يعد التحول الذي شهده مجال التوظيف، من الوظائف التي تتطلب مهارات متوسطة إلى الوظائف ذات المهارات العالية والمنخفضة، واحداً من أهم الاتجاهات في سوق العمالة الأميركي عبر الأعوام الثلاثين السابقة. وقد أشارت الأبحاث السابقة إلى أن ما يسمى بـ "التغير التقني المنحاز إلى الروتين" هو من أهم دوافع هذا الاستقطاب الوظيفي، حيث تحل التقنيات الجديدة محل الوظائف التي تتسم بالتكرار وتتطلب مهارات متوسطة، كما تكمل الوظائف التحليلية التي تتطلب مهارات عالية. فعلى سبيل المثال، هناك معالجات النصوص التي تحلّ محل الكاتبين على الآلات أو المهندسين الذين يستخدمون برنامج "الأوتوكاد". وحتى وقت قريب، كان الاقتصاديون يعتقدون أن هذا الاتجاه ما هو إلا ظاهرة تدريجية لا تعتمد كثيراً على التقلبات الاقتصادية.
ولكن، تشير دراسات يعود تاريخها إلى الوقت الذي صاغ فيه جوزيف شومبيتر مصطلح "الدمار الإبداعي" إلى أن التكيف مع التغير التقني قد يكون عرضياً. ففي وقت الازدهار، قد تضطر الشركات إلى دفع المزيد من التكاليف لتتكيّف مع الوضع، والتي قد تمنعها بدورها من محاولة التأقلم مع التغير التقني. بينما، في المقابل، قد ينتج عن أوقات الركود صدمات كبيرة بما يكفي لتجاوز هذه الاحتكاكات.
وسواء كانت عمليات التكيف مع التقنية الجديدة تدريجية أو بشكل مفاجئ، فهي مهمة للسياسة، وكذلك لفهمنا لعمليات الانتعاش الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، اتسمت فترات الانتعاش من أزمات الركود الثلاث الأخيرة في أميركا (1991 و2001 و2007–2009) بالبطالة، بمعنى أن عمليات التوظيف قد استغرقت وقتاً لتعود إلى مستواها الطبيعي، على الرغم من الانتعاش الاقتصادي العام. فإذا كانت عمليات التكيف مع التقنيات الجديدة مفاجئة، وتتركز في فترة الانكماش، فقد يجد الموظفون المسرحون أنفسهم يمتلكون المهارات الخاطئة عند انتعاش الاقتصاد من جديد.
لذلك، سعينا خلال بحثنا الجديد إلى دراسة تغيّر الطلب على المهارات خلال فترة الركود العظيم (2007-2009). وبالبحث في جميع فرص العمل المنشورة إلكترونياً في عام 2007، وبين عامَي 2010 و2015، والتي جمعتها شركة التحليلات المحوسبة، "بيرننغ غلاس تيكنولوجيز" (Burning Glass Technologies)، مع الوضع في الحسبان الاختلافات الجغرافية في الظروف الاقتصادية، فإننا نثبت حقيقة جديدة: ازدادت متطلبات المهارات في إعلانات الوظائف في المدن الكبرى التي عانت أكثر من صدمات التوظيف أثناء فترة الركود العظيم مقارنةً بالمناطق ذاتها قبل الصدمة، ومقارنةً أيضاً بمناطق أخرى كانت معاناتها أقل. إذ تشير تقديراتنا إلى أن احتمالية أن تحتوي الإعلانات المنشورة في مدينة كبيرة منكوبة على متطلبات الخبرة والتعليم أعلى بخمس نقاط مئوية (16%)، واحتمالية أن تحتوي على متطلبات تتعلق بمهارات الحواسيب والتحليل أعلى بنقطتين إلى ثلاث نقاط مئوية (8-12%).
واستمرت هذه "الزيادات" إلى نهاية العينة في عام 2015. وهذا يعني أنه على الرغم من عودة معظم مقاييس قوة سوق العمالة المحلية إلى مستويات ما قبل الركود، إلا أن الاختلافات في متطلبات المهارات بقيت موجودة. ويبقى هذا صحيحاً حتى عند التحكم إحصائياً بتوافر العمالة الماهرة، وبتكوين الإعلانات عبر الشركات والوظائف. وفي الواقع، نلاحظ أن الشركات التي زوّدت متطلبات المهارات بحلول عام 2010 بقيت مستمرة لاحقاً في هذه الاتجاه خلال فترة الدراسة - إذ استمرت الشركات التي تعاملت مع الركود بالبحث عن موظفين أعلى مهارة في اتباع هذه الاستراتيجية بعد خمسة أعوام.
وتتفق هذه الأنماط مع إعادة هيكلة الطلب على العمالة نحو هذه المهارات. ويظهر السؤال هنا: ما السبب وراء ذلك؟ الجدير بالذكر هنا أننا وجدنا أن متطلبات المهارات التي حللناها، مثل التعليم والخبرة والمقدرة التحليلية ومهارات الحواسيب، تكمّل التقنيات الجديدة. (نحدد متطلبات المهارات التحليلية بوجود كلمات مفتاحية مثل "البحث" و"القرار" و"حل"). وفي حال حدوث تحول هيكلي يتماشى مع "التغير التقني المنحاز إلى الروتين"، نتوقع أن تكون التغيرات في متطلبات المهارات مصحوبة بالاعتماد المتسارع على مثل هذه التقنيات. وهذا ما وجدناه تماماً. حيث يرتبط ازدياد متطلبات المهارات بالاستثمارات الرأسمالية في كل من المدن الكبرى والشركات الفردية.
