بحث: كيف تضفي صفة الاستدامة على السلع الفاخرة؟

7 دقائق
السلع الفاخرة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: ترتفع النداءات التي تطالب الشركات بصنع منتجات تلبي أعلى المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، وهو ما يوجب على شركات السلع الفاخرة إيجاد طريقة لإظهار أن منتجاتها لا تهدف إلى إبراز ثراء مَنْ يقتنونها أو الإيحاء برفعة مكانتهم الاجتماعية، كل ذلك مع الحفاظ في الوقت ذاته على هذه الخصال. وتثبت المقالة التي بين أيدينا إمكانية تحقيق هذه الغاية بأفضل الصور الممكنة من خلال التركيز على الأصالة عبر التزام هذه الشركات بتعامل موظفيها مع العملاء بطريقة تنم عن البراعة ومراعاة أدق التفاصيل الفنية. ويستعرض مؤلفو المقالة حالة شركة “هيرميس” (Hermès) الفرنسية للسلع الفاخرة كمثال على ذلك.

أشار استقصاء عالمي أجرته شركة “أكسنتشر استراتيجي” (Accenture Strategy) عام 2018 شمل 30,000 مستهلك في 35 دولة إلى أن نحو ثلثيهم (62%) ينجذبون إلى العلامات التجارية التي تراعي أعلى معايير القيم الأخلاقية. قد يمثل ذلك مشكلة للشركات العاملة في قطاع المنتجات الفاخرة، لأن الناس غالباً ما ينظرون إلى السلع الفاخرة باعتبارها نوعاً من الرفاهية المقيتة وقد تكون ضارة بالبيئة، خاصة إذا كانت تُغالي في التصميم الفني أو الزخارف.

وقد لا تفلح الأساليب التقليدية الرامية إلى تحسين الموقف الأخلاقي للشركة في تحقيق النجاح المرجو إذا ما تم تطبيقها في شركات العلامات التجارية الفاخرة، كاعتماد ممارسات العمل العادلة واستخدام الخامات المعاد تدويرها أو المواد العضوية، مثلاً. ويجب على خبراء التسويق مبدئياً توخي الحذر لإرسال الإشارات الصحيحة حول مراعاتهم للمعايير الصديقة للبيئة، وذلك لتجنب تفسير العملاء لرسائل الاستدامة على أنها محاولة ملتوية لغسيل سمعتها من خلال اتباع حيلة “التمويه الأخضر”. وقد أثبتت الأبحاث السابقة أيضاً أن المستهلكين قد يعطون تقييماً سلبياً للعلامات التجارية الفاخرة التي تنخرط في الأنشطة ذات الصلة بالمسؤولية الاجتماعية للشركات. وتوصلت نتائج دراسات أخرى إلى أن المستهلكين قد يتصورون أن المنتجات الفاخرة الصديقة للبيئة لا تملك رأس المال الاجتماعي الذي يرفع مكانة المستهلك بصورة تضاهي المنتجات الفاخرة غير المستدامة. علاوة على ذلك، فإن التركيز على البيئة لا يمنح العلامات التجارية الفاخرة حيزاً كافياً لتمييز نفسها عن العلامات التجارية غير الفاخرة التي لطالما كانت نشطة في مجال الاستدامة.

ونقترح استراتيجية قد تبدو غريبة بعض الشيء، ألا وهي التركيز على الأصالة. ونحن نستمد هذه التوصية من نتائج بحثنا الأخير الذي شمل أكثر من 1,900 عميل لمختلف فئات المنتجات الراقية (الساعات والعطور والأثاث الراقي)، وتعطينا نتائج هذا البحث صورة دقيقة حول كيفية استخدام عنصر الأصالة من جانب العلامات التجارية الفاخرة للتعبير عن أخلاقياتها، وأسباب استخدامها له.

ولنبدأ بإلقاء نظرة فاحصة على كيفية تدليل العلامات التجارية على مراعاتها لعنصر الأصالة قبل التعمق في نتائج دراساتنا.

نوعا الأصالة

يدرك المستهلكون أصالة العلامات التجارية والمنتجات بإحدى طريقتين: تكون أصيلة في نظرهم إذا كان بإمكانها الادعاء بأنها “أصلية وحقيقية”، أو إذا كانت تتطابق مع “شيء أصلي حقيقي”. ونستشف من هذا مجموعتين من الإشارات يمكن أن يستخدمهما خبراء التسويق للتدليل على الأصالة: الإشارات المرجعية والإشارات الرمزية.

الإشارات المرجعية على الأصالة.

يدلل خبراء التسويق هنا على أصالة المُنتَج من خلال ربطه بروابط مباشرة مع أصوله وصانعيه. فحينما تتم الإشارة إلى أن قطعة أثاث فاخرة قد صممها فنان إيطالي، وصنعها حرفيون محليون في قرية إيطالية، وأنها مصنوعة من الخشب والحرير الإيطاليين، فإن هذا يشير ضمنياً إلى أنها منتج إيطالي أصيل بمعنى الكلمة. ويعتمد مفهوم الأصالة هنا على معلومات موضوعية (مثل شهادات المنشأ أو جنسية المصمم).

الإشارات الرمزية على الأصالة.

يكون المُنتَج في هذا النموذج عبارة عن إصدار طبق الأصل أو نسخة مقلَّدة من مُنتَج سابق مع إدخال بعض التعديلات على المُنتَج المقلَّد؛ أي مُنتَج جديد يعتمد تصميمه على تصور الصانع للمواصفات المُميِّزة للمُنتَج الأصلي. بعبارة أخرى: إذا فتح صانع الأثاث الإيطالي فرعاً له في فرنسا، واستوحى المصممون والمُنتِجون الرؤية الإبداعية للفريق الإيطالي، فيمكن اعتبار منتجات هذا الفرع أصيلة إذا كانت العناصر الرئيسية للمزيج التسويقي تستحضر مواصفات المنتج الأصلي، كأن يكون شكل المنتجات المصنوعة في فرنسا أو لونها أو خاماتها تشبه تلك التي تميز المنتجات الإيطالية الأصلية.

وقد استنطقنا نتائج أول دراستين أجريناهما على نحو 500 مستهلك في الولايات المتحدة للتعرّف على أثر هذين النوعين من الإشارات في تصورات المستهلكين حول مدى أخلاقية المُنتَج. حيث عُرِض على المشاركين في الدراسة كرسي فاخر أو عطر راقٍ تم وصفه إما بأنه إصدار أصلي يمتلك شهادة منشأ رسمية (إشارة مرجعية) أو تم وصفه بأنه نسخة مستوحاة من العلامة التجارية نفسها التي نالت شهرة واسعة وأنه يأتي مصحوباً بكتيب رسمي للعلامة التجارية (إشارة رمزية).

وأظهرت التعليقات أن العلامة التجارية التي تنقل إلى جمهور المستهلكين رسالة تعبّر عن أصالتها بإشارات مرجعية ستدفعهم إلى الاعتقاد بأنها، أي هذه العلامة التجارية، أكثر أخلاقية من نظيرتها التي تعتمد على إشارات رمزية. ولا يمكن أن يُعزى هذا الاختلاف إلى “قوة” الأصالة المتصورة لأننا لاحظنا أيضاً أن الرسالتين لم تختلفا في مستوى الأصالة التي ادعت كلٌّ منهما إياها؛ إذ كان يُنظر إلى المنتجات ذات الإشارات الرمزية على أنها أصلية تماماً مثل تلك المنتجات ذات الإشارات المرجعية. فلماذا يُنظر إذاً إلى المنتجات التي تستخدم الإشارات المرجعية على أنها أكثر أخلاقية؟

الشغف هو كلمة السر

للإجابة عن هذا السؤال، أجرينا دراسات إضافية لبحثنا شملت أكثر من 700 مستهلك في سياق العطور الراقية أيضاً. ولاحظنا أن المشاركين في هذه الدراسات يعتبرون أن المنتجات ذات الإشارات المرجعية للأصالة (الإصدارات الأصلية) مصنوعة بجهد وعناية أكبر من المنتجات التي تستخدم إشارات رمزية (النُّسَخ المستوحاة من المنتجات الأصلية). ويرجع ذلك إلى أن الإصدارات الأصلية، بحكم تعريفها، جديدة ومختلفة، ما يعني أنها نالت بكل تأكيد نصيباً أوفر من الإبداع والجهد. ورأينا حينذاك أن هذا التصور حول بذل المزيد من الجهد والشغف هو الذي أسهم في تغذية الشعور بأن هذه المنتجات كانت أكثر أخلاقية من المنتجات الأصلية ذات الإشارات الرمزية.

ولتأكيد هذه الفرضية، أجرينا دراسة أخرى شملت أيضاً أكثر من 700 مستهلك، حرصنا خلالها على تضمين إشارات قوية بأن منتجنا الرمزي قد تطلب قدراً كبيراً من الاهتمام من خلال الإبداع والتصميم والحِرَفية مثل نظيره المرجعي، من خلال تسليط الضوء على عدد السنوات التي استغرقها تطوير المُنتَج الرمزي وعدد أفكار التصميم التي تم تقديمها ومراجعتها حتى السلسلة الثانية من إصدار المُنتَج. وعندما تم تضمين هذه الإشارات، اتضح أن التصورات الأخلاقية للمنتجات الأصلية ذات الإشارات الرمزية هي نفسها تقريباً التصورات الأخلاقية للمنتجات الأصلية ذات الإشارات المرجعية. وبالتالي، كانت هناك علاقة واضحة بين مقدار الجهد والحب الذي يُعتَقَد أن الشركة المُصنِّعة بذلته في المُنتَج وإلى أي مدى يعتبره المستهلكون مُنتَجاً أخلاقياً.

ما الذي يجب على خبراء التسويق فعله إذاً؟

أشار جورجو أرماني ذات مرة إلى أن العلامات التجارية الفاخرة يجب أن تستند إلى قيمة الأصالة. ويبدو أن النتائج التي توصلنا إليها تؤكد صحة بصيرته. ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة “هيرميس” صاحبة العلامة التجارية الفاخرة، وهي واحدة من بضع شركات عززت التصورات الأخلاقية لدى جمهور المستهلكين عن العلامة التجارية. لقد فعلوا ذلك من خلال التخلي عن مناهج التسويق الكلاسيكية والاستعاضة عنها باستراتيجية تركّز على الأصالة. ويكمن مفتاح السر في وجود أناس حقيقيين يربطون بين الماضي والحاضر بعين فنية.

اللمسة الإنسانية

ترتبط أغلبية العلامات التجارية الفاخرة بأصولها الحقيقية، حيث يعتمد تصنيعها غالباً على صلتها الوثيقة بمَنشَئها. كما أنها تحافظ على عمليات التصنيع الحِرَفية، مع صناعة المنتجات يدوياً من قِبَل فنانين محترفين متخصصين بدافع الرغبة الجوهريّة في صناعة أفضل منتج. لكن شركة “هيرميس” تذهب إلى أبعد من معظم الشركات الأخرى. فهي تحرص، مثلاً، على تنظيم فعالية عامة كل عام بعنوان “هيرميس وراء الجدران” (Hermès Beyond the Walls)، للاحتفاء بشغف الحِرَفيين الذين يقفون وراء تصنيع منتجاتها وعرض إبداعاتهم الأصلية وتلك المستوحاة من كلاسيكيات الماضي. ويحرص حِرَفيو الشركة خلال الفعالية على صناعة قطع فريدة من نوعها يدوياً أمام الزوار، ويشرحون كيفية عملها، ويجيبون عن أي أسئلة قد يطرحونها. يوضّح هذا أن صنع كل منتج يتطلب الكثير من الخطوات والعمل لساعات مع مراعاة أعلى معايير الدقة اليدوية. ويلفت مدير إدارة الإبداع بشركة “هيرميس”، بيير أليكسيس دوماس، إلى أن العملاء الذين يحضرون الفعالية يرتبطون وجدانياً مع المنتجات بعد مغادرتهم إياها: “[يلمسون] وجود الشخص الذي صنع الشيء الثمين الذي يقتنونه”.

الاستمرارية في التطلع إلى المستقبل

يشدّد معظم مصنّعي السلع الفاخرة على التقاليد، حيث تقدّم شركة صناعة الساعات السويسرية “باتيك فيليب” (Patek Philippe)، على سبيل المثال، منتجاتها باعتبارها موروثات الغد. غير أن هذا الشعار يحقق نتائج أفضل عندما يركّز على الحرفيين في الوقت الحاضر باعتبارهم جزءاً من تقاليد عريقة من العمل الحِرَفي. ويُظهر التأكيد على قرب العلامة التجارية من جذورها التاريخية التزام كل من الحِرَفيين الحاليين وأصحاب العمل بتقاليد حرفتهم، كالتأكيد مثلاً على حقيقة أن الشركة لا تتردد في تعيين عدة أجيال من الحِرَفيين من الأسر نفسها.

