هل تعد المهن التي تتطلب رخصة لمزاولتها مفيدة للمستهلكين؟

6 دقائق

على مدار العقود القليلة الماضية تغيرت سوق العمل في الولايات المتحدة الأميركية بأساليب عدة، لكن أحد الاتجاهات التي لم تحظ باهتمام كافٍ هي الارتفاع المطرد في الترخيص المهني: إذ تتطلب المزيد والمزيد من الوظائف حصول العمال على رخصة ليتمكنوا من مزاولة مهنهم.

في خمسينيات القرن الماضي، كان نحو 5% من العمال في الولايات المتحدة يحملون رخصة مهنية؛ وهو ما يعني أنهم أكملوا تعليماً أو تدريباً إضافياً (ودفعوا الرسوم اللازمة) واجتازوا اختباراً ليحصلوا على رخصة مزاولة المهنة في ولاية معينة. واليوم، يقدّر مكتب إحصاءات العمل الأميركي أنّ 23% من العمال الذين يعملون بدوام كامل يحملون رخصة مهنية (للمقارنة، يحصل أقل من 3% من العمال بالولايات المتحدة على الحد الأدنى الفيدرالي للأجور أو أقل وينتمي أقل من 11% من العمال إلى نقابة عمالية حالياً). وجاءت هذه الزيادة الطفيفة في عدد العاملين المرخصين كنتيجة مباشرة لتنامي قوانين الترخيص المهني. في أوائل تسعينيات القرن الماضي، كانت 800 مهنة تتطلب الحصول على رخص لمزاولتها في ولاية واحدة على الأقل. وفي العام 2016، ازداد هذا العدد إلى ما يقارب 1,100 مهنة.

ويُعد الترخيص المهني هو النوع الأكثر صرامة من التنظيم المهني؛ لأنه يمنع الأفراد من مزاولة أي مهنة دون الالتزام بالشروط التي تفرضها الحكومة، ويختلف عن الأنواع الأخرى من التنظيم مثل قوانين المصادقة، التي تحمي المسميات الوظيفية (على سبيل المثال مسمى: محلل مالي قانوني)، لكنها لا تحظر العمل غير المعتمد، والتسجيل الذي يتطلب أن يقدم العمال بعض المعلومات الشخصية للحكومة.

ومُنحت الولايات الحق في ترخيص المهن بعد صدور قرار المحكمة العليا في قضية الطبيب الأميركي فرانك دنت ضد ولاية فرجينيا الغربية عام 1889، إذ طعنت هذه القضية في دستورية قانون الترخيص الجديد الخاص بالأطباء في الولاية، وحكمت المحكمة العليا بأنّ الولايات تملك سلطة تحديد المعايير اللازمة لدخول مجموعة من المهن، التي ربما تحمي المواطنين من "عواقب الجهل والعجز، بالإضافة إلى الغش والخداع". واليوم، يُعد الترخيص ضرورياً في كل المهن الخاصة بمجال الرعاية الصحية (ويشمل ذلك مختصي التدليك في معظم الولايات)، لكنه امتد أيضاً ليشمل وظائف مثل: رسامي الوشوم والمختصين في تثقيب الجسم والمعالجين بالموسيقى وحتى بائعي الزهور في ولاية لويزيانا.

ويزعم أنصار الترخيص المهني أنه يحسّن جودة الخدمات المقدمة للعامة. ومن خلال الإشارة إلى العامة بأن ممارس المهنة يلتزم بأدنى معايير الجودة أو عن طريق بناء رأس المال البشري للممارس، ربما يؤدي الترخيص إلى زيادة الطلب على الخدمة المرخصة حديثاً.

لكن منتقدي الترخيص يشيرون إلى أنّ الجمعيات المهنية تضغط من أجل الترخيص المهني بدافع المصلحة الذاتية، لتقييد المنافسة وزيادة الأرباح. ويقولون إنه بدلاً من خدمة الصالح العام، يضر الترخيص المستهلكين من خلال تقييد الوصول إلى الخدمات المهنية.

وعند اختبار هذه النظريات، وجد الباحثون أدلة على تكاليف الترخيص المهني على العمال والمستهلكين. على سبيل المثال، سلط تقرير نُشر بواسطة البيت الأبيض في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في يوليو/تموز عام 2015 الضوء على تكاليف معينة مثل الأسعار الأعلى بالنسبة للمستهلكين وفرص العمل الأقل للعمال الطامحين. ووجدت دراسة أخرى أنّ الترخيص ربما يزيد تكاليف الرعاية الصحية نتيجة لفرض قيود على ممارسي التمريض المرخصين في العمل وفقاً لأقصى مدى من تدريبهم الطبي (على سبيل المثال، تسمح بعض الولايات للممرضين بالعمل بشكل مستقل، في حين تطلب ولايات أخرى إشرافاً طبياً مباشراً على الممرضين). وتم التوصل إلى نتائج مماثلة بالنسبة لمساعدي الأطباء والممرضات القابلات.

