يصبح المجتمع الذي نعيش فيه اليوم ذا طابع شخصي أكثر يوماً بعد يوم. فنحن نختار قوائم تشغيل فردية بدلاً من الاستماع إلى محطات الراديو، ونختار بأنفسنا مصادر الأخبار وبرامج التلفاز الخاصة بنا، وتحتوي سياراتنا على مقاعد وأجهزة توجيه دقيق قابلة للتعديل بحسب رغباتنا الشخصية اللامتناهية. إنّ كل شي معدّ خصيصاً لنا.
ومن ثمّ لدينا التوصيف الوظيفي.
في هذه الأيام، غالباً ما يبدأ التوظيف في مناصب معظم هيكليات الشركات بقائمة رسمية من المهام، أي التوصيف الموحد للوظيفة، وتعيين شخص يمكنه إقناعنا بأنه سينفذ جميع المهام المتوقعة لهذه الوظيفة.
ومع مرور الوقت يجد الموظفون أنفسهم محتجزين في هذه الأدوار المحددة مسبقاً، وإن لم تتوفر الفرص للنمو يفقدون انسجامهم مع العمل وينفصلون عنه. وعلى الرغم من أنّ القادة المهتمين يحاولون معالجة هذه المشكلة بطرق عديدة، بما فيها تمرينات عمل الفريق والإرشاد والامتيازات ومساحات المكاتب المبتكرة والبرامج المحفزة، إلا أنّ حلولهم تفتقد فكرة محورية على الرغم من بساطتها: وهي أنّ الموظفين ينسجمون مع الوظائف الممتعة.
لقد وجدت من خلال خبرتي في قيادة الفرق وإدارتها على مدى عقدين من الزمن أنّ إضفاء الطابع الشخصي على الوظائف، أي تكييف الوظائف مع الموظفين بدلاً من تكييف الموظفين معها، هو أحد أفضل الطرق لمضاعفة الانسجام.
يتم تكييف الوظيفة بالصورة الأمثل عندما يكون هناك نقاط انعطاف واضحة، أي عندما تتم إعاقة المسارات المهنية أثناء إعادة بناء هيكلية الشركة أو خلال فترة تعيين موظفين في مناصب شاغرة. كما وجدت أيضاً أنه ينجح أكثر مع الأفراد الذين يأتون بآفاق جديدة مبنية على عقلية النمو.
إذا كنت ترى أنّ أحد مرؤوسيك المباشرين يستحقّ تكييف وظيفته، أقترح أن تبدأ العملية بمحادثة مباشرة وموجهة. اطلب من هذا الموظف أن يصف نفسه ومسيرته المهنية، وحاول الاستماع إليه بانتباه. ما الذي يجيده على وجه الخصوص؟ ما الذي يحفّزه بشأن نجاحه المهني؟ ما هي المسؤوليات التي لم يكلّف بها؟ وما هي المسؤوليات التي يتفاداها أو لا يركز عليها؟ ما تبحث عنه هو كيفية تقاطع مهاراته (مهنياً) وشغفه (شخصياً) وقيمته (من منظور المؤسسة).
ولكي تنجح هذه المحادثات، يجب أن تكون لديك عقلية النمو أنت أيضاً. ما الذي يحبه زميلي ويبرع فيه؟ والأهمّ، هل يمكن إنشاء دور مخصص له يساعد على تسريع تقدمه الشخصي ويحقق الفائدة للمؤسسة في الوقت ذاته؟ هذه المحادثات ليست سهلة وتتطلب إرشاداً وتأملاً ذاتياً عميقاً.
لقد وجدت أنه عند إنشاء وظائف جديدة بحسب ما يتناسب مع الأفراد، يكون من الضروري التعامل مع كل حالة بناء على شخصية الموظف الذي تحاول مساعدته. بحسب خبرتي، عادة ما ينجح إنشاء الوظيفة عندما يتم تطبيقه على ثلاثة أنواع من الأشخاص: الشخص الإيثاري، والمفكر الكبير، والمبتكر. ويحتاج كلّ منهم طريقة مختلفة عن الآخر.
اجعل مساعدة الآخرين مسؤولية جوهرية للشخص الإيثاري
ستجد في كل مؤسسة بعض الموظفين الذين يقومون بنوع من الخدمات الإيثارية تجاه الغير. مثلاً، غالباً ما تخرج زميلتي منى، التي تعمل في العلاقات العامة، عن مسارها للترحيب بالزملاء الجدد وتوجيههم.
قد لا يحظى الأشخاص الإيثاريون، مثل منى، بسلطة رسمية، ولكنهم يحظون باحترام كبير بين زملائهم، وبالتالي يصبح لهم النفوذ الكبير.
يمكن أن يساعد القادة هؤلاء الموظفين عن طريق جعل نشاطاتهم "الجانبية" هذه جزءاً أساسياً من مسؤوليات وظائفهم. بعد أن أجريت محادثة مباشرة وموجهة مع منى، اتضح لي أنّ مهاراتها الفطرية في التواصل مع الآخرين وتمثيلهم وتسهيل أمورهم وتوجيههم يمكن أن تقدم قيمة كبيرة للشركة التي أطلقت للتو برنامجاً جديداً لتطوير القيادة. وفي هذه الحالة، تماشى شغف منى مع أهداف المؤسسة، لذلك، قمنا سوية برسم خارطة طريق لها كي تتعلم المزيد عن تطوير القيادة مع اكتساب مهارات تقديم الاستشارات المهنية في الوقت ذاته، وكل ذلك أثناء متابعتها لوظيفتها الحالية في العلاقات العامة.
حاول بناء الأهداف الواضحة للمفكر الكبير
على الرغم من أنّ جميع المؤسسات ترغب بوجود مفكرين كبار ضمن فريقها، إلا أنه من المعروف أنّ المفكرين الكبار يعانون دوماً من البنية التنظيمية التقليدية التي تقمع أفكارهم. فالمفكر الكبير هو شخص حالم وعادة ما يعاني من التفاصيل والمحادثات الجزئية الثانوية والسياسات التنظيمية والإجراءات وتدفق القرارات. وبما أنه مرشح بديهي لتكييف وظيفته، يجب على القادة تصميم أهداف واضحة له بالإضافة إلى شبكة أمان تفسح مجالاً للفشل.
كانت هذه حالة أماني التي دعوتها للانضمام إلى فريقي بعد أن خسرت منصبها جراء عملية إعادة ترتيب في المؤسسة. وبما أنني عملت معها على مشاريع أخرى سابقاً، كنت أعلم أنها شغوفة بالأفكار الجريئة. ولكن للأسف، اعتبر الكثيرون أفكارها بعيدة المنال وغير عملية أو غير صحيحة سياسياً لأنها وجدت نفسها في أدوار تكتيكية تقليدية. وبعد إجراء محادثة صريحة ومباشرة، أدركنا أنا وأماني أنّ شغفها ومهاراتها يتوافقون أكثر مع فكرة الغاية المؤسسية.
كان هذا مجالاً كبيراً نستكشفه، لذا كان السرّ هو إنشاء أهداف واضحة. وبما أنّ أماني كانت وحدها نوعاً ما، قمنا بإنشاء برنامج اتصال موسع بحثاً عن أشخاص لديهم العقلية ذاتها والشغف ذاته في أقسام مختلفة من الشركة، كالمبيعات، وتطوير المنتج والخدمات. ووجدنا أفكاراً جديدة باستمرار.
مررنا في البداية ببعض المعوقات والإخفاقات، ولكن مع مرور الوقت، لاقت الأفكار ترحيباً لدى العديد من الموظفين وبدؤوا يساهمون في المبادرة بما يتجاوز نطاق وظائفهم اليومية. ومع مرور الوقت شكّل الفريق شبكة غير رسمية قائمة على تحقيق الغاية من أجل الحفاظ على نموّ التعاون. اتسعت كلّ هذه الخطوات وتم الاعتراف بها عندما قررت الشركة جعل الغاية موضوعاً مركزياً لاستراتيجية علامتها التجارية. واليوم، تم الاعتراف بأماني وطلبها على أنها قائدة بجدارة.