ولكن من المهم أيضاً عدم الركون إلى الماضي. إذ تدرك أفضل شركات السلع الفاخرة أنها لا تستطيع العيش على الماضي أو ببساطة إعادة صنع منتجاتها الكلاسيكية إلى الأبد، لأنها ستخاطر آنذاك بفقدان صلتها بالابتكار والحب اللذين بُنيت عليهما هذه المنتجات في الأساس، وسيُنظر إليها على أنها شركات استغلالية، وربما غير أخلاقية في النهاية. وتحرص شركة “هيرميس” على الحفاظ على التقاليد وربطها بالشغف من خلال التعاون الدائم مع المبدعين والمصممين المعاصرين، وحتى العملاء. فعلى سبيل المثال: حرص لوران جوبليت، وهو صانع سروج الخيول يعمل في شركة “هيرميس” منذ 40 عاماً، على العمل من كثب مع بطلة الفروسية الألمانية، جيسيكا فون بريدو فيرندل، لتصميم سرج “أربيج” (Arpège) الشهير. كما استفادت شركة “هيرميس” من مهارات صانعي الزجاج التقليديين لديها لإنتاج ساعات بعقارب ماسية مطعَّمة بقطع الكريستال الياقوتية التي تبدو كأنها تُحلّق في سماء الزخارف الداخلية. كانت هذه خطوة رائدة في صناعة الساعات تضمّنت استخدام المهارات التقليدية لإنجاز تصميم عصري.

تعزيز المنظومة الفنية

بالإضافة إلى تصميم منتجاتها الخاصة وتصنيعها، يمكن لشركات السلع الفاخرة إظهار شغفها واهتمامها بتعزيز صورتها الأخلاقية من خلال دعم تطوير منظومة أوسع من الفنانين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك مؤسسة “هيرميس كوربوريت فاونديشن” (Hermès Corporate Foundation) التي تقدم تدريبات عملية للفنانين. تتيح لهم هذه التدريبات فرصة للعمل مع الحِرَفيين والمصممين في شركة “هيرميس” لاستكشاف مواضيع اجتماعية من زوايا متعددة وتنفيذ أعمال فنية باستخدام المواد المستخدمة في منتجات الشركة (مثل الخشب والحرير والورق والكريستال والجلد). وعلى سبيل المثال: كانت بيانكا أرجيمون، وهي فنانة بلجيكية مقيمة في شركة “هيرميس” القابضة للمنسوجات في منطقة ليون، مهتمة بالطباعة على حرير الموسلين، وهي خامة شديدة الحساسية. واستطاعت بدعم من مؤسسة “هيرميس فاونديشن” إنتاج طباعة حريرية نالت إعجاب المجتمع الاستهلاكي مستوحاة من لوحة شهيرة للرسام الهولندي هيرونيموس بوس.

واحتلت شركة “هيرميس” مرتبة متقدمة في تصنيفات “سي إس آر هاب كونسنسس إي إس جي ريتنغس” (CSRHUB Consensus ESG Ratings) بنسبة 89%، ويمكن ربطها بقدرة العلامة التجارية على الاستفادة من إشارات الأصالة المهمة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أجرينا دراسة مخصصة إضافية في الولايات المتحدة، حيث طُلب من المشاركين في منصة سوق العمل “أمازون ميكانيكال ترك” (Amazon Mechanical Turk – MTurk)، إجراء مقارنة بين “هيرميس” ومنافسيها الرئيسيين في مجال الأزياء الراقية (بما في ذلك “شانيل” و”ديور” و”برادا” و”بربري” و”لويس فويتون”) حول مقاييس الالتزام بالمعايير الأخلاقية. وأثبتت النتائج أن معظم المشاركين يعتبرون أن “هيرميس” علامة تجارية أكثر أخلاقية من منافسيها بشكل واضح.

خلاصة القول: إذا أرادت شركات السلع الفاخرة أن تكتسب سمعة طيبة بمراعاتها للمعايير الأخلاقية، فعليها ألا تكتفي بادعاء التزامها بالاستراتيجية الخضراء في صناعة منتجاتها وتسيير عملياتها، بل عليها أن تعبّر عن شغف موظفيها والتزامهم بإتقان فنهم. ويجب أن يكون عملاء الشركة على دراية بمدى العناية التي توليها لعملية التصنيع الطويلة والمعقدة، والمشاعر التي تمس كل مُنتَج أو خدمة فاخرة تقدمها الشركة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .