريبية في كل من الاستراتيجية والابتكار. يمكن أن تصبح الأفكار الجديدة قديمة قبل أن تُنفذ بشكل كامل، ما يتطلب إعادة تقويم دورة استراتيجية العمل والغرض منها. يُعد الابتكار سواء من خلال التجربة أو الارتجال أمراً مهماً لتحقيق النجاح، لكن مثل هذه الأساليب التجريبية تكون مجدية فقط من خلال درجة عالية من الاستقلالية من جانب الإدارة المحلية والمنتجات المحلية والفرق التقنية، وفي كثير من الأحيان نماذج الأعمال المصممة خصيصاً للسوق الصينية.
الفوز في الاقتصاد الرقمي الجديد
لم تستسلم الشركات الرقمية الغربية في الصين. ومع ذلك، تحتاج هذه الشركات إلى تقديم مزايا تنافسية حقيقية للعودة إلى اللعبة من جديد وتحقيق الفوز. بالإضافة إلى تخصيص منتجاتها ومنصاتها ونماذج أعمالها لتناسب الصين، وتمكين فرق الإدارة المحلية للمنافسة على الحصة السوقية، ويجب على هذه الشركات أيضاً أن تتعلم من الشركات الرقمية الصينية كيفية دمج العمليات المتصلة وغير المتصلة بالإنترنت وبناء شراكات وأنظمة بيئية متكاملة جديدة.
ومع استمرار نمو السوق الرقمية في الصين، انضم عدد متزايد من الشركات الرقمية الناشئة إلى صفوف أكبر الشركات التقنية الناشئة في العالم. ومع نمو الشركات الرقمية الصينية بشكل أكبر وأكثر ثقة، فإنها تسعى إلى الحصول على فرص جديدة في الأسواق العالمية الأخرى مثل الهند وجنوب شرق آسيا وأفريقيا وأوروبا وحتى الولايات المتحدة؛ لذلك سيستمر التصادم بين الشركات الرقمية الغربية والصينية في التصاعد داخل الصين وعلى الصعيد الدولي.
وبعيداً عن الصناعات الرقمية، لوحظت أنماط مماثلة في الخدمات السحابية واتصالات الأجهزة المحمولة والتقنيات المالية والعديد من القطاعات غير الرقمية (مثل الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية والقطارات عالية السرعة). علاوة على ذلك، رُسمت خطوط معارك جديدة بين الشركات الغربية والصينية في مجالات الذكاء الاصطناعي والسيارات دون سائق والصناعات التي تتمتع فيها الشركات الغربية متعددة الجنسيات بمزايا تقنية (مثل صناعة الأدوية)، ومن المرجح أن يزيد النزاع التجاري القائم بين الولايات المتحدة والصين من تعقيد الوضع.
وللاستحواذ على شريحة من السوق الصينية، يجب على مدراء الشركات الغربية إدراك المشكلات الموضحة هنا وفهمها. تُعد هذه الدروس ذات صلة بأكثر من مجرد الشركات الرقمية الغربية في الصين؛ فهي يمكنها تسليط الضوء على المنافسة المستقبلية بين الشركات الغربية والصينية في قطاعات أخرى وفي الأسواق العالمية الأخرى.