كيف نصل إلى قرار الشراء الاستراتيجي في المملكة العربية السعودية؟

4 دقائق

لو عرفت يوماً أنك بنفس المبلغ الذي اشتريت به سيارة مصنوعة لذوي الدخل المحدود في الصين كان بإمكانك شراء سيارة مرسيدس بنز الألمانية فماذا كنت ستقول؟

قد تصدق وقد لا تصدق، ولكن الحقيقة التي لا تقبل الشك هي أننا في حياتنا اليومية كثيراً ما ندفع أكثر لنحصل على الأقل. في الوقت الذي كان من الواجب فيه أن ندفع الأقل لنحصل على الأكثر (More Value for Money). هذا هو ببساطة أحد التعاريف لمفهوم الكفاءة (Efficiency) في استخدام الموارد.

منذ سنوات عديدة، تحدث في العديد من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية وقليل من الدول الأفريقية تغييرات كبيرة وأخرى متوسطة أو صغيرة لإعادة بناء أنظمتها الصحية بما يحقق هدف منظمة الصحة العالمية بالتغطية الصحية الشاملة للجميع (Universal Health Coverage)، وأنا على يقين أنّ في تجارب تلك الدول ما يمكننا الاستفادة منه هنا في المملكة العربية السعودية في رحلة إعادة بناء النظام الصحي السعودي وفق رؤية (2030). أتحدث هنا تحديداً عن مفهوم الشراء الاستراتيجي (Strategic Purchasing) للرعاية الصحية.

غانا كمثال

في دولة غانا على سبيل المثال، يجري العمل بالتعاون مع منظمات دولية غير حكومية (NGOs) على ابتكار أساليب جديدة لشراء خدمات الرعاية الصحية بطريقة أذكى. الكلام هنا عن كيف تشتري وزارة الصحة أو صندوق التأمين الحكومي هناك الرعاية الصحية من مزوديها مثل المستشفيات والمختبرات وغيرها. في إحدى المرات، رفعت إحدى المستشفيات في غانا مطالبة لإحدى شركات التأمين الصحي هناك بدفع قيمة 50 قفازاً طبياً جراحياً تم استخدامها أثناء عملية قيصرية لإحدى السيدات. قامت مجموعة من وزارة الصحة في غانا بالتحقق من عدد القفازات الجراحية المعقمة التي يتم استهلاكها عادة في عمليات الولادة القيصرية ووجدت بعد مقابلات شخصية مع عدد من الجراحين والممرضات أنّ العدد أقل من ذلك بكثير. تم الاتفاق في ما بعد على متوسط عدد القفازات التي تستخدم في مثل تلك العمليات وتم التعميم على المستشفيات بأنّ التأمين لن يدفع أكثر من تلك القيمة مقابل القفازات!

هذا مثال بسيط على مفهوم الشراء الاستراتيجي أو الشراء الذكي لخدمات الرعاية الصحية. المطلوب ببساطة هو أن يكون المشتري نشيطاً أكثر وذكياً أكثر ولا يكتفي بقبول الأسعار التي تعرض عليه كيفما اتفق، من باب أن هذا هو السعر المتعارف عليه (Historical Pricing) أو من باب أنه لا يوجد لديه من يستطيع جمع بعض المعلومات قبل الموافقة على السعر المعروض أو رفضه. مجرد ذهاب المشتري إلى أكثر من بائع للحصول على السعر الأقل هو نوع من الشراء الذكي.

ولى زمن الشراء السلبي

ومن الأمور المهمة لضمان نجاح التحول الصحي هنا في المملكة. البدء منذ الآن في الحديث عن كيف سيشتري التأمين الصحي الرعاية الصحية للمواطنين من مقدميها؟ وحتى لا نفاجأ بأنّ الفاتورة المطلوبة هي نفس الفاتورة الحالية أو حتى أعلى منها، فإنه لا مناص من البدء في تعلم أساليب الشراء الاستراتيجي والتدرب عليه والنظر في تجارب الدول الناجحة في هذا المجال. لقد ولّى زمن الشراء السلبي (Passive Purchasing) للرعاية الصحية أو هكذا يجب. عندما تحول وزارة الصحة مثلاً ميزانية سنوية محددة سلفاً لإحدى مستشفياتها فهذا مثال على شراء سلبي لأننا لا نعرف كم هي كمية الهدر في إنفاق تلك الميزانية، كما لا نعرف نتائج العمليات الجراحية التي أجراها الجراحون في هذه المستشفى مقارنة بغيرها من المستشفيات، ولا نعرف مدى رضا الناس عن الخدمات التي تقدمها والتي استحقت بموجبها هذه الميزانية. ونفس الحال عندما تدفع شركة التأمين فواتير مطالبات إحدى المستشفيات من دون النظر في جودة الرعاية الصحية التي قدمتها (Quality) فهذا مثال آخر على شراء سلبي. كيف يمكن أن ندفع لمستشفى (أ) مقابل إجراءه 10 عمليات استبدال مفصل الركبة نفس المبلغ الذي ندفعه لمستشفى (ب) مقابل إجراءه نفس العدد من العمليات إذا علمنا أنّ 4 حالات من المستشفى (أ) انتهت بالفشل، بينما نجحت جميع عمليات استبدال مفصل الركبة في المستشفى (ب)؟ لا بدّ إذاً من إعطاء الجهة التي ستشتري الرعاية الصحية للمواطنين صلاحية التعاقد الانتقائي (Selective Contracting) بحيث يتم التعاقد فقط مع مزودي الخدمة الذين يحققون معايير جودة محددة يتم الاتفاق عليها مقدماً (Prospectively). يفعل برنامج التأمين الحكومي الأميركي ميديكير (Medicare) هذا الأمر بنجاح منذ سنوات مع المستشفيات والمراكز الطبية التي يتعامل معها لحالات معينة (مراكز زراعة القلب على سبيل المثال). تشترط الحكومة الأميركية للتعامل مع المستشفيات التي تدعي قدرتها على إجراء عمليات زراعة القلب بنجاح شرطين رئيسيين: الأول: هو إجراؤها عدداً معيناً من عمليات زراعة القلب في كل سنة (Minimum Threshold). والثاني: هو نسب النجاة لدى مرضاها بعد إجراء هذه العمليات (Survival Rates). هذا ما يسمى شراء الخدمة المبني على الجودة (Quality-Based Purchasing) وهو أحد أنواع الشراء الاستراتيجي.

كيف نستفيد من التجارب!

من المهم ملاحظة أنّ مفهوم الشراء الاستراتيجي لا يزال في مهده حتى في أوروبا وأميركا، ولكن هذا لا يمنع أن تكون المملكة سباقة في هذا المجال بحيث تصدّر تجربتها لاحقاً إلى الدول الأخرى، ولا يمنع كذلك أن ننظر في تجارب الدول منخفضة الدخل مثل غانا أو السنغال أو نيكاراجوا. هذه الأخيرة قامت بتجربة جيدة لتحفيز المستشفيات على تقديم رعاية صحية أعلى جودة من خلال دفع مبالغ إضافية على الفواتير (Bonuses) للمستشفيات التي تحقق معايير معينة تم الاتفاق عليها مسبقاً (أهمها كانت نسب العدوى ومعدل رضا المرضى). وفي ولاية ويسكونسن الأميركية اشترطت إحدى شركات التأمين الصحي الكبيرة في العام 2005 على المستشفيات المتعاملة معها نشر نتائج الرعاية الصحية التي تقدمها على الإنترنت حتى يطلع عليها الناس (مثل نسب العدوى ونسب الوفيات غير المتوقعة ونسب العمليات التي تمت في المكان الخطأ أو المريض الخطأ وغيرها) كشرط لدفع مطالباتها المالية، وخصمت نسبة معينة من تلك المطالبات على المستشفيات التي حققت نتائج متدنية. كان الرد القانوني لشركة التأمين هو أنّ المريض العادي لا يعرف عن هذه الأمور على الرغم من أهميتها، وأنه من واجب الشركة كمشتري للخدمة (Purchaser) جعل هذه المؤشرات متاحة للمرضى بشكل علني. هذه إحدى الحلول لمشكلة عدم تماثل المعلومات (Asymmetry of Information) بين المشتري (المريض في هذه الحالة) والبائع (المستشفى).

إنّ الحلول الموجودة سلفاً، وتلك التي يمكن ابتكارها لا نهاية لها، ونحن في القطاع الصحي نستطيع بلا شك فعل الكثير في هذا المجال، وخاصة بوجود إرادة سياسية قوية نحو هذا التوجه، ووجود تأييد كبير لهذا النمط من التفكير لدى الجهات المنظمة وعلى رأسها وزارة الصحة. المطلوب فقط هو التفكير في بعض الحلول السريعة والبسيطة وتجربتها أولاً وبالتدريج، ثم تعميم الأصلح منها على المستوى الوطني وهكذا. هل سيكون هناك مقاومة؟ بالتأكيد نعم، لأن الأمر يتعلق بمصالح مالية متعارضة ومتأصلة وبأساليب شراء متجذرة ومراكز قوى.

حان الوقت لإيقاف هذا الهدر

  • التسوق العشوائي موجود حتى ضمن السوق الصحي، فعندما تشتري الحكومات الرعاية الصحية بطريقة غير مقننة ينتهي بها المطاف إلى محفظة مال فارغة!
  • من الجيد التفكير في مكافأة مقدمي الرعاية الصحية الذين يركزون على تقديم خدمات منخفضة التكلفة مقابل نتائج جيدة و"معاقبة" أولئك الذين يصرّون على تقديم خدمات عالية التكلفة منخفضة القيمة.
  • إنّ من شأن الشراء الاستراتيجي خلق مؤيدين كثر ومعارضين كثر أيضاً، ولكن هذا لا يهم. المهم هو المريض في النهاية. إذا كان بالإمكان الحصول على سيارة مرسيدس أو كاديلاك بنفس السعر أو حتى أقل، لماذا لا يزال البعض مصراً على بيعنا سيارة صينية الصنع؟!

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي