طرح أحد رؤساء الشركات السعودية مؤخراً مشكلة لم ينتبه لها الكثيرون: لا يوجد سوى عدد قليل جداً من المتخصصين في وظيفة مسؤول علاقات المستثمرين على مستوى المملكة والمنطقة العربية. لماذا؟
تستسهل شركات عربية كثيرة توظيف متخصصي تواصل مؤسسي أو علاقات عامة لتولي وظيفة مسؤول علاقات المستثمرين. لكن الحقيقة تكشف أن هذه الوظيفة لا تحظى بالاهتمام الكافي لخلق جيل من المتخصصين المدربين في علاقات المستثمرين. فمسؤول علاقات المستثمرين، الذي أسميه "مسؤول السرد الاستثماري" يمثل الصائغ الذي يبرز جوهر الشركات من الناحية الاستثمارية.
مثلما يتقن الصاغة صناعة الجواهر بعناية ودقة، يتقن مسؤولو علاقات المستثمرين صياغة سرد استثماري يعكس الجوهر الحقيقي للشركات ويعزز تقييماتها في الأسواق المالية. فالسرد الاستثماري لم يعد مجرد أداة اتصال؛ بل أصبح استراتيجية محورية تنسج بها الشركات قصص نجاحها وتوضح من خلالها القيمة المستقبلية لأعمالها، ما يرسخ الثقة لدى المستثمرين ويعزز مكانة الشركة في السوق.
لم يعد مفهوم "علاقات المستثمرين" مجرد وظيفة اتصالية محدودة تقتصر على الامتثال للوائح التنظيمية، بل تحول إلى وظيفة استراتيجية جوهرية تسهم في تشكيل مستقبل الشركات، وصياغة السرد الاستثماري، وتعزيز الثقة بالسوق. ففي الأسواق المالية المتقدمة كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يؤدي مسؤول علاقات المستثمرين دوراً مركزياً في القيادة التنفيذية، حيث يسهم في اتخاذ قرارات استراتيجية مثل تخصيص رأس المال، وخطط الاندماج والاستحواذ، ومعايير الاستدامة، والاستجابة لمتغيرات الأسواق.
فما هو دور مسؤول علاقات المستثمرين وما هي أهميته بالنسبة للشركات؟ وهل يجد هذا المسمى الوظيفي دوره الفعال في شركات دول الخليج؟
الدور المتطور لعلاقات المستثمرين في مجال الذكاء التنافسي
يشير مفهوم علاقات المستثمرين إلى قسم أو وظيفة داخل شركة مدرجة في البورصة. وقد شهد هذا المفهوم تحولاً جذرياً في الأسواق العالمية، حيث تطور من وظيفة اتصالية محدودة تنحصر في مفهوم الامتثال للوائح التنظيمية إلى أداة استراتيجية متجذرة في عمق منظومة الأعمال. ويركز المفهوم الرئيسي لعلاقات المستثمرين على التواصل الثنائي الاتجاه بين المؤسسة وأصحاب المصلحة الخارجيين، ولا سيما المستثمرين والأطراف المعنيين الآخرين. وهذا يعني أن علاقات المستثمرين ليست مسؤولة فقط عن توصيل المعلومات من الشركة إلى العالم الخارجي، بل أيضاً عن جمع الملاحظات والاقتراحات من المستثمرين وأصحاب المصلحة لنقلها إلى قيادة الشركة. ويسمح هذا التبادل للشركات بتحسين استراتيجيتها وعملياتها استناداً إلى المدخلات القيمة.
وبالتالي، تتمثل حاجة الشركات إلى وظيفة علاقات المستثمرين في تعزيز الشفافية والثقة مع أصحاب المصلحة، وضمان التقييم العادل للفرص الاستثمارية. كما تظهر الأبحاث أن الشركات التي تمتلك وظائف علاقات مستثمرين تحقق عوائد أسهم أعلى بنسبة تتراوح بين 5 إلى 8% خلال فترات الأزمات، ما يبرز القيمة الملموسة التي يقدمها هؤلاء المتخصصون لمرونة المؤسسة.
بالمقابل، تواجه الشركات التي لا تعتمد دوراً مخصصاً لعلاقات المستثمرين عواقب سلبية يمكن أن تؤثر على أدائها المالي، وتقييمها في السوق، واستدامتها على المدى الطويل، إذ يؤدي غياب وظيفة علاقات المستثمرين إلى عجز الشركات عن نقل رؤيتها الاستراتيجية بفعالية، وعدم قدرة المستثمرين على تقدير القيمة الحقيقية للشركة. وتشير الأبحاث إلى أن ضعف علاقات المستثمرين يمكن أن يتسبب في خفض سعر السهم بنسبة 20% وسطياً.
ويؤدي غياب علاقات المستثمرين أيضاً إلى فجوة في التواصل بين الإدارة وأصحاب المصلحة حول الإفصاحات والتقارير المالية، وعدم تماثل المعلومات التي يحتاج إليها المستثمرون للحفاظ على ثقتهم في الشركة.
كما تظهر الأبحاث أن الشركات التي لا تعتمد دوراً مخصصاً لعلاقات المستثمرين تفقد التركيز على الأهداف الاستراتيجية وينحصر اهتمامها بالاستجابات التشغيلية اليومية فقط، وبالتالي تصبح غير قادرة على مواكبة متطلبات السوق المتغيرة باستمرار.
تبرز هذه الأرقام أهمية دور علاقات المستثمرين وتأثيره على ثقة المستثمرين خلال فترات عدم اليقين، فاليوم، أصبح مسؤولو علاقات المستثمرين مثل محللي أبحاث الأسهم الداخليين وأنظمة الإنذار المبكر، مقدمي معلومات سوقية حاسمة تشكل قرارات استراتيجية، بدءاً من عمليات الاندماج والاستحواذ إلى تخصيص رأس المال. ووفقاً لمسح جمعية علاقات المستثمرين الوطنية وشركة كورن فيري لعام 2024، فإن 87% من متخصصي علاقات المستثمرين متفائلون بشأن مهنتهم، بينما 61% يذكرون أن دورهم قد ارتقى داخل مؤسساتهم.
في الأسواق المالية المتقدمة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، يتمتع مسؤول علاقات المستثمرين بموقع محوري داخل منظومة القيادة التنفيذية، نظراً لأهمية دوره في تشكيل التقييم العادل للشركة وصياغة مستقبلها الاستثماري المدعوم داخلياً في توجيه القرارات الاستراتيجية، حيث يعمل مسؤولو العلاقات الاستثمارية على مواءمة استراتيجية الشركة مع توقعات السوق، ويشاركون الإدارة العليا في قرارات تخصيص رأس المال وخطط الاندماج والاستدامة ومتغيرات الأسواق.
فعلى سبيل المثال، تعتمد شركة بلاك روك، التي تعد أكبر شركة تدير الأصول في العالم، اعتماداً كبيراً في قراراتها الاستثمارية على مدى قدرة الشركات على تقديم سرد استثماري متماسك يتضمن الشفافية والحوكمة والاستدامة. لم تعد الشركة تكتفي بقوة الأرباح الفصلية فقط، بل تبحث عن شركات تظهر التزاماً طويل الأمد، وتدمج قضايا البيئة والعدالة الاجتماعية في جوهر أعمالها. وفي هذا السياق، أصبحت علاقات المستثمرين مسؤولة عن بناء هذا السرد مصحوباً برسائل استراتيجية تمكنها من التفاعل المستمر مع المستثمرين وإقناع السوق بمصداقية الاستراتيجية، بما ينعكس إيجاباً على التقييم والتغطية التحليلية المتينة وتماسك هيكل أعمالها وقت الأزمات.
كذلك، تعد تجربة مايكروسوفت مثالاً حياً على كيفية تحول دور علاقات المستثمرين إلى مستشرف للمستقبل. في أثناء التحول نحو الحوسبة السحابية، لم تكتف الشركة بتحديث نموذج أعمالها، بل جهزت فريق علاقات المستثمرين ليكون شريكاً في صياغة الرسالة وتوضيح القيمة المستقبلية للأسواق. شارك فريق علاقات المستثمرين في الشركة في فهم البيانات وتفسيرها، ورسم ملامح النمو وآفاقه، ومتابعة مخاوف المستثمرين وتدوين ملاحظاتهم، ما عزز الثقة بالسرد الاستثماري ورفع التقييم السوقي بدرجة كبيرة.
أما يونيليفر، فقد بنت نموذجاً فريداً لدمج الاستدامة في صميم علاقتها مع المستثمرين. حيث ربطت مبادراتها البيئية والاجتماعية مباشرة بالقيمة المالية المضافة، ما جعلها من الشركات الرائدة في جذب الاستثمار المستدام حول العالم. وأدى فريق علاقات المستثمرين دوراً جوهرياً في نقل هذا المفهوم، ليس بوصفه أداء يعكس الجانب الأخلاقي للشركة، بل بوصفه قيمة اقتصادية طويلة الأجل.
في السياق نفسه، نجحت نوفو نورديسك في تحويل الابتكارات الدوائية المعقدة إلى سرد بسيط وواضح للمستثمرين، فتمكنت من تعزيز ثقة الأسواق بقدراتها على التوسع وتحقيق النمو، في ظل بيئة تنافسية وتنظيمية شديدة التعقيد. وهذا لم يكن ليحدث لولا وجود فريق علاقات مستثمرين يتمتع بقدرات تواصل وتحليل وقراءة معمقة للسوق وفهم عميق للتعامل مع العقلية الاستثمارية.
تظهر هذه الأمثلة بوضوح أن علاقات المستثمرين اليوم ليست وظيفة "اتصالية وتقنية" بل "استراتيجية"، تتطلب معرفة متقدمة في التحليل المالي، وفهم سلوك المستثمرين، وبناء رسائل تعكس جوهر الهوية المؤسسية.
أسواق واعدة وتحديات هيكلية
في المقابل، تشهد أسواق الخليج وفي مقدمتها السعودية تقدماً كبيراً على مستوى بنية السوق المالية، بدءاً من تحديث اللوائح المنظمة، وتعزيز الشفافية من خلال حث الشركات على تطبيق الأطر المعتمدة للحوكمة والتشجيع على تبني أسس راسخة للاستدامة، وتوسيع قاعدة الإدراج في السوق المالية، وصولاً إلى فتح السوق أمام الاستثمارات الأجنبية. ولكن، على الرغم من هذا الزخم، لا تزال وظيفة علاقات المستثمرين داخل العديد من الشركات المحلية تفتقر إلى التمكين الحقيقي والموقع الاستراتيجي الملائم للدور.
وهذا يعكس مشكلة "اضطراب المهارات" التي ذكرها تقرير "مستقبل الوظائف" الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي 2025، الذي يعني وجود فجوة بين المهارات التي تبحث عنها الشركات والمهارات المتوافرة بالفعل في سوق العمل.
وفي هذا الإطار، قال الرئيس التنفيذي لشركة سيسكو، خالد سليماني، في بودكاست طريقتي، إن الشركات المدرجة في البورصة السعودية والشركات الاستثمارية -وعددها لا يقل عن 600 شركة كبرى- تبحث عن مسؤول علاقات مستثمرين جيد وماهر، لكن عدد من يشغلون هذا الدور في كل المملكة لا يتجاوز 3 أو 4 موظفين. لذا تستورد شركات كثيرة هؤلاء الموظفين الماهرين وتبحث عنهم خارج البلاد.
وفي كثير من الحالات، تسند مسؤولية علاقات المستثمرين إلى إدارات العلاقات العامة أو المالية دون تدريب متخصص وبعد استراتيجي واستشرافي لنطاق العمل، وغالباً ما ينظر إليها على أنها وظيفة للمتابعة ورصد "لردات الفعل" بدلاً من أن تكون محركاً استباقياً لإدارة التوقعات، وصياغة السرد الاستثماري، وإشراك فرق الإدارة العليا برؤى السوق والمستثمرين.
