ملخص: يفتقر الأطباء في أثناء علاج العديد من الحالات إلى الأدلة المقارنة في الوقت الحقيقي ويضطرون إلى اتخاذ قرارات غير مستنيرة على الرغم من وجود متغيرات مجهولة يمكن أن تؤثر بدرجة كبيرة على نتائج العلاج. يواجه الأطباء هذا النقص في الأدلة كل يوم، وتزداد خطورة هذا الأمر خاصة عند التعامل مع المرضى الذين يعانون حالات متعددة أو لديهم تاريخ طبي معقد أو ينتمون إلى فئات عرقية متنوعة. أدت الابتكارات في البحث الأكاديمي، بما فيها مشروع كبير في كلية الطب بجامعة ستانفورد، إلى ابتكارات تكنولوجية تسمح للأطباء المعالجين بتوليد أدلة عند الطلب مستمدة من بيانات البحث والسجلات الطبية المجهولة الهوية، وبالتالي سد فجوة الأدلة وتمكين الأطباء من اتخاذ قرارات مستنيرة لتحسين نتائج العلاج.
عندما يُسأل الأطباء المعالجون عما إذا كانت حالة المريض التي يتعاملون معها تنطبق عليها إرشادات رعاية معينة، يجيبون عادة بالنفي. يؤكد العاملون في المجال الطبي أن نحو 20% فقط من المرضى يمكن تطبيق إرشادات الرعاية القياسية عليهم، أضف إلى ذلك حقيقة أن 20% فقط من إرشادات الرعاية الحالية تستند إلى أدلة قوية، لنصل إلى نتيجة صادمة: يعتمد نحو 4% فقط من حالات رعاية المرضى التي يجب على الطبيب إدارتها على إرشادات مستمدة من تجارب سريرية عشوائية مضبوطة، بعبارة أخرى، هناك نقص دائم في الأبحاث التي تدعم اتخاذ قرارات مستنيرة في علاج المرضى.
يجبر هذا النقص في الأدلة الأطباء على اتخاذ قرارات علاجية غير مستندة إلى البيانات معتمدين فقط على الحدس والخبرة، وتزداد خطورة هذا الوضع عندما يرعى الأطباء المرضى الذين يعانون حالات متعددة أو لديهم تاريخ طبي معقد أو ينتمون إلى فئات عرقية متنوعة.
مع تطور التكنولوجيا الكبير وإمكانية تخزين السجلات الطبية إلكترونياً بالكامل، يجب أن يكون بمقدور الأطباء الرجوع رقمياً إلى هذه البيانات لمعرفة القرارات التي اتخذها الأطباء المعالجون الآخرون إزاء الحالات المماثلة التي تعاملوا معها في الماضي. التكنولوجيا اللازمة لإجراء هذا النوع من الاستشارة الرقمية موجودة بالفعل، لكننا بحاجة إلى حلول جديدة لدمج النتائج في ممارسات الرعاية الروتينية. هناك نموذج واحد جديد ظهر مؤخراً: الخدمات التي تقدمها فرق من أطباء وعلماء بيانات يتمتعون جميعهم بإمكانية الوصول إلى سجلات المرضى الشاملة ويمكنهم تقديم الأدلة اللازمة في غضون أقل من 24 ساعة،
وكمثال عن هذا النموذج، أنشأت كلية الطب بجامعة ستانفورد مشروع بحث أكاديمي يُدعى "غرين بَتن إنفورماتيكس كونسلت سيرفيس" (Green Button Informatics Consult Service) الذي يقدم استشارات سريرية مدعومة بالتكنولوجيا، وحذت أقسام نظم المعلومات في بعض المؤسسات المشهورة في البلاد حذوها منذ ذلك الحين وجربت تقديم خدمات مماثلة. تشمل الأمثلة مدينة الأمل (City of Hope) وجامعة كولومبيا (Columbia University) ومايو كلينك (Mayo Clinic) التي طورت منصة مايو كلينك لتنظيم البيانات وإدارتها بصورة آمنة بهدف الاستجابة للاستفسارات الطبية الأكثر تعقيداً بأسرع وقت ممكن ومساعدة المرضى على الفور.
الغرض من هذه المقالة هو شرح آلية عمل هذه الخدمات وكيف يمكنها تحسين رعاية المرضى وخفض التكاليف.
فجوة الأدلة
لنأخذ على سبيل المثال حالة واقعية وشخصية (والدة المؤلف المشارك جون هالامكا): امرأة مسنة تعاني ضعفاً في قدراتها العقلية وحمى وانخفاض مستوى الصوديوم في الدم، نُقلت إلى المستشفى وفحصها طبيب الرعاية الأولية الذي رأى أنها مصابة بعدوى المسالك البولية (UTI) فبدأ العلاج بالمضادات الحيوية وخافضات الحرارة. لكن الطبيب أدرك أن انخفاض مستويات الصوديوم لدى المريضة قد لا يُعزى كلياً إلى عدوى المسالك البولية، في الواقع، يمكن أن يحدث انخفاض الصوديوم نتيجة تصفية الكلى له، ولكن المرضى الذين يعانون عدوى المسالك البولية نادراً ما يعانون انخفاض الصوديوم، ما دفع الطبيب إلى البحث عن تفسيرات محتملة أخرى.
لسوء الحظ، لا توجد إجابات متاحة لدى الطبيب لأنه لم تُجر أي تجربة سريرية شملت إناثاً يبلغن من العمر 80 عاماً يعانين ضعف الحالة العقلية وانخفاض الصوديوم إلى مستويات قياسية. ولكن إذا توافرت الملايين من السجلات الطبية الإلكترونية للمرضى، يمكن للطبيب الرجوع إلى قاعدة البيانات هذه واستشارتها لمساعدته في تشخيص حالة المريضة وعلاجها بطريقة أفضل وبدقة بدلاً من الاعتماد على التخمين.
في الواقع، أصبح إجراء هذا التحليل بصورة روتينية ضرورياً نظراً إلى أن حتى أمهر الأطباء يواجهون نقصاً في الأدلة يعوق قدرتهم على تشخيص بعض المرضى وعلاجهم على النحو الأمثل. يمكن لاستشارة قواعد البيانات المنتظمة الإجابة عن الأسئلة الطبية الحاسمة مثل:
- ما التشخيص الصحيح؟
- ما الاختبارات التشخيصية التي يجب طلبها؟
- ما دلالة هذه النتيجة المخبرية أو تلك المعلّمة الجينومية الشاذة؟
- ما التشخيص النموذجي لحالات المرضى المشابهة لحالة هذا المريض؟
- ما الأدوية أو طرق العلاج الأخرى التي يجب اتباعها، وبأي تسلسل، لتحسين النتائج؟
- هل يستحق هذا الإجراء المخاطرة و/أو هل التكلفة المحتملة لهذا الإجراء مبررة بالنسبة للمريض؟
- هل يمكن إطالة عمر المريض أو تحسين حياته باستخدام العلاجات البديلة؟
جهد دام 4 عقود
تُعد فكرة النظر إلى السجلات الطبية لمعرفة ما حدث في الحالات المماثلة قديمة بعض الشيء، ويمكن القول إنها بدأت عام 1972 عندما نشر الباحث والطبيب الشهير ألفان فاينستاين مقالاً بعنوان "تقدير التشخيص بمساعدة برنامج حاسوبي في وضع المحادثة" تحدّث فيه عن نظام كمبيوتر يجمع بين الأطباء المعالجين والبيانات الطبية والتكنولوجيا لإنشاء أدلة واقعية لدعم القرارات السريرية لعلاج مرضى سرطان الرئة. ومنذ تلك الفكرة البارزة، بُذل العديد من الجهود لتحقيق هذه الرؤية.
على سبيل المثال، أُنشئ بنك بيانات ديوك لأمراض القلب والشرايين (Duke Databank for Cardiovascular Disease) عام 1975 وأنتج تقارير دُعيت بـ "مخططات التشخيص" (prognostigrams) تلخص نتائج حالات مماثلة لمرضى خضعوا لخيارات علاجية مختلفة. كان الأمل أن يصبح بنك معلومات ديوك جزءاً من الممارسة الطبية، ولكن تكلفة الحصول على البيانات في شكل إلكتروني، بالإضافة إلى تركيز البنك على مجال طبي واحد فقط (أمراض القلب) والقيود المفروضة على المدفوعات، أدى إلى تقييد هذا الجهد.
