ملخص: يتحكّم عدد من العوامل في نجاح الشركات أو فشلها عند محاولتها دخول سوق جديدة، وعلى الرغم من ذلك، فإن المنتجات نفسها تشكّل مكوناً رئيسياً في هذه التجربة. وبالحديث عن السوق الصينية على وجه الخصوص، فقد أقدمت أغلبية الشركات المتعددة الجنسيات على ضخ استثمارات ضخمة لتوطين عروض منتجاتها حتى تلائم توقعات العملاء في هذه السوق. ومع ذلك، فقد أثبت أحدث الأبحاث التي تستند إلى سلسلة من أكثر من 100 مقابلة شخصية مع المسؤولين التنفيذيين والمدراء أن محاولات التوطين لا تحقق النتائج المنشودة دائماً، وقد تأتي بنتائج عكسية خطرة في بعض الأحيان. ولكن لماذا؟ تتمثل فكرة البيع الرئيسية للكثير من العلامات التجارية بالسوق الصينية في عنصر الشعور بالغربة، وبالتالي، فإن استراتيجيات المُنتَج التي تشهد التخلي عن العناصر الأجنبية والاستعاضة عنها بميزات مألوفة غالباً ما تؤدي إلى التخلي عن الميزة التي تجذب العملاء إلى المُنتَج في الأساس. علاوة على ذلك، في حين أن استراتيجية التوطين قد تثبت فاعليتها في بعض الحالات، فمن الأهمية بمكان التفكير ملياً في مكوّنات العمل التي ستحقق أكبر استفادة ممكنة من التوطين، سواء تمثلت هذه المكوّنات في ميزة معينة للمُنتَج أو سياسة خدمة العملاء أو حتى هيكل المبيعات، إلى جانب التعرُّف على المكوّنات التي ستكون أكثر قابلية للتسويق أو أكثر فاعلية من حيث التكلفة، ومن ثم تحافظ عليها كما هي دون تغيير.
مع نمو قاعدة المستهلكين في الصين وتحولها إلى مصدر أكثر إغراءً للعلامات التجارية العالمية، شرعت أغلبية الشركات العالمية في الاستثمار بكثافة في توطين منتجاتها لتلبية احتياجات السوق الصينية حيث تشتهر مطاعم "كنتاكي" (كيه إف سي) في الصين ببيع حليب الصويا وأعواد العجين المقلية وعصيدة الأرز (الكونجي)، وطرحت "فولكس فاغن" سلسلة كاملة من الموديلات الجديدة المصممة خصيصاً للسوق الصينية، وأضافت مقاهي "ستاربكس" عدة أنواع من الشاي إلى قائمة مشروباتها لتقديم خدمة أفضل لعملائها الصينيين الذين لا يُحبّذ الكثير منهم شرب القهوة. تتفق هذه الاستراتيجية مع المنطق، وغالباً ما تكون فاعلة، ولكنها قد تأتي بنتائج عكسية خطرة في بعض الأحيان.
وقد أجرينا سلسلة من المقابلات الشخصية المُعمَّقة مع أكثر من 100 مسؤول تنفيذي ومدير في شركات متعددة الجنسيات تعمل في جميع أنحاء العالم، وذلك للتعرُّف على عوامل نجاح توطين المنتجات أو فشلها. ومما لا شك فيه أن هناك الكثير من العوامل التي تسهم في نجاح العلامات التجارية أو فشلها عند محاولتها اقتحام أسواق جديدة، بما في ذلك مستوى التزام الشركة بروح المبادرة وهيكل حوكمتها وهيكلها القيادي واستراتيجيتها، وغيرها من العوامل، لكن المُنتَج نفسه يشكّل في حد ذاته عنصراً أساسياً، وقد توصل بحثنا إلى أن المنتجات لا تستفيد كلها من المنهج التقليدي للتوطين. إذ لا تحتاج بعض المنتجات إلى توطين على الإطلاق، ويُفضَّل عرض الكثير من المنتجات الأخرى من خلال استراتيجية توطين جزئية، بحيث تظل بعض مكوّنات المنتج أو العمليات التجارية ذات الصلة كما هي دون تغيير، في المقابل يتم تكييف بعض العناصر المختارة بما يتناسب مع بيئة السوق الجديدة.