حاول إنشاء مناصب جديدة للمبتكرين
إنّ الابتكار هو قلب التقدم النابض، ولكن مع تطور المؤسسات عبر الزمن، تصبح الوظائف ثابتة وجامدة، حتى التي تتطلب عقليات أكثر إبداعاً منها. وعند البحث عن موظفين في هذا المجال، يمكن للقادة إنشاء فرص جديدة للأشخاص عن طريق التعامل بمرونة مع المبتكرين عند مشاركتهم في تحديد أدوارهم التي تتماشى مع تصوراتهم المستقبلية المبتكرة.
غادرنا أحد أفراد فريقي مؤخراً ليستلم منصباً مختلفاً في الشركة. وعندما أجرينا مقابلات لإيجاد بديل له، وجدنا العديد من المرشحين الذين سعوا لمطابقة ما ورد في توصيف المنصب تماماً، ولم يكن هناك سوى عدد قليل جداً ممن كانت لديهم رؤية واضحة لما يمكن أن يكون شكل المنصب.
لم يكن جابر مطابقاً تماماً للمواصفات المكتوبة على الورق، ولكنه خلال المقابلة رسم رؤية جديدة مبتكرة مختلفة عن رؤيتنا السابقة. وفي النهاية أنشأنا منصباً جديداً مصمماً خصيصاً لتلك الرؤية، ومتناغماً في الوقت ذاته مع مسار الفريق وهدفه.
بالطبع، يجب ألا يتيح تشكيل الوظائف للموظفين أخذ أفضل المهمات ورفض الأخرى، أو الانفصال التام عن العمل ورفض جميع المهمات مثل "بارتلبي النساخ"، بطل القصة القصيرة الشهيرة للمؤلف هيرمان ميلفيل، الذي كان جوابه على كل طلب "أفضل ألا أقوم بذلك." هنا يأتي دور مهارة الإدارة في إنشاء مزيج من المسؤوليات ضمن الفريق يضمن تنفيذ كل المهمات، وتكييفها من دون النزول عند رغبة من يفضلون اللعب المنفرد.
من الواضح أنّ بعض الوظائف لا تسمح بتشكيلها بحسب الأشخاص. فمنصب يعمل على جزء معين من المعدات أو يمارس مهارة معينة لا يسمح بالكثير من الحرية. وربما كان هذا سبب سرعة انتقال هذا النوع من الوظائف إلى الذكاء الاصطناعي المتقدم واستخدام الآلات.
ولكن هناك ملايين الوظائف غير الثابتة، إلا أننا نتعامل معها على أنها ثابتة. يجب أن يقوم المدراء على جميع المستويات بضبط مهمّات الموظف الجديد بدقة بدلاً من تسليمه نفس المهمات التي كان سلفه يؤديها. وكما توصل إليه الأستاذ في جامعة وارتون، بيتر كابيللي، بشأن الاحتفاظ، فإنّ فن الإدارة الجديد مبني على التكييف وإضفاء الطابع الشخصي.
يواجه تكييف مكان العمل تحدياته الخاصة. وسيكون أسهل بكثير لو وضعنا جدولاً تنظيمياً وانتظرنا أن يملأ كلّ موظف جديد أحد خاناته. فإضافة عضو جديد في الفريق أمر مزعج جداً، وبالأخص إذا أدى ذلك إلى زيادة المهام والمسؤوليات على الأفراد الآخرين. لذلك، يجب عليك النظر إلى الصورة بأكملها عند تكييف الوظيفة، لأن الوظائف الممتعة للبعض قد لا تساعد على تحقيق الهدف الأكبر ببساطة، بسبب وجود عدم تطابق جوهري.
ولكن مع مرور الوقت، سيجعل تكييف الوظائف الفرق أكثر فعالية. إذ سيتيح للمدراء الذين يبحثون عن موظفين جدد منح الأولوية للموهبة والذكاء على الرغم من وجود بعض الفجوات في الخبرة. وأنا أعتقد أنّ استطلاعات الرأي التي تجريها شركة غالوب ستثبت أنّ تكييف الوظائف سيغير اتجاه الانسجام معها.