ملخص: الاستدامة لم تعد خياراً ترفياً، بل أصبحت محوراً استراتيجياً في بناء اقتصاد مرن ومسؤول. تجربة المملكة العربية السعودية وبنك التنمية الاجتماعية توضح كيف يمكن دمج مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
- تبني مبادئ الاستدامة يعزز التوازن بين النمو الاقتصادي، رفاه المجتمع، وحماية البيئة، وهو ما انعكس في رؤية 2030 التي جعلت الشفافية والاقتصاد الأخضر أولويات وطنية.
- المملكة حققت قفزة نوعية في هذا المجال؛ إذ ارتفعت نسبة الشركات المدرجة التي تنشر تقارير استدامة من 39% عام 2020 إلى 87% بحلول 2024.
- مبادرات السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر تستهدف تقليل مئات ملايين الأطنان من الانبعاثات، وتحفيز الاستثمار في الطاقة المتجددة والاقتصاد الدائري.
- بنك التنمية الاجتماعية يمثل نموذجاً عملياً، إذ موّل مشاريع بيئية وتنموية بأكثر من 150 مليون ريال، وأطلق حلولاً مثل محطات شحن كهربائية وبرامج للوعي البيئي.
- في الجانب الاجتماعي، قدم البنك أكثر من 119 مليار ريال لتمويل 3 ملايين مواطن، مع التركيز على الأسر، الزواج، والمطلقات، إضافة إلى برامج ادخارية مثل "زود".
- دعم المشاريع الصغيرة والريادية وصل إلى 21 مليار ريال، مع 40% من القروض موجهة لمشاريع تملكها نساء.
- في الحوكمة المؤسسية، طور البنك نظاماً رقمياً يرفع الشفافية، يسرّع الأتمتة، ويحسن الشمول المالي.
في وقت يتزايد فيه الحديث عن أهمية الاستراتيجيات في بيئة الأعمال، لا تزال نسبةٌ ضئيلة فقط من الشركات ترى أن ما تتبناه من خطط يرتقي إلى مستوى الجودة المطلوبة. غير أن الشركات الرائدة تُثبت يوماً بعد يوم، أن التميّز لا يتحقّق بصياغة الخطط وحدها، بل بالقدرة على تحويل الرؤية إلى واقع، والطموح إلى نتائج.
لطالما كان بناء استراتيجية فعّالة تحدياً معقداً يتطلّب اتخاذ قرارات مترابطة يصعب التراجع عنها، حتى في أوقات التقلبات الاقتصادية. وتزداد أهمية هذا النهج في ظلّ سعي الشركات إلى تحقيق نموّ طويل الأمد. وقد أظهرت نتائج استطلاع أجري عام 2010، شمل 2,000 مدير تنفيذي، أن 35% فقط أقروا بأن استراتيجيات شركاتهم اجتازت أربعة اختبارات أو أكثر من اختبارات ماكنزي العشرة لقياس جودة الاستراتيجية مقالة بعنوان "هل اختبرت استراتيجيتك مؤخراً؟"، بقلم كل من كريس برادلي، مارتن هيرت، وسفين سميت، صادرة عن مجلة ماكنزي الربعية، في 1 يناير/كانون الثاني 2011 (يُرجى الاطّلاع على العمود الجانبي: "الاختبارات العشرة للاستراتيجية: قيّم جودة استراتيجيتك").
مع تنامي غموض المشهد الاقتصادي العالمي، باتت عملية وضع الاستراتيجيات أكثر صعوبة وتشابكاً. فوفقاً لمؤشر عدم اليقين العالمي، تضاعف مستوى عدم اليقين العام منذ عام 1990، مع تكرار الأحداث المفاجئة وازدياد حدّتها في كل مرة (الشكل 1). كما تسهم مجموعة من العوامل في تفاقم التحديات، من بينها التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، والتوترات الجيوسياسية، وظهور نماذج تشغيلية وتجارية جديدة؛ ما يضع القادة الاستراتيجيين أمام مشهد متغير ومعقد، يتطلّب قرارات مرنة ورؤية واعية بطبيعة المتغيرات المتشابكة.
الاختبارات العشرة للاستراتيجية: قيّم جودة استراتيجيتك
تُشكّل الاختبارات العشرة للاستراتيجية إطاراً تحليلياً يستند إلى مجموعة من الأسئلة العميقة والهادفة، تم تصميمها لمساعدة الشركات على قياس قوة استراتيجياتها وكفاءتها. فهي لا تكتفي بتقييم الجودة فحسب، بل تكشف أيضاً عن الثغرات الخفية في صياغة القرارات وآليات التنفيذ. وتشمل هذه الأسئلة ما يلي:
1. هل ترى أن استراتيجيتك قادرة على قيادة الشركة نحو تحقيق النجاح...
...أم أنك تسير مع التيار؟
2. هل تستند استراتيجيتك إلى ميزة تنافسية حقيقية...
...أم أنك لا تزال غير دقيقٍ في تحديد مصادر العوائد والأرباح؟
3. هل تُحدّد استراتيجيتك بوضوح الأسواق المستهدفة وآليات المنافسة فيها...
...أم أنك تتحرك دون أولويات واضحة، مما يؤدي إلى تبديد الموارد؟
4. هل تأخذ استراتيجيتك بعين الاعتبار التغيرات السريعة والمفاجئة في السوق...
...أم أنها تفترض بقاء الوضع كما هو، ولا تتفاعل مع المتغيرات إلا بعد فوات الأوان؟
5. هل تطرح استراتيجيتك أفكاراً جديدة ونظرة استشرافية للمستقبل...