إذ تنظر شركات سعودية كثيرة لعلاقات المستثمرين على أنها وظيفة لوجستية وليست استراتيجية، وهذا خطأ جوهري يحد من قدرة الشركات على تحقيق تقييم عادل في السوق. التحدي يكمن في مدى استيعاب الشركات المدرجة لأهمية هذا الدور وتهيئة الهيكلة الداخلية للشركات لإشراكه في صنع القرار الاستراتيجي.
الطريق إلى التمكين: ما الذي يجب علينا تغييره؟
لكي تتمكن علاقات المستثمرين في الشركات داخل السعودية من أداء دورها بما يتماشى مع أفضل التجارب العالمية، لا بد من إحداث تغييرات جوهرية، أهمها:
أولاً: رفع الوعي حول دور مدير علاقات المستثمرين داخل الهيكل المؤسسي، وربطه مباشرة بالرئيس التنفيذي، ما يعزز هذا الدور المحوري في الشركة، ويجعله جاذباً للكوادر المحلية.
ثانياً: بناء الكفاءات الوطنية المؤهلة في هذا المجال على نحو تدريجي ونوعي، من خلال برامج معتمدة مثل شهادة علاقات المستثمرين، والتدريب العملي مع شركات استثمار عالمية، أو حتى عبر برامج تبادل وظيفي مؤقت بين السوق السعودية والأسواق الدولية لاكتساب الخبرة وتعزيز التواصل مع الأسواق الخارجية ومواكبتها. وتتطلب هذه الخطوة توسيع نطاق اكتساب المهارات الجديدة، خاصة الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، التي يعتبرها 51% من المتخصصين في علاقات المستثمرين أكبر فجوة مهارية.
ثالثاً: ربط وظيفة علاقات المستثمرين بالتخطيط الاستراتيجي داخل الشركة، بحيث لا تكون معزولة، بل جزءاً من رسم ملامح مستقبل الشركة، وتحليل توقعات السوق، ومتابعة تطورات سلوك المستثمرين المؤسسيين، وتقييم فترات الاحتفاظ، والاستفادة من البيانات المتاحة عبر منصات مثل بلومبرغ وريفينيتيف.
رابعاً: تجذب وظيفة علاقات المستثمرين مواهب من خلفيات متنوعة تشمل المالية والاتصالات والاستشارات. وللحفاظ على التنافسية في استقطاب المواهب، يجب على المؤسسات تقديم مسارات تطور وظيفي واضحة، حيث يطمح 23% من محترفي علاقات المستثمرين لتولي منصب المدير المالي.
خامساً: دمج التحليلات غير المالية مثل مؤشرات الاستدامة والمخاطر البيئية والأطر الاجتماعية ضمن الرسائل الاستثمارية، وهي عناصر أصبحت تشكل جزءاً أساسياً من قرارات الصناديق الاستثمارية الكبرى في أوروبا وأميركا.
تمتلك السوق السعودية كل المقومات لتكون أحد المراكز المالية المؤثرة عالمياً. حجم السيولة، والمشاريع الكبرى، وتنوع القطاعات، كلها عوامل تجذب المستثمر الدولي. لكن المستثمر لا يبحث عن الأرقام فقط، بل يبحث عن الوضوح، والحوكمة، والرؤية البعيدة لهذه الأصول، وهنا يأتي دور علاقات المستثمرين.
وإذا استطاعت الشركات السعودية إعادة تعريف هذه الوظيفة باحترافية ووضعها في إطارها الصحيح لتؤدي دورها على نحو استراتيجي وفاعل، فإنها لن تحقق فقط تحسيناً في التقييم السوقي، بل ستعزز مكانتها ضمن مؤشرات الأسواق الناشئة، وستكون بذلك أكثر استعداداً لاحتضان التدفقات الاستثمارية الأجنبية النوعية وتحقيق أثر ملموس على الاقتصاد المحلي.