تفخر الولايات المتحدة بأنها رائدة في كل ما هو رقمي، وهي محقة في ذلك نظراً لأن الابتكارات والمبتكرين الأميركيين لطالما كان لهم دور الصدارة. ولكن وفقاً لبحوث أجراها "مركز ماكنزي العالمي" (McKinsey Global Institute) مؤخراً، يوظّف الاقتصاد الأميركي 18% فقط من إمكاناته الرقمية؛ كما أن نوع مكاسب الإنتاجية التي من المفترض أن تمكّنها التقنيات الرقمية لا يظهر في المشهد العام للاقتصاد. فما السبب؟
السبب هو ظهور الفجوة الرقمية في أميركا. تقريباً كل فرد وشركة وقطاع في الاقتصاد الأميركي يمتلك إمكانية الوصول إلى التقنيات الرقمية؛ أي أنه من غير المحتمل وجود شركات "لا تملك" بعد هذه التقنيات. إلا أن الفجوة الآخذة في الاتساع توجد بين الشركات والقطاعات التي تستخدم إمكاناتها الرقمية "التي تمتلكها بوفرة" أكثر بكثير من البقية (التي تمتلكها فقط)، بهدف الابتكار وإحداث تحولات في طريقة عملها.
أعددنا مؤشراً للرقمنة، باستخدام عشرات من المؤشرات، لمعرفة أين وكيف تكوّن الشركات الأصول الرقمية وتوسع نطاق استخدامها للتقنيات الرقمية وتبني قوة عاملة أكثر رقمية. فإن نسبة الـ 18% مبنية على مقارنة كيف يقيس الاقتصاد بأكمله أداء المالكين الأذكياء. فهؤلاء المالكون الأذكياء غير ناجحين في تخطي الصعوبات فحسب، ولكن أيضاً يتسببون في حدوث فجوة واسعة ومستمرة. على مستوى القطاعات، يتضح من خلال المؤشر، أن الرائدة منها زادت من كثافتها الرقمية بأربعة أضعاف منذ عام 1997، محققة أعلى مكاسب في العقد الماضي، على عكس القطاعات الأخرى التي تحاول بالكاد الحفاظ على وتيرتها.
وعلى مستوى القطاعات أيضاً، يُعد قطاع التكنولوجيا عامراً بالطبع بالمالكين الأذكياء، تماماً مثل قطاعات الإعلام والخدمات المالية والخدمات المهنية التي تسبق بقية قطاعات الاقتصاد. وهذا لا يعني أن كل شركة تقنية ينبغي أن تكون رائدة؛ فهناك أيضاً العديد من الشركات التقنية المتخلفة عن الركب. وبوجه عام تضم القطاعات المتقاعسة: القطاع الحكومي والرعاية الصحية والخدمات المحلية والضيافة والتشييد، ولكن مجدداً حتى داخل تلك القطاعات هناك شركات متألقة ومبتكِرة، بل وفي بعض الحالات تزعزع الشركات الأخرى.
تمتلك تلك الفجوات التي على صعيد كل من القطاعات والشركات أهمية اقتصادية أوسع نطاقاً؛ نظراً لأن الأجزاء الأكثر تقدماً من الناحية الرقمية في الاقتصاد رفعت إنتاجيتها وزادت هامش الربح بمقدار ضعفين إلى ثلاثة أضعاف المعدل المتوسط في القطاعات الأخرى على مدار العشرين عاماً الماضية. والقطاعات المتأخرة في تطبيق المعايير الرقمية تسجّل أيضاً أداءً منخفضاً في الإنتاجية، وبما أن تلك القطاعات تضم بعض الشركات ذات الثقل فيما يتعلق بالمساهمة في الناتج المحلي الإجمالي والعمالة، فهذا يشكل عبئاً على الاقتصاد في إطاره الأوسع. وفقاً لحساباتنا، إذا استفادت الولايات المتحدة من الإمكانات الكاملة للرقمنة، فبدلاً من 18% فحسب، قد يساوي ذلك على الأقل 2 تريليون دولار في الاقتصاد.
ولا تعد الفوارق الرقمية السبب الوحيد وراء عدم ظهور مكاسب الإنتاجية في الاقتصاد الأوسع نطاقاً، فالأسباب الكاملة محل نقاش حاد فيما بين خبراء الاقتصاد. ولكن لأنَّ الإمكانات الرقمية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالابتكار والنمو والإنتاجية وحتى زعزعة نماذج الأعمال، فإن سد تلك الفجوة الرقمية يجب أن يكون على رأس جدول أعمال قادة القطاعين العام والخاص.
لنكن واضحين، لا تتعلق الفجوة الرقمية الجديدة بالإحجام عن الاستثمار في المعدات والنُظم، فغالبية القطاعات والشركات تنفق الآن بكثافة على تقنية المعلومات. ولكنها تتعلق بدرجة استخدام التقنيات الرقمية. فالتعاون الرقمي بين الشركات ومورديها وزبائنها أكبر بخمسة أضعاف في القطاعات الرائدة منه في القطاعات الأخرى. وهذا التعاون قد يتراوح ما بين خدمات الدفع الرقمي والإعلانات إلى التفاعلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأسواق الافتراضية. بل وتزداد الفجوة اتساعاً عندما يتعلق الأمر برقمنة مكان العمل؛ ففي القطاعات الرائدة، تساعد الوسائل الرقمية والمحمولة العاملين على أداء وظائفهم بمزيد من الكفاءة، كما أن المهام الروتينية تتم رقمنتها في الوقت نفسه الذي تنشأ فيه الوظائف الرقمية الجديدة.
على مستوى الشركات، يحتل المالكون الأذكياء مركز الصدارة من ناحية المنتجات والخدمات، وابتكار نماذج الأعمال ونمو الإيرادات، وغالباً ما يكونون هم المزعزعون لقطاعاتهم والقطاعات الأخرى أيضاً. وعادة ما يَصحب الابتكارات الممكّنة رقمياً آثار شبكية، وهو ما يؤدي بدوره إلى تحقيق النتائج وفقاً لثقافة "الفائز يجني معظم الثمار"؛ فتتمتع الشركات الأفضل أداء بهوامش ربح أعلى بكثير من بقية الشركات، وعدد محدود من الشركات التي تحتل مركز الصدارة يسبق الشركات الأخرى جميعها بمراحل. أجرى زملاؤنا استبياناً في العام (2018) شمل 150 شركة كبرى لقياس استراتيجيتها وإمكاناتها وثقافتها الرقمية، وقد وجدوا أن هناك فجوة كبيرة تفصل القادة الرقميين، أفضل 10% أو نحو ذلك، عن بقية القادة. فالشركات الكبرى القائمة، على وجه التحديد، تكافح للحاق بالركب؛ لأن الشركات الرقمية المنافسة الأكثر نشاطاً تقدم منتجات وخدمات بطرق أكثر سرعة وأقل تكلفة. ولكن من الجدير بالذكر أنه لا ينتمي جميع المالكين الأذكياء إلى الشركات الناشئة التي أُسست لتكون شركات رقمية من البداية. فقد نجحتْ بعض الشركات العريقة، مثل شركة "جنرال إلكتريك" (GE) و"نايكي" (Nike)، في تجديد عملياتها واستراتيجياتها لتصبح من الشركات الرائدة رقمياً.
وفيما يتعلق بالاقتصاد ككل، يُعد تشجيع المالكين الرقميين على سد الفجوة التي بينهم وبين المالكين الأذكياء، مسألة تندرج ضمن جدول أعمال السياسات. فهذا اللحاق بركب النمو قد يكون مصدراً هاماً للقوة الدافعة في وقت يفتقر فيه الاقتصاد العالمي إلى الدينامية.
هناك ما يدعو إلى التفاؤل. فقد رُكزت الابتكارات الرقمية إلى حد كبير على المستهلكين في السنوات الأخيرة، والآن بدأت البيانات الكبيرة وإنترنت الأشياء في تغيير الطريقة التي تُنتَج بها الأشياء فعلياً. كما أن الشركات التي تنتمي لقطاع الصناعة وقطاع الطاقة والقطاعات التقليدية الأخرى، دأبت على الاستثمار بهدف رقمنة أصولها المادية، وهو ما يجعلنا أكثر قرباً من عصر السيارات المتصلة بالإنترنت والمباني الذكية وحقول النفط الذكية.
الابتكارات التي تنطلق من الولايات المتحدة سرعان ما يتم تبنّيها في جميع أنحاء العالم، كما أن الديناميات القائمة على ثقافة "الفائز يجني معظم الثمار" والمقترنة بالرقمنة آخذة في الظهور في دول أخرى. والآن سوف تراقب بقية دول العالم الولايات المتحدة لترى ما إذا كانت ستستطيع توجيه براعتها التقنية صوب الموجة المقبلة من التطورات في مجال الإنتاجية محولةً بذلك ريادتها الرقمية إلى تحولات اقتصادية أوسع نطاقاً.