...أم أنها تستند إلى تحليلاتٍ تقليدية للبيانات المعتادة وتفضي إلى استنتاجات متوقعة؟
6. هل تتعامل مع حالات الغموض بوعيٍ ومرونة...
...أم أنك تتجاهلها وتسمح لها بشلّ قدرتك على اتخاذ القرار؟
7. هل تُوازن استراتيجيتك بين اتخاذ القرارات الحاسمة التي تتطلب التزاماً، وبين التعلّم والمرونة...
...أم أنها تركز كثيرًا على التخطيط دون إعطاء أهميةٍ للتطوير المستمر؟
8. هل قمت بدراسة البدائل المختلفة بعقلية منفتحة دون تحيّز...
...أم أن استراتيجيتك تأثّرت بالأحكام المُسبقة والتصورات غير الموضوعية؟
9. هل لديك الجرأة لاتخاذ قرارات مصيرية...
… أم أن معتقداتك القديمة لا تزال تُقيّد استراتيجيتك الجديدة؟
10. هل أسفرت استراتيجيتك عن إعادة توزيع فعلية للموارد وتنفيذ خطوات ملموسة على أرض الواقع...
...أم أنها ما تزال مجرّد نوايا وخطط لم تُترجم بعد إلى إجراءاتٍ ملموسة؟
ويمكن للمؤسسات الاستفادة من هذه الاختبارات في مختلف مراحل التخطيط الاستراتيجي؛ سواء قبل اعتماد الاستراتيجية - لتحديد المجالات التي تستدعي تركيزاً خاصاً واستثماراً إضافياً، وضمان تحقيق أعلى مستويات الجودة -، أو خلال مراحل التعديل والتطوير لمتابعة التقدّم وتعزيز الثقة في إمكانية تطبيق الاستراتيجية على أرض الواقع. وعلى نطاق أوسع، تُعدّ هذه الاختبارات أداةً فعّالة لدى الفِرق التنفيذية ومجالس الإدارة، ليس فقط لضمان جودة القرارات الاستراتيجية، بل أيضاً لإثراء النقاشات المعمّقة المستندة إلى معايير موضوعية، والتي يصعب تنظيمها في بيئاتٍ يغلب عليها الجمود المؤسسي أو الاعتبارات السياسية الداخلية.
قد أسهم هذا الغموض في تراجع ملحوظ في جودة الاستراتيجيات داخل المؤسسات. فقد كشف استطلاع أُجري خلال عاميّ 2024 و2025 أن 21% فقط من التنفيذيين أكّدوا أن استراتيجيات شركاتهم اجتازت أربعة اختباراتٍ أو أكثر من اختبارات ماكنزي العشرة، وهو ما يُمثّل انخفاضاً بنسبة 40% مقارنة بما كانت عليه النسبة قبل نحو 15 عاماً. استطلاع "المنهجية الاستراتيجية" الذي أجرته ماكنزي وشمل آراء 416 من كبار التنفيذيين حول العالم، خلال الفترة من 12 ديسمبر/كانون الأول 2024 إلى 7 يناير/كانون الثاني 2025." ويعكس هذا التراجع حجم الضغوط المتزايدة التي يشعر بها خبراء التخطيط الاستراتيجي، إذ أقرّ 42% من المشاركين في استطلاع عام 2022 بعدم تَمكُّنهم من تحقيق الأثر الذي يطمحون إليه. استطلاع بعنوان "دور المُخطط الاستراتيجيّ"، والذي تم بمشاركة 247 متخصصاً من مختلف أنحاء العالم، في الفترة من 11 إلى 24 أكتوبر/تشرين الأول 2022. في المقابل، أصبح النجاح في التخطيط الاستراتيجي أكثر أهمية من أي وقت مضى، كما أصبحت كُلفته أعلى في حال الإخفاق.
فقد أظهر تحليل "منحنى القوة الربحية الاقتصادية"، المستند إلى بيانات آلاف الشركات العالمية الكبرى، أن الشركات الواقعة في الشريحة الخمسية العليا - أي أفضل 20% من هذه الشركات من حيث الأداء - تسيطر وحدها على نحو 90% من القيمة الاقتصادية على مستوى العالم. وفي المقابل، فإن الشركات الموجودة في الشريحة الخمسية الدنيا – الـ 20% الأضعف -، تتكبّد خسائر كبيرة، في حين لا تحقّق معظم الشركات الواقعة في المنتصف سوى أرباح محدودة، إن وُجدت. مقالة بعنوان "استراتيجيةٌ مواجهة التحديات"، بِقلم كل من كريس برادلي، مارتن هيرت، سفين سميت، صادرٌ عن مجلة ماكنزي الرُّبعية، في 13 فبراير/شباط 2018. (يُرجى الاطّلاع على العمود الجانبيّ "منحنى القوة الربحية الاقتصادية: دليلك للتفوّق"). ومع مرور الوقت، اتّسعت الفجوة بين الشركات الرابحة والخاسرة بشكلٍ لافت، إذ تضاعف الفارق بينهما خلال العقدين الماضيين (الشكل 2). المنصة الذكية "لتحليل القيمة" التابعة لشركة ماكنزي - وهي أداة تحليلية متقدّمة طوّرتها ماكنزي لتحليل الأداء المالي وقياس القيمة الاقتصادية الحقيقية للشركات مقارنة بمنافسيها. وبمعنى آخر، أصبحت مكافآت الاستراتيجية الناجحة أكبر من أي وقت مضى، فيما باتت تكاليف غياب الرؤية أو التعثّر الاستراتيجي أشد خطورة.