وباستخدام قاعد بيانات "تقنية سي آي" (Ci Technology) من شركة "هارت هانكس" (Harte-Hanks) المختصة باستخبارات السوق، وجدنا أن الشركات في المدن الكبرى المنكوبة اعتمدت أجهزة الحواسيب الشخصية سريعاً في نفس الوقت الذي زادت فيه متطلبات المهارات في إعلانات الوظائف. ولا تظهر هذه الاختلافات إلا بعد الركود العظيم، وتستمر طوال فترة العينة. سعينا أيضاً إلى ربط الشركات الموجودة في قاعدة بيانات إعلانات التوظيف بالشركات المسجلة في قاعدة بيانات شركة "هارت هانكس" وبشركات المساهمة العامة في قاعدة بيانات شركة "كومبوستات" (Compustat) أيضاً. وظهر لنا أن الشركات الأكثر زيادة في الاستثمارات الرأسمالية، سواء في اعتماد الحواسيب الشخصية أو حيازات فعلية لرأس المال، من المرجح أن تزيد متطلبات المهارات في إعلانات وظائفها.
وفي حال ارتباط هذه الزيادة في الاستثمارات ومتطلبات المهارات بالتقنيات المنحازة نحو الروتين، نتوقع حدوث أقوى التغييرات في الوظائف المتأثرة بمثل هذه التقنيات أي الوظائف الروتينية. ومن المهم هنا أن نميّز بين الوظائف الروتينية المعرفية (المكتبية والإدارية ووظائف المبيعات) وبين الوظائف الروتينية اليدوية (مثل الوظائف الإنتاجية والتشغيلية). بالنسبة للوظائف الروتينية اليدوية، وجدنا دليلاً يتفق مع واقع استبدال الشركات للعمالة بالتقنية - إذ لاحظنا زيادة حادة في خطر تسريح الموظفين في المناطق المنكوبة في وقت مبكر من الركود العظيم، متبوعاً بهبوط مستمر لمستوى العمالة مع تأثر بسيط لمتطلبات المهارات. وهذه وجهة النظر التقليدية التي ظهرت في دراسات الاستقطاب الوظيفي ومنشورات الصحافة الشعبية حول الخوف من الأتمتة وهي: فقدان فرص العمل خاصة في الوظائف التي نتوقع استبدالها بالآلات سريعاً.
ولكن بالنسبة للوظائف الروتينية المعرفية، كانت على النقيض تماماً من وجهة النظر التقليدية حول استبدال العمالة. فلم يشهد هذا النوع من الوظائف، مثل الوظائف المكتبية ووظائف المبيعات، سوى زيادة متواضعة في خطر التسريح، كما لم تقل فيه فرص العمل نسبياً في المدن الكبرى المنكوبة. بل على العكس، تظهر دراستنا أن هذه الوظائف شهدت زيادة واضحة ونمواً بسيطاً نسبياً في الأجور والتشغيل بعد فترة الركود. أي بدلاً من أن تختفي هذه الوظائف الروتينية المعرفية الصامدة تماماً، أصبحت أكثر إنتاجية وتتطلب مهارات أعلى. وبالتالي أصبحت هذه الوظائف أقل روتينية وتتسم بطابع تحليلي أكثر بسبب الركود العظيم.
وباختصار، نجد أنه من المرجح أن تستثمر الشركات التي تضررت بشدة من الركود العظيم في التقنيات الجديدة. وفي حين أن هذه التقنيات ربما قادت إلى استبدال بعض أشكال الوظائف الروتينية من ناحية، إلا أنها، على ما يبدو، قد ساهمت في زيادة الطلب على مهارات أعلى للموظفين للقيام بوظائف روتينية أخرى، من الناحية الأخرى.
لقد شهد اقتصاد الولايات المتحدة تغييرات كبيرة عبر الأعوام الثلاثين الماضية بسبب ثورة الحواسيب والعولمة. وقد أدت هذه التغييرات إلى زيادات كبيرة في الإنتاجية والثروة، إلا أن هذه الفوائد لم تتوزع بين جميع الموظفين. إذ عانى العديد من الموظفين، الذين عملوا سابقاً في وظائف روتينية، من أضرار دائمة من حيث صحتهم وآفاقهم الاقتصادية. لذلك، تسلط نتائجنا الضوء على فكرة ازدياد صعوبة تكيّف الموظف مع هذه التغييرات، لأنها فجائية وتتركز في فترات الركود. وبالتالي، وخلال فترة قصيرة، قد يلاحظ الموظفون انخفاض قيمة مهاراتهم وفقدان أهميتها، إلى جانب محدودية الآفاق المتعلقة بإيجاد فرصة إعادة توظيف مماثلة. وحتى الآن، لم تتوصل السياسة العامة إلى طريقة لإعادة تعيين الموظفين على نطاق واسع بعد فترة ركود، أو لتقديم برامج تدريبية حول المهارات الجديدة التي يطلبها أصحاب العمل، إلا أنه من المرجح أن تزداد الحاجة إلى القيام بذلك.