توقف برنامج بنك ديوك للمعلومات في نهاية المطاف، ولكن دون التخلي عن هذا المفهوم تماماً، فقد بذلت جامعات ومؤسسات أخرى جهوداً للتغلب على العقبات اللوجستية وتعزيز التكنولوجيا والسياسات الداعمة المطلوبة للمضي بهذا الجهد قُدماً.
في عام 2011، كان على أطباء الأطفال في كلية الطب بجامعة ستانفورد اتخاذ قرار حاسم بشأن إعطاء مضاد التخثر لمريض يعاني الذئبة الحمامية الشاملة (SLE)؛ على الرغم من أن هذا العلاج لم يكن ممارسة قياسية، فالأطباء كانوا يعتقدون أنه النهج الأنسب بالنظر إلى المضاعفات، ولكن لم تكن هناك دراسات ذات صلة تؤكد أن خيار العلاج هذا هو الأفضل بالنظر إلى المخاطر المرتبطة به، لذلك استخدم الأطباء البيانات السريرية المخزنة في الجامعة لتقدير خطورة تجلط الدم. وهكذا، تمكن الأطباء في أقل من 4 ساعات من تحليل بيانات مجموعة من المرضى الأطفال المصابين بمرض الذئبة الحمامية الذين كانوا تحت رعاية أطباء معالجين آخرين بين أكتوبر/تشرين الأول عام 2004 ويوليو/تموز عام 2009 واتخذوا قراراً مستنيراً بالبيانات بإعطاء مضاد التخثر. نُشرت تفاصيل هذا الإنجاز لاحقاً في مقال في مجلة نيو إنغلاند الطبية بعنوان "الطب القائم على الأدلة في عصر السجلات الطبية الإلكترونية" (Evidence-Based Medicine in the EMR Era).
حل عملي لمشكلة نقص الأدلة
اختبرت مجموعة من الأطباء وعلماء البيانات من كلية الطب بجامعة ستانفورد في عام 2018 خدمة "غرين بَتن إنفورماتيكس كونسلت سيرفيس"، التي اعتمدت على بيانات جُمعت بصورة روتينية وغير محددة الهوية من ملايين الأفراد لتقديم أدلة عند الطلب في الحالات التي تفتقر إلى أدلة كافية. يمكن للأطباء المعالجين وعلماء البيانات تحليل النتائج سريعاً بعد ذلك لاتخاذ قرارات فورية ومستنيرة لرعاية المرضى. خلال المرحلة التجريبية، استجابت الخدمة لـ 100 طلب استشارة من 53 مستخدماً من تخصصات متعددة، إذ ساعدت الاستشارات في تقديم الرعاية الفردية للمرضى وأسفرت عن تغييرات في الممارسات المتبعة وحفزت على إجراء المزيد من الأبحاث السريرية، الأمر الذي أثبت جدوى توليد الأدلة الفوري لحل مشكلة نقص الأدلة.
كانت هذه القدرة المبتكرة بمثابة الحافز لإنشاء شركة تقديم خدمات الاستشارات الطبية أتروبوس هيلث (Atropos Health) التي نجحت في تقديم أكثر من 1,800 طلب استشارة حتى الآن. يلتزم العديد من الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الصحية بتسخير قوة بيانات السجلات الصحية الإلكترونية لتحسين رعاية المرضى، ومن الأمثلة البارزة على هذه الشركات: لوسم هيلث (Lucem Health) وإنفرينس (nference) وأومني هيلث (OMNY Health) وأتروبوس هيلث التي ذكرناها آنفاً. كما يلاحظ أيضاً اهتمام عمالقة الرعاية الصحية بتحليل البيانات الطبية مثل مايو كلينك وكليفلاند كلينك. نظراً إلى إمكانية إجراء استشارات قواعد البيانات في أثناء معالجة المريض، دخلت مايو كلينك في شراكة مع شركة أتروبوس هيلث للاستفادة من تقنية الشركة لتعزيز منصة مايو كلينك.
يعود الفضل في هذه التطورات جزئياً إلى القواعد الفيدرالية التي تفرض تخزين بيانات المرضى الورقية في شكل إلكتروني، ما أتاح الوصول حالياً إلى 10 و15 عاماً من السجلات الطبية السابقة لمئات الملايين من المرضى بصورة روتينية. على سبيل المثال، تعمل منصة مايو كلينك على تحسين تقديم الرعاية من خلال استخدام الرؤى والمعرفة المستمدة من البيانات غير المحددة الهوية لـ 10 ملايين سجل طبي تشمل النتائج المخبرية ورموز التشخيص والعلامات الحيوية والأدوية المستخدمة والملاحظات السريرية. هذه البيانات ضرورية لتعزيز فعالية استشارات قواعد البيانات؛ فهي تمنح محللي البيانات ومنصات التعلم الآلي الركيزة الأساسية اللازمة لتحويل البيانات إلى رؤى ثاقبة يمكن الاستفادة منها.
الخدمات الموجهة من الخبراء
يؤدي الوصول إلى البيانات وتخزينها بهدف تحليلها إلى تسهيل عمل علماء البيانات والأطباء الذين يتطلعون إلى تحسين تقديم خدمات الرعاية الصحية، ولكن تطوير أفضل الممارسات الجديدة لتقديم الرعاية يتطلب بناء أساس استدلالي أو استنباطي. بما أن البيانات تأتي من زيارات المرضى، فإن توليد مثل هذه الأدلة يستغرق وقتاً طويلاً وتكلفته المالية كبيرة، علاوة على ذلك، يبحث العديد من المؤسسات عن أنماط في البيانات يدوياً، ما يستهلك وقتاً إضافياً ويزيد تكلفة العمالة. وحتى في المؤسسات المجهزة بفرق تحليلية كافية، غالباً ما يتطلب توليد مثل هذه الأدلة أكثر من 300 ساعة و300 ألف دولار للإجابة فقط عن الأسئلة السريرية وتطوير إرشادات رعاية جديدة. لا يمكن توسيع نطاق هذا النهج التقليدي لتلبية احتياجات كل مريض.
يكمن الحل في استخدام تقنية بحث مبتكرة مثل التي تستخدمها خدمة غرين بَتن إنفورماتيكس كونسلت سيرفيس جنباً إلى جنب مع فريق من الأطباء وعلماء البيانات الذين يتمتعون بإمكانية الوصول إلى مجموعات البيانات فوراً بالإضافة إلى الخبرة لتفسير نتائج البحث. يمكن أن يكون هذا النهج دقيقاً وسريعاً بما يكفي للاستجابة في غضون أقل من 24 ساعة لمعالجة نقص الأدلة في أثناء تقديم الرعاية للمريض مباشرة. لا يوفر هذا النهج الوقت والجهد اللازمين لتوليد هذه المعلومات السريرية المخصصة لكل مريض فحسب، بل من المؤكد أيضاً أنه سيحقق وفورات كبيرة في التكاليف، إذ تهدف الأبحاث الجارية إلى تحديد قدر هذه الوفورات بدقة.
على الرغم من الاستثمار الهائل في التكنولوجيا والسياسة لدفع الابتكار الرقمي في الرعاية الصحية خلال السنوات الأربعين الماضية، لا يزال الأطباء يتخذون الكثير من القرارات السريرية دون الاعتماد على بيانات كافية. يمكن أن تساعد الخدمات الموجهة من الخبراء التي تستخدم التكنولوجيا والبيانات المتاحة الآن في حل هذه المشكلة، وبالتالي سد فجوة الأدلة وتحقيق الآمال التي كانت معقودة على استخدام السجلات الصحية الإلكترونية في الاستفادة من الرؤى السريرية الواقعية لتحسين الرعاية للمرضى، ويمكن أن تقربنا من تحقيق رؤية فاينستاين وحل مشكلة نقص الأدلة في أثناء تقديم الرعاية الطبية للمريض مباشرة.