منحنى القوة الربحية الاقتصادية: دليلك للتفوّق
الربح الاقتصادي هو مؤشر رئيسي لقياس مدى نجاح الشركة في تحقيق فائضٍ بعد احتساب تكلفة الأموال المستثمرة. ويتم حساب هذا المؤشر بضرب رأس المال المستثمر في الفرق بين العائد الذي تحققه الشركة من استثماراتها ومتوسط تكلفة رأس المال. فإذا كانت النتيجة إيجابية، فهذا يشير إلى أن الشركة تتفوّق على منافسيها وتُحافظ على ميزتها التنافسية؛ أما إذا كانت سلبية، فهذه علامةٌ على أن الشركة تُلحق ضرراً بقيمتها.
وعند ترتيب الأرباح الاقتصادية لآلاف الشركات التي تتجاوز إيراداتها مليار دولار، من الأدنى إلى الأعلى، يتشكّل ما يُعرف بـ "منحنى القوة الربحية". ويتميّز هذا المنحنى - بغض النظر عن الفترة الزمنية التي يُمثّلها - بطرفٍ حاد الانحدار إلى الأعلى من جهة، وميلٍ واضحٍ إلى الأسفل من الجهة الأخرى، تتوسطهما منطقةٌ مستقرة نسبياً في المنتصف، عام 2000 هو سنة الأساس التي بُني عليها التحليل وبدأت منها المقارنة الزمنية.
ويكشف اتساع الفجوة بين الشركات الرابحة والخاسرة حقيقةً صارخة: فمن بين كل عشر شركاتٍ، تنجح واحدة فقط في تحقيق قفزةٍ نوعية ترتقي بها من منطقة الأداء المتوسط إلى قمة الربحية خلال عشر سنوات فقط. المنصة الذكية "لتحليل القيمة" التابعة لشركة ماكنزي. ومن خلال منصة "الذكاء القيمي" التابعة لماكنزي، نسلّط الضوء في هذه المقالة على الممارسات الفارقة التي ينتهجها قادة التخطيط الاستراتيجي في الشركات الرائدة لتحقيق هذا الإنجاز النادر، بدءاً من اتخاذ قراراتٍ جريئة تتحدى المألوف، وصولًا إلى تفعيل الاستراتيجية وتعبئة الطاقات التنظيمية، وتنفيذ الاستراتيجية بفعالية رغم التحديات والتقلبات.
في محاولة لفهم سرّ التميّز الاستراتيجي، بدأنا بطرح سؤالين محوريين: ما الذي تفعله الشركات التي تنجح في بلوغ قمة "منحنى القوة الربحية الاقتصادية" بشكل مختلف؟ وكيف تُصمّم وتُنفذ استراتيجياتها على أرض الواقع؟ وللإجابة عن هذين السؤالين، قمنا بتحليل ممارسات وقدرات التخطيط الاستراتيجي لدى أكثر من 400 شركة، وقسّمناها إلى مجموعتين وفقاً لحركتها على المنحنى خلال خمس سنوات: الفئة الأولى تضم الشركات التي أظهرت أداء تصاعدياً أو حافظت على استقرارها في قمة المنحنى، لتصبح ضمن الشريحة العليا من حيث الربحية، ونطلق عليها الشركات الرائدة في التخطيط الاستراتيجي. أما الفئة الثانية، فتشمل الشركات التي انحدر أداؤها إلى الشريحة الدُنيا نتيجة إخفاقات استراتيجية واضحة، وتُعرف بالشركات المتعثرة (الشكل 3).
ولفهم هذا الفارق بعمق، أجرينا مقارنة منهجية بين أداء المجموعتين في كيفية التعامل مع الاستراتيجية، وقيّمنا مدى تفوق كل شركة في الأنشطة المرتبطة بها. ولتوحيد أسس المقارنة، طوّرنا إطاراً يعتمد على تعريف الاستراتيجية من خلال 12 عنصراً أساسياً، موزّعةٌ على ثلاث مراحل مترابطة: مرحلة التصميم، ثم التفعيل، وأخيراً التنفيذ (يُرجى الاطلاع على العمود الجانبي بعنوان "منهجية التخطيط الاستراتيجي: جسرٌ يصل بين الرؤية والتنفيذ").
تعتمد منهجية التخطيط الاستراتيجي على إطارٍ مكوَّن من سبع خطوات، طوّرته شركة "ماكنزي" مع تركيزٍ خاص على تصميم الاستراتيجية. ولمزيدٍ من التفاصيل، يُرجى الاطلاع على مقالة "إتقان الركائز الأساسية للاستراتيجية"، بقلم كل من كريس برادلي، أنغوس داوسون، أنطوان مونتارد، والمنشورة في مجلة "ماكنزي الرُّبعية" بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2013. وقد شكّلت هذه المنهجية إطاراً موحّداً لمقارنة الشركات بشكلٍ دقيق، من خلال تقييم مدى امتلاكها لمجموعةٍ من القدرات الجوهرية التي تُعد الركائز الأساسية لهذه المراحل الثلاث.