قد تأتي محاولات توطين بعض العلامات التجارية بنتائج عكسية خطرة
عندما يتعلق الأمر على وجه التحديد بالمنتجات التي يعتبر عنصر الشعور بالغربة بالنسبة لها عامل جذب رئيسياً لعلامتها التجارية، فإن التخلص من العناصر الأجنبية لصالح تكثيف الخيارات المحلية المألوفة يمكن أن يؤدي دون قصد إلى افتقاد المُنتَج لجاذبيته. فعلى سبيل المثال: دشّنت شركة "نورويجان كروز لاين" (Norwegian Cruise Line)، إحدى كبرى الشركات العالمية للرحلات البحرية، عام 2017 سفينة جديدة باسم "جوي" (Joy) وخصصتها للعمل في السوق الصينية وحرصت الشركة على إضفاء العديد من السمات الصينية الواضحة على السفينة، بما في ذلك التصميم الداخلي الصيني التقليدي والمطاعم والمقاهي الصينية وغرف الكاراوكي وألعاب الماهجونغ، بل وعملت على إنشاء حديقة "تاي شي" على سطح السفينة. رصدت الشركة الكثير من الاستثمارات لخلق بيئة محلية تشبه البيئة الصينية إلى حدٍّ بعيد، لكن العائد على هذا الاستثمار كان مخيباً للآمال لدرجة أن الشركة قررت وقف خط سير السفينة في الصين بعد أقل من عامين.
فماذا حدث؟ كان هناك عدد من العوامل المؤثرة، ولكن إحدى المشكلات الرئيسية تمثلت في أن السياح الصينيين الذين أرادوا دفع أموالهم مقابل الاستمتاع برحلة بحرية دولية كانوا يبحثون عن خوض تجربة دولية مميزة. وكانت الزخارف ذات الطراز الصيني في السفينة "جوي" مألوفة جداً لهؤلاء العملاء الذين رأوا الإبحار ترفاً يقتصر على النمط الغربي. لقد أرادوا خوض تجارب غير مألوفة، مثل احتساء شاي العصاري على النمط البريطاني الذي تقدمه شركة "كرنفال" لخطوط الرحلات البحرية المنافسة، حيث يقدم النُّدل أصحاب القفازات البيضاء الشاي والكعك بأسلوب غربي صِرف. وهكذا، تسبب سوء تقدير شركة "نورويجان كروز لاين" في إنفاقها 50 مليون دولار لإزالة كافة المكوّنات ذات الصبغة الصينية من سفينتها، فضلاً عن تكاليف الفرصة البديلة المرتبطة بعجزها عن استغلال ميزة تنافسية في سوق رئيسية محتملة.
علاوة على ذلك، فإن إضفاء الطابع المحلي على المنتجات الفاخرة لا يقلل فقط من جاذبيتها باعتبارها منتجات أجنبية صِرفة، ولكن محاولات التكيف الخرقاء في السياق الصيني قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى مزيد من الإضرار بالعلامة التجارية. فعندما طرحت العلامة التجارية الإيطالية للملابس الرجالية الفاخرة "زينيا" (Zegna) تشكيلة جديدة في الصين، على سبيل المثال، حاولت الشركة جذب المشترين المحليين من خلال لصق الرمز الصيني بشكل بارز "寿"، ويعني "طول العمر"، على كل منتجاتها. لكن المصممين لم يكونوا يعرفون أن هذا الرمز لا يُلصَق عادة في الصين إلا على أكفان الموتى، وهكذا اعتبر المواطنون الصينيون أن القمصان التي تحمل هذا الرمز نذير شؤم يبشرهم بالموت. ومن ثم سرعان ما اختفت هذه المنتجات ولم تعمِّر طويلاً.
يعد تكييف إجراءات العمل أهم من توطين المنتجات بالنسبة لبعض العلامات التجارية
على الرغم من هذا الحادث المؤسف، لا تزال "زينيا" تُعتبر نموذجاً يُحتذَى به للنجاح في اقتحام السوق الصينية حيث تمثل متاجرها الثمانون في الصين ثلث عائدات الشركة العالمية. فما سر نجاحها، إذن؟ يتمثل العامل الرئيسي في حفاظ "زينيا" على وضع معايير موحَّدة لمنتجاتها من أجل تحقيق وفورات الحجم (وتجنب إحراج نفسها بخطوط الملابس المترجمة ترجمةً سيئة)، وتوجيه جهود التوطين بالشركة إلى التركيز على خدمة العملاء بطريقة تلائم العملاء الصينيين. فعلى سبيل المثال: يحرص الموظفون في متاجر "زينيا" الصينية على تقديم هدايا للعملاء خلال المهرجانات الصينية التقليدية، حتى إن الشركة تقدّم لعملائها المهمين تذاكر حضور حفل السجادة الحمراء بمهرجان "كان" السينمائي، وهو إحدى أكثر الفعاليات الغربية شهرة بين صفوف هؤلاء العملاء. كما ينتقل موظفو "زينيا" أيضاً إلى العملاء الذين لا يقطنون بالقرب من متاجر الشركة لأخذ قياساتهم شخصياً وتسليمهم الحُلَل يداً بيد، ما يوفر تجربة تتوافق مع توقعات الكثير من المشترين الصينيين لمعاملة كبار الشخصيات.
وبالمثل، عندما دخلت شركة الإعلانات الهندية "إن موبي" (InMobi) الصين لأول مرة، واجهت صعوبة في جذب العملاء الصينيين. ولكن الشركة لم تمس المُنتَج من قريب أو بعيد، وقررت الالتزام بعروضها العالمية الموحَّدة، وعملت بدلاً من ذلك بكل بساطة على تغيير سياستها في تعويضات المبيعات من نظام الراتب الثابت إلى استحداث نظام يقوم على العمولة. وبعد عام واحد فقط، حققت عائدات الشركة في الصين قفزة هائلة.
كان من الممكن لهاتين الشركتين في كلتا الحالتين أن تحاولا توطين منتجاتهما الفعلية، لكن تعديل إجراءات العمل، مثل هياكل المبيعات أو سياسات خدمة العملاء كان أسرع وأكثر فاعلية من حيث التكلفة، ولم تخاطرا بالتخلي عن الأشياء التي يحبذها العملاء في هذه المنتجات الدولية.
ينجح التوطين في بعض الأحيان، ولكن يجب أن يتم ذلك بشكل استراتيجي
لا يعني هذا بالطبع الإيحاء ضمنياً بأن محاولات التوطين ليست فكرة جيدة في كل الأحوال. وهناك أمثلة لا حصر لها لعلامات تجارية نجحت في تكييف منتجاتها الدولية بطريقة تلبي الأذواق المحلية في الأسواق الجديدة. غير أن بحثنا يشير إلى أن المنهج الاستراتيجي أمرٌ بالغ الأهمية لضمان تنفيذ التوطين بطريقة فاعلة.
إذ تختلف تفضيلات العملاء الصينيين وسلوكاتهم في بعض الأحيان عن الأسواق الأخرى بما يكفي لضرورة جعل المُنتَج نفسه مناسباً للسوق الصينية. ويجب على الشركات في هذه الحالة أن تفكر ملياً في العناصر التي يجب توطينها، وتحدّد العناصر التي يجب الحفاظ عليها كما هي بحيث تظل موحَّدة في جميع أنحاء العالم. ولتحقيق هذه الغاية، يجب على الشركات أن تطرح على نفسها سؤالين رئيسيين:
- ما مدى اختلاف احتياجات العملاء الصينيين عن احتياجات العملاء في الأسواق الأخرى، فيما يخص كل عنصر من عناصر المُنتَج؟
- ما مقدار التكلفة والجهد اللذين يتطلبهما التوطين، فيما يخص كل عنصر من عناصر المُنتَج؟
الأهم من ذلك، أن مجرد تحديد اختلاف حقيقي في احتياجات العملاء أو توقعاتهم لا يعني أن جهود التوطين الشاملة لها ما يبررها. فعلى سبيل المثال: كانت شركة "لينكد إن" مُحقّة حينما قررت عام 2015 أن بيئة عمل الإنترنت الصيني تختلف كلياً وجزئياً عن بيئة العمل في بقية العالم. فقد كانت شركات "بايدو" و"علي بابا" و"تينسنت" تهيمن على السوق، وكان المستهلكون الصينيون أكثر قدرة على الوصول إلى الإنترنت عبر الأجهزة المحمولة مقارنة بالمستهلكين في أي دولة أخرى، وهكذا كان سلوكهم يختلف في نواحٍ مهمة عن سلوك غيرهم في الدول الأخرى، مثل استخدام أرقام الهواتف بدلاً من عناوين البريد الإلكتروني للتسجيل في التطبيقات الإلكترونية.
واستجابةً لهذه الاختلافات الحقيقية في تفضيلات المستخدمين وسلوكهم، قررت "لينكد إن" طرح تطبيق مستقل جديد تماماً، يسمى "شيتو" (Chitu)، بعد عام واحد فقط من طرح مُنتَج "لينكد إن" الرائد في الصين. كانت القدرة الوظيفية للتطبيق مشابهة لوظائف "لينكد إن"، لكنها تضمنت ميزات تلبي احتياجات المستهلكين الصينيين، مثل تسجيل رقم الهاتف المحمول والمسح الضوئي لـ "رمز الاستجابة السريعة" (QR-code) من أجل إضافة اتصالات جديدة.
وللأسف، فنظراً لأن "شيتو" كان مُنتَجاً جديداً تماماً، فقد تم عزل عملائه عن شبكة "لينكد إن" العالمية التي كانت الميزة الأهم التي تميز "لينكد إن" عن منافسيها الصينيين. كان المشروع أيضاً مكلفاً للغاية لأن "شيتو" لم يُعِد استخدام أيٍّ من العناصر الفنية الحالية لشبكة "لينكد إن" واستلزم تشكيل فريق تطوير منفصل تماماً. نتيجة لذلك، فإن خسارة الشبكة العالمية مثلت تغييراً كبيراً نحو الأسوأ، وكانت التكاليف المرتفعة بمثابة المسمار الأخير في نعش المشروع، ما أدى إلى إيقاف تطبيق "شيتو" الإلكتروني بعد 4 سنوات من طرحه، على الرغم من أن بعض التعديلات التي أدخلتها "لينكد إن" على المُنتَج كانت تلبي في الواقع احتياجات العملاء المحليين بشكل أفضل.
ومع نمو السوق الصينية فإن أغلبية الشركات العالمية على استعداد لبذل جهود مكثفة لتخصيص عروضها بما يناسب المستهلك الصيني. لكن، وعلى الرغم من أن محاولات التوطين قد تكون فاعلة في بعض الحالات، فإن هذه النوايا الحسنة قد تأتي بنتائج عكسية خطرة في حالات أخرى، ما يؤدي إلى فقدان الشركات لأهم عناصر علاماتها التجارية التي جعلتها جذابة في المقام الأول (بالإضافة إلى إهدار الكثير من الوقت والمال). ولتحقيق النجاح في سوق جديدة، يجب على العلامات التجارية أن تفكر ملياً في عناصر منتجاتها وإجراءاتها العملية التي ستحقق أكبر استفادة ممكنة من دمج الخصائص المحلية، كما يجب عليها أن تفكر ملياً في المواقف التي يُفضَّل أن تحافظ فيها على معاييرها العالمية.