منهجية التخطيط الاستراتيجي: جسرٌ يصل بين الرؤية والتنفيذ
يُشبّه المفكّر الاستراتيجي الراحل "كولين إس. غراي" الاستراتيجية بجسرٍ يربط بين الطموحات الكبرى والتنفيذ العملي. فالاستراتيجية الفعّالة لا تقتصر على رسم الاتجاه، بل تقوم على توافقٍ واضح حول الأولويات، وتوحيد الجهود نحو تحقيق الأهداف. ومن هذا المنطلق، طوّرت ماكنزي إطارًا متكاملًا يتألف من 12 ركيزةً أساسية، تغطّي مراحل تصميم الاستراتيجية، وتفعيلها، وتنفيذها. وتكمن قوة هذه الركائز في كونها لغةً مشتركةً تساعد القادة على تنفيذ استراتيجياتهم بواقعية، بعيدًا عن الشعارات أو الخطط النظرية.
وتكشف النتائج السابقة واقعاً لا يحظى بكثيرٍ من الاهتمام في أغلب النقاشات الاستراتيجية؛ فبالرغم من أن البيانات تؤكد أهمية اتخاذ قراراتٍ واضحة وتنفيذها بشكلٍ جيد، إلا أن ما يُميز الشركات الرائدة في التخطيط الاستراتيجي عن نظيراتها المتعثّرة هو قدرتها على تفعيل استراتيجيتها بكفاءة - وهي المرحلة الحاسمة التي تتحول فيها الخيارات الاستراتيجية من مجرد تصوّراتٍ مكتوبة إلى واقعٍ مؤسسي ملموس يعكس جاهزية الفرق التنفيذية ويُعزز فرص النجاح (الشكل 4).
أظهر التحليل المُتعمّق تفوُّق الشركات الرائدة في التخطيط الاستراتيجي على نظيراتها المتعثرة في كافة الركائز الـ 12 الأساسية التي يقوم عليها العمل الاستراتيجي (الشكل 5). إلا أن هذا التفوّق يبدو أكثر وضوحًا في بعض الجوانب الحيوية التي تُعتبر المفتاح الحقيقي لنجاح الاستراتيجية على أرض الواقع.
تصميم الاستراتيجية: حجر الأساس لبقية المراحل
يُظهِر قادة التخطيط الاستراتيجي في الشركات الرائدة تفوّقاً لافتاً على نظرائهم المتعثرين في جانبين جوهريين خلال مرحلة تصميم الاستراتيجية. يتمثل الأول في قدرتهم على توحيد رؤية فِرق القيادة حول الأولويات الاستراتيجية، من خلال بناء فهم مشترك للتحديات التي تواجه الشركة. فكثيراً ما ينشغل بعض القادة بالسعي لاعتماد خططهم الخاصة، بدلاً من الانخراط في نقاشٍ جماعي يهدف إلى رسم المسار الأنسب للمؤسسة ككل. وهنا تبرز أهمية التفاعل البنّاء داخل فِرق العمل، حيث يسهم في تأسيس قاعدة معرفية مشتركة تُسهّل فهم التحديات وتفتح المجال لحوار فعّال حول أفضل السبل للتعامل معها.
كما يُعدّ تحليل الاتجاهات المستقبلية المؤثرة جزءاً أساسياً من عملية بناء الفهم المشترك. إذ تتميّز الشركات الرائدة بقدرتها على رصد هذه التحولات والتفاعل معها بمرونةٍ وذكاء. وقد شدّد جيف بيزوس، مؤسس أمازون، في رسالته إلى المساهمين عام 2016، على أهمية هذا النهج، مؤكّداً أن "التبنّي السريع للتوجهات الخارجية" يُعدّ من الركائز الأربع الأساسية لتجنّب الاضطرابات المفاجئة في الأسواق، أو السقوط في فخّ الركود الذاتي؛ وهي الحالة التي تُصيب بعض الشركات نتيجة ثقتها المفرطة واعتمادها على النجاحات السابقة، مما يؤدي إلى توقّفها عن الابتكار وتجاهل التغيرات المتسارعة من حولها. "رسالة أمازون السنوية للمساهمين لعام 2016"، الصادرة في 17 أبريل/نيسان 2017. وقد لخّص "بيزوس" هذه الرؤية قائلًا: "إذا قاومت هذه التوجهات، فأنت على الأرجح تقاوم المستقبل، أما إذا تبنيتها، فستمنحك دفعةً قويةً إلى الأمام".
أما العنصر الثاني الذي يُميّز الشركات الرائدة في مرحلة تصميم الاستراتيجية هو التزامها باتخاذ قراراتٍ جريئة، حتى في أوقات الغموض وعدم اليقين. ويتطلّب هذا النوع من الخيارات شجاعةً على مختلف مستويات القيادة، بدءاً من الرئيس التنفيذي، مروراً بالإدارة التنفيذية، وصولًا إلى مجلس الإدارة. فعلى سبيل المثال، يؤمن "أليكو دانغوتي"، الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة مجموعة "دانغوتي" – أكبر مجموعة أعمالٍ في غرب إفريقيا – بأن الجرأة هي حجر الأساس لنجاح القيادة مقالة تحليلية بعنوان "دروس في القيادة من روّاد التغيير في إفريقيا"، كتبها كل من موتسا تشيرونجا، جورج ديسفو، آتشا ليكي، ونشرتها مجلة ماكنزي الربعية بتاريخ 10 يناير/كانون الثاني 2019 وتقوم فلسفته على مبدأ: "اجعل رؤيتك واسعة، وطموحك مرتفع، وحقق ما يبدو مستحيلًا".
وفي السياق ذاته، تُعتبر الاستراتيجية القوية بمثابة خارطة طريقٍ توجه الشركة نحو خلق قيمةٍ مستدامة، من خلال إدارة الموارد وتخصيصها بشكلٍ فعّال. ولهذا السبب، غالباً ما تتميّز الشركات الرائدة بقدرتها على صياغة رواياتٍ استراتيجية تعبّر بوضوح عن رؤيتها وطموحاتها. وتبرز أهمية هذه الروايات في الطريقة التي تُقدّم بها الشركة نفسها للمستثمرين، عبر ما يُعرَف بـ "قصة السهم" - وهي روايةٌ استثمارية تشرح مقوّمات النمو ومصادر الثقة في أداء الشركة المستقبلي-. وتشكل هذه القصة أساساً قوياً يدعم الانتقال من مرحلة التصميم إلى مرحلة التفعيل الاستراتيجي.
تفعيل الاستراتيجية: بناء الجسر للانتقال من التخطيط إلى التنفيذ
بعد الانتهاء من تصميم الاستراتيجية، تأتي خطوة تفعيلها، وهي الحلقة المفصلية التي تربط بين صياغة القرارات وتنفيذها على أرض الواقع، كما تُحقّق من خلالها الشركات الرائدة أبرز ميزاتها التنافسية. ويعد أول عناصر النجاح في هذه المرحلة التأكد من اختيار أصحاب الكفاءات، ومنحهم الصلاحيات الكاملة، وتوفير الدعم اللازم لهم للمشاركة في القرارات الاستراتيجية بشكل فعّال. وقد أظهرت هذه الشركات تفوّقاً ملحوظاً في تحميل القادة مسؤوليات واضحة، من خلال وضع أهداف دقيقة وربطها بحوافز مباشرة، بما يضمن تحريك الاستراتيجية نحو التنفيذ الفعلي. ولعل أبرز مثالٍ على ذلك هو النهج الذي تتبعه شركة "إنفيديا"، التي تُسند إلى كل مشروع استراتيجي كبير قائداً مخصصاً يُعرف بـ "قائد المهمة أو المشروع"، ويتم اختياره بناء على الكفاءة فقط، بغضّ النظر عن المسمى الوظيفي أو الدرجة الإدارية.
ولكي تؤتي الاستراتيجية ثمارها، يجب أن يعمل على تنفيذها الأشخاص المناسبون. فالشركات الرائدة تولي اهتماماً كبيراً بتعيين أصحاب الكفاءات في المناصب التي تُحدث أثراً استراتيجياً، بغض النظر عن مكانتهم داخل الهيكل التنظيمي، وتحرص على منحهم الصلاحيات الكاملة لقيادة الاستراتيجية والعمل على تحقيقها. وفي هذا السياق، أثبتت دراسةٌ شملت أكثر من 1,600 مدير تنفيذي، أجرتها شركة سيمنز بالتعاون مع جامعة غوتينغن، أن الوحدات التي يشعر قادتها بتمكينٍ حقيقي لتنفيذ استراتيجياتهم تتفوّق في الأداء على غيرها. تقرير مشترك صادر عن شركة سيمنز وجامعة غوتينغن، بعنوان "تمكين الأفراد: رؤى حول تنفيذ الاستراتيجية في العصر الرقمي"، تم إصداره في عام 2021.
أما العنصر الثاني من مرحلة التفعيل، فيتمثل في تحويل الاستراتيجية إلى مجموعة من المبادرات التفصيلية، وهو المجال الذي يظهر فيه دور القادة الاستراتيجيين بشكل لافت. فبدلًا من الاكتفاء بالتوجّهات العامة، يعمل هؤلاء القادة على تفكيك الاستراتيجية إلى خطوات ملموسة، وتحديد أولويات التنفيذ بدقة. كما يضطلعون بدور محوري في إعادة توجيه الموارد بما يضمن توافقها مع التوجهات الاستراتيجية، مع الحرص على دمج هذه التوجهات ضمن الخطط التشغيلية والميزانيات بشكل فعّال. ومن خلال هذا النهج، ينجح القادة في سدّ ما يُعرف بـ"فجوة المعرفة والتطبيق"، مقالة تحليلية بعنوان "فجوة المعرفة والتطبيق"، بِقلم جيفري فِيفر، صادرة ضمن سلسلة "رؤى من كلية ستانفورد للأعمال"، بتاريخ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1999. وهو المفهوم الذي أطلقه البروفيسور جيفري فِيفر من جامعة ستانفورد، والذي يُشير إلى أهمية توافق القرارات قصيرة المدى مع الرؤية طويلة المدى، وتجنّب عودة المدراء تدريجياً إلى أنماط العمل المعتادة. ويعتمد نجاح هذه المرحلة إلى حدٍ كبير، على وجود نموذج تشغيلي مرن ومصمّم بعناية، مما يؤكد أهمية مراعاة متطلبات التفعيل المستقبلية منذ لحظة تصميم الاستراتيجية.
وتُظهر نتائج البحث أن مرحلة التفعيل تُشكّل الركيزة الأساسية لنجاح الاستراتيجية. فمهما كانت الاستراتيجية مصممة بعناية، فإن فعاليتها الحقيقية لا تظهر إلا عندما يتم تطبيقها داخل المؤسسة، وتصبح جزءاً من ثقافتها وأنظمتها التشغيلية. وهو ما أكّده خبير السياسات الخارجية والعسكرية، والمفكر الاستراتيجي الراحل أندرو مارشال، قائلًا: " لا يمكن لاستراتيجيتك أن تؤتي ثمارها في السوق، ما لم تنجح أولًا داخل مؤسستك. حلقة حوارية مع الدكتور توماس ج. ماهنكن، بعنوان "التقييم الصافي كأداة استراتيجية"، تناولت فكر ورؤية أندرو مارشال، ضمن حلقات برنامج "حديث في الاستراتيجية"، تمت إذاعتها بتاريخ 14 مارس/آذار 2023.
تنفيذ الاستراتيجية: تحقيق الإنجازات المستدامة
على الرغم من أن تصميم الاستراتيجية وتفعيلها يوفّران الأساس للنجاح، فإن التنفيذ يبقى هو العامل الحاسم الذي يُحوّل هذا الأساس إلى نتائج واقعية. وفي هذه المرحلة، يبرز دور القادة الاستراتيجيين وقدرتهم على إدارة الأداء؛ فهم لا يكتفون بمراقبة التقدّم، بل يتدخلون بشكلٍ فعال لإزالة العوائق التي تعرقل التنفيذ، ويقدّمون الدعم المستمر للفرق المسؤولة عنه. ويُعدّ بنك "DBS" في سنغافورة خير مثالٍ على ذلك، حيث أعاد صياغة منظومة إدارته للأداء لتتماشى مع استراتيجيته الطموحة للتحول الرقمي، من خلال توافق بطاقة الأداء المتوازن للبنك -وهي أداة لإدارة وقياس الأداء - مع أهدافه الاستراتيجية بشكلٍ مباشر، بالإضافة إلى استحداث مؤشرٍ جديد لقياس التقدّم في تحقيق الاستراتيجية الرقمية. مقالة بعنوان "إعادة تعريف إدارة الأداء في بنك DBS"، كتبها كلٌّ من ديفيد كيرون و باربرا سبيندل، ونُشرت في 26 مارس/آذار 2019، ضمن تعاون مشترك بين ماكنزي ومجلة "إدارة الأعمال" الصادرة عن كلية سلون للإدارة، التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
ولا تكتفي الشركات الرائدة في التخطيط الاستراتيجي بتنفيذ الخطط كما هي، بل تتميّز بمرونتها في اختبار استراتيجياتها، ورغبتها في التعلّم المستمر وتعديل المسار عند الحاجة. فقد تلجأ مثلًا إلى زيادة الاستثمار في مبادرةٍ استراتيجيةٍ واعدة، أو تبدأ مبكرًا في إعادة تصميم الاستراتيجية بالكامل استعداداً للبحث عن فرص جديدة للنمو، دون انتظار تراجعٍ أو تباطؤ في الأداء الحالي. إن هذا النهج يتطلب وجود مبررات واضحة وموثّقة لكل قرار تم اتخاذه خلال مرحلة التصميم، وهو ما قام به أحد الرؤساء التنفيذيين داخل شركته، عندما ألزم الفريق القيادي بتقديم شرحٍ واضح للأسس التي تستند إليها قراراتهم أمام مجلس الإدارة، ما ساعد في كشف التباينات في وجهات النظر وتجاوزها، ووضع أساسٍ يساعد على مراجعة الاستراتيجية وتحديثها بشكل دوري كل ستة أشهر.
ورغم تفوّق هذه الشركات في كل عناصر المنهجية الاستراتيجية، فإن نقاط قوتها تختلف من حالةٍ لأخرى بحسب طبيعة التحديات التي تواجهها، وهو ما يمنحها ميزة تنافسية حقيقية في عالم مليء بالتقلبات والضبابية.
لم يقتصر التحليل على تقييم قدرات الشركات الـ 400 في مجال التخطيط الاستراتيجي، بل قمنا أيضاً بدراسة مدى استجابة هذه الشركات لحالة عدم اليقين (يُرجى الاطّلاع على العمود الجانبيّ: "الاستراتيجية في ظلّ عدم اليقين: كيف نفهم المستقبل ونُخطّط له؟"). وقد أكدت النتائج أهمية القدرات الاستراتيجية كمنظومةٍ مترابطة، قادرة على التكيّف مع مختلف التحديات. فلا تنجح الشركات الرائدة بقوة أدائها العام فحسب، وإنما بقدرتها على تكييف ما تمتلكه من قدراتٍ استراتيجية، بما يتماشى مع مستوى التعقيد والغموض المحيط بها (الشكل 6).
ففي البيئة الاقتصادية المستقرة والخالية من الغموض، تميل الشركات الرائدة في التخطيط الاستراتيجي إلى اتخاذ خطواتٍ جريئة تُولّد لها قيمة مضافة. فهي إمّا أن تكتشف تحولات مفاجئة في السوق أو تسعى لخلقها بنفسها، وتُوظّف إمكاناتها السوقية وقدراتها الابتكارية لإعادة تشكيل قواعد المنافسة، وفتح آفاق جديدة للنمو. وكلما ازداد استقرار السوق، زادت جرأة هذه الشركات في تحرّكاتها، حتى تتمكن من زعزعة مواقع المنافسين القدامى والصعود على "منحنى القوة الربحية الاقتصادية".
ويمكن للجمع بين اكتشاف أو إحداث نقاط التحوّل في السوق، والاستفادة منها عبر خطواتٍ جريئة، أن يُوفّر للشركات ميزة تنافسية طويلة الأمد. فقد اعتمدت وول مارت هذا النهج من خلال استثمارها بشكلٍ كبير في أتمتة سلاسل التوريد لتقليل التكاليف، فيما اختارت ديزني توسيع حضورها العالمي عبر الاستحواذ على أبرز العلامات التجارية في مجال المحتوى العائلي. وتمثّل كلٌّ من هاتين الخطوتين نموذجًا لاستراتيجياتٍ استباقية تهدف إلى تجاوز المنافسين، والتفوق عليهم في أوقات الاستقرار.
غير أن إحداث تغيير في فترات الاستقرار يتطلّب قناعةً راسخةً بالاستراتيجية المتبعة. ففي حال أخطأت الشركات في تقييم قدراتها الحقيقية أو مزاياها التنافسية، فإنها قد تواجه ضعفاً مزدوجاً: فمن جهة، تتردّد في اتخاذ خطواتٍ جريئة، ومن جهة أخرى، تفقد القيادة عزيمتها لمواجهة التحديات.
أمّا في أوقات التقلبات، حيث تكثر المفاجآت وتتشابك الفرص مع المخاطر، فإن نهج الشركات الرائدة في التخطيط الاستراتيجي يتغيّر بشكل لافت. فبدلاً من التركيز الحصري على المبادرات الجريئة، يمنح القادة الأولوية لتوحيد الرؤية حول التحديات المحورية، واتخاذ القرارات الحاسمة بسرعة ووضوح، ليتفوّقوا على منافسيهم في توقيت التنفيذ ودقته. وقد برز هذا النموذج في شركة مايكروسوفت، حين استطاع رئيسها التنفيذي، ساتيا ناديلا، أن يوحد مجلس الإدارة والموظفين حول هدف واحد، وهو التحوّل لتصبح مايكروسوفت شركة سحابية أولاً، متجاوزاً إرث الاعتماد على إيرادات نظام التشغيل ويندوز.
في مثل هذه الأوضاع المضطربة، يصبح تعديل الاستراتيجية ضرورة لا خياراً. غير أن هذا التعديل لا يُمكن أن يتم بفعالية، ما لم تكن الاستراتيجية الأصلية قد استندت إلى أسس واضحة وتحليلات دقيقة. ويُعد تحوّل شركة بيست باي، بقيادة الرئيس التنفيذي هوبرت جولي، نموذجاً بارزاً لهذا النهج التكيّفي؛ إذ اعتمد هوبرت ما يُعرف بـ "نظرية الدراجة"، التي تقول إنّه من الصعب توجيه الدراجة وهي ساكنة، بينما يمكن تصحيح مسارها بسهولةٍ بمجرد انطلاقها. مقابلة أجرتها ماكنزي مع هوبرت جولي، رئيس مجلس الإدارة التنفيذي لشركة بيست باي، تحت عنوان "التحوّل والمرونة"، والتي تمت نشرها بتاريخ 25 يونيو/حزيران 2020. فالأولوية دائماً للبدء والتعلّم أثناء التقدّم، بدلاً من التردّد والجمود. وهنا تظهر الإشكالية الكبرى حين تُهمل الشركات مراجعة فرضياتها الاستراتيجية، فتعجز عن التمييز بين مشكلات التنفيذ وخلل الاستراتيجية نفسها، مما يقودها إلى الاستمرار في ضخ الاستثمارات في اتجاهات خاطئة، بدلاً من التكيّف بذكاء مع المتغيرات المحيطة.
الاستراتيجية في ظل عدم اليقين: كيف نفهم المستقبل ونُخطّط له؟
لضمان التحرك الاستراتيجي بفعاليةٍ في بيئات الأعمال المتقلبة، لا يُمكن الركون إلى أدوات التنبؤ التقليدية وحدها، إذ قد تُصبح هذه الأدوات مضللة، خصوصاً عندما ينطوي المستقبل على قدر كبير من الغموض. وهنا تبرز أهمية تطوير فهمٍ مشتركٍ لمستويات عدم اليقين المتبقي الأربعة (أي ما يتبقّى من الغموض بعد إتمام عملية التحليل الشامل)، إذ يُمكّن هذا الإطار الفِرق من تقييم طبيعة الغموض التي تواجهها بشكلٍ منهجي، ويفتح المجال أمام مناقشاتٍ استراتيجية أكثر عمقًا وفعالية.
وتؤكّد هذه النتائج، في مجملها، أن لكل ظرفٍ استراتيجي أدواته الخاصة، إذ تتطلّب البيئات المختلفة نماذج عملٍ متباينة. ومع ذلك، نادراً ما تدرك الشركات أهمية تكييف نهجها مع المتغيّرات؛ فالكثير منها يواصل الاعتماد على أساليب تقليدية، بدلاً من العمل على بناء القدرات الاستراتيجية المناسبة. وعندما تواجه المؤسسات التي اعتادت العمل في أسواقٍ مستقرة بعض التحولات أو الاضطرابات المفاجئة، تجد نفسها مضطرةً إلى تطوير مهاراتٍ جديدة تمكّنها من التكيّف مع الواقع المستجد، والحفاظ على قدرتها التنافسية.
حتى تتمكّن أي مؤسسة من الارتقاء إلى مصافّ الشركات الرائدة في مجال التخطيط الاستراتيجي، عليها أن تبدأ بوضع معايير واضحة ومشتركة لتعريف الاستراتيجية الجيدة. فقد أظهرت نتائج استطلاعنا أن الشركات المتعثّرة في هذا المجال غالبًا ما تفتقر إلى هذا التوافق الداخلي حول مفهوم الاستراتيجية عالية الجودة، إذ تبيّن أن احتمال غياب هذا التوافق لديها يبلغ نحو ضعف ما هو عليه لدى الشركات الرائدة. وهو ما يتماشى مع تجاربنا الميدانية، التي كشفت عن قصور واضح في فهم مصطلح "الاستراتيجية" في كثير من الأحيان، مما يُفضي إلى نقاشات غير مثمرة وقرارات غير مدروسة.
ولمواجهة هذا التحدي، بدأت بعض الشركات الرائدة بتطوير أساليب خاصة لترسيخ التفكير الاستراتيجي داخل فِرقها. فعلى سبيل المثال، تعتمد شركة أمازون على تصنيف قراراتها إلى نوعين: النوع الأول، "قرارات حاسمة لا يمكن التراجع عنها"، والثاني، "قرارات أقل تأثيراً يمكن تعديلها لاحقًا"، وتُخصّص لكل نوعٍ مستوى مختلف من الاهتمام الإداري. "رسالة أمازون للمساهمين لعام 2015"،والتي تم نشرها في عام 2016، إلى جانب مقالة لشانا ليبويتز بعنوان: "سر نجاح أمازون (ملحوظة: السر يكمن في فهم نوع القرار المتّخذ)"، نُشرت بتاريخ 9 أكتوبر/تشرين الأول 2017 في مجلة Inc الأميركية المتخصّصة في ريادة الأعمال ونمو الشركات". كما تعتمد الشركة أسلوب "المذكرة المكوّنة من ست صفحات"، والذي يشجّع على التفكير الواضح والعميق قبل اتخاذ أي قرار. "رسالة أمازون للمساهمين لعام 2017"، والتي تم نشرها في عام 2018. أما شركة ميركادو ليبره، فتتبع نظاماً يمنح قادتها حرية اتخاذ 90% من القرارات بشكلٍ مستقل، مع الاحتفاظ بـ 10% من القرارات الحسّاسة والمصيرية ليتم اتخاذ قرار جماعي بشأنها. تقرير "الأثر المؤسسي" الصادر عن شركة ميركادو ليبره لعام 2024، والذي نُشر في عام 2025، ويُسلّط الضوء على أبرز إنجازات الشركة خلال 25 عاماً من مسيرتها الريادية في دفع عجلة التحول الاقتصادي والتنموي في أميركا اللاتينية." وقد ساهم هذا الوضوح والفهم المشترك في تسريع وتيرة اتخاذ القرارات؛ إذ تُظهر البيانات أن الشركات الرائدة في الاستراتيجية تتفوّق على الشركات المتعثّرة بمعدل 1.7 مرة، من حيث القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية تتسم بالسرعة والاستمرارية.
ولا يقتصر التميّز في وضع الاستراتيجيات على مستوى الرؤية أو التنفيذ فحسب، بل يشمل الجانب المالي أيضًا. فقد أظهرت البيانات أن الشركات الرائدة في التخطيط الاستراتيجي أكثر احتمالاً بمرتين من الشركات المتعثرة لتخصيص ميزانياتٍ تهدف إلى تطوير قدراتها الاستراتيجية، كما أنها تحظى بدعم كامل من فريق القيادة التنفيذية للاستثمار في تلك القدرات، بنسبة تزيد على الثُلث. ويزداد هذا التوجّه أهميةً في ظلّ التغيرات المفاجئة في الأسواق، والدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في صياغة الاستراتيجيات.
كما يبرز دور الرئيس التنفيذي كمحرّك أساسي لأي توجه استراتيجي داخل المؤسسة. وقد أظهرت تجربة رولز- رويس تحت قيادة توفان إرغينبيلغيتش مدى تأثير هذا الدور؛ فعندما واجهت الشركة تحديات كبيرة في الأداء، أطلق إرغينبيلغيتش مراجعةً استراتيجية ركّزت على اتخاذ قراراتٍ واضحة ومحددة. شهدت هذه المراجعة مشاركة نحو 500 قائد من داخل الشركة، رغم وصفها بأنها كانت "فوضوية" بطبيعتها. إلا أن إرغينبيلغيتش كان يؤمن بأن اتخاذ القرارات بمشاركة الجميع يضمن التوافق الكامل عند الانتهاء من صياغة الاستراتيجية. حوار أجرته ماكنزي مع توفان إرغينبيلغيتش الرئيس التنفيذي لشركة رولز-رويس، تحت عنوان "إعادة ابتكار رولز-رويس"، بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2024. ولم تقتصر نتائج هذه المراجعة على تغيير المسار الاستراتيجي للشركة، بل ساهمت أيضاً في ترسيخ فهمٍ مشترك لما تعنيه الاستراتيجية عالية الجودة، وما تتطلبه من التزام جماعي.
عدّ الاستراتيجية أداة محورية لاتخاذ قرارات صعبة في بيئات تتسم بالغموض والتقلّب، بهدف تحقيق نتائج استثنائية. ومع ذلك، تُظهر البيانات والتجارب أن وضوح الرؤية لا يكفي وحده لتحقيق النجاح. فالشركات المتفوّقة في هذا المجال لا تقتصر على صياغة تطلّعات طموحة، بل تمتلك القدرات اللازمة لترجمتها إلى واقع ملموس، من خلال تبنّي منهجية متكاملة ترتكز على 12 ركيزة أساسية، تبدأ بتصميم الاستراتيجية، مروراً بتفعيلها، وانتهاء بتنفيذها بكفاءة. وفي عالم يتسارع فيه التغيير وتشتد فيه المنافسة، يبقى إتقان التخطيط الاستراتيجي هو الطريق الأمثل لبناء مستقبل مستدام بثقة ووضوح.