ولم تجد هذه الدراسات أدلة على حدوث تحسّن في النتائج الصحية نتيجة لقوانين ترخيص أكثر تقييداً. وفي أفضل الأحوال كانت الأدلة على أنّ الترخيص الأكثر صرامة يحسن الجودة بشكل عام مختلطة.

لكن ماذا عن تأثير الترخيص على الأرباح؟ على الرغم من أنّ هناك أدلة متزايدة على أنّ الترخيص يزيد أجور الممارسين المرخصين محلياً، إلا أننا لا نعرف الكثير عن كيفية تأثير الترخيص المهني على العمال في المهن ذات الأجور المنخفضة أو المتوسطة تحديداً. وفي بحث أخير (شاركنا فيه مع آنا ريفرز، الباحثة آنذاك بمركز ميركاتوس، وهو مركز بحثي مهتم بالسوق الحرة في جامعة جامعة جورج ميسون الأميركية)، قدرنا التأثير الذي سببه قانون ترخيص فنيي البصريات في الولايات على أرباحهم وجودة خدماتهم. ومن خلال التركيز على هذه المهنة، يمكن اكتشاف المزيد عن التأثير المحدد لمتطلبات الترخيص (مثل الرسوم ومتطلبات التدريب) على العمال ذوي الدخل المنخفض والمتوسط.

ترخيص البصريات في الولايات المتحدة

فنيو البصريات هم ممارسون فنيون متخصصون في تركيب وتجهيز العدسات اللاصقة والنظارات الطبية. وكانت كارولينا الجنوبية هي أول ولاية تمرر قانوناً لترخيص عمل فنيي البصريات عام 1917 (كان أطباء العيون والجمعيات المهنية لفنيي البصريات من أوائل مؤيدي ترخيص عمل فنيي البصريات). اليوم تطلب 21 ولاية من فنيي البصريات أن يحصلوا على رخصة لمزاولة المهنة. وعلى الرغم من ذلك، مثل العديد من المهن المرخصة الأخرى، تختلف متطلبات الولايات لمزاولة مهنة البصريات بشكل كبير. ففي العام 2012، تراوحت الرسوم اللازمة للحصول على رخصة مزاولة المهنة من 70 دولار أميركي في ولاية فيرمونت إلى 850 دولار أميركي في ولاية فلوريدا. وتراوحت مدة التعليم والتدريب من (0 يوم في كاليفورنيا إلى 1,128 يوماً في نيفادا). ويختلف عدد الاختبارات التي يجب أن يجتازها فنيو البصريات أيضاً من مجرد اختبار واحد في ولايتي كارولينا الشمالية وفيرمونت إلى 4 اختبارات منفصلة في ولاية كونيتيكت.

واستفدنا من الاختلافات في الوقت الذي أصدرت فيه الولايات التشريعات لنفهم تأثير الترخيص على أرباح فنيي البصريات بشكل أفضل. استخدمنا مجموعة بيانات لـ13,577 فني بصريات تمت مراقبتهم بين عامي 1940 و2000 (مأخوذة من بيانات التعداد الأميركي لكل 10 سنوات) وبين عامي 2001 و2012 (مأخوذة من بيانات مسح المجتمع الأميركي). وتحكمنا في عوامل أخرى (مثل السن والعرق والتعليم والموقع الجغرافي) التي قد تؤثر على الأرباح في تحليلنا التجريبي.

وفي السنة التي تلي إصدار الولاية تشريع يلزم فنيي البصريات بالحصول على ترخيص، تزداد أرباحهم بنسبة 12% في المتوسط. وباستخدام متوسط الأرباح السنوية لفني بصريات غير مرخص كخط أساس، فإنّ هذا يمثل 3,600 دولار أميركي إضافية كل سنة. وقدرنا أيضاً تأثير كل اختبار إضافي مطلوب وكل 100 يوم إضافي مطلوب للتدريب على أرباح فني البصريات، ووجدنا زيادة بنسبة 5.4% و2.0% على التوالي على أرباح فني البصريات.

وسمحت لنا مجموعة بياناتنا أيضاً باستكشاف ما إذا كانت هذه الزيادة الناتجة عن الترخيص تتطور بمرور الوقت. إلى جانب ذلك أردنا أن نعلم ما إذا كان الترخيص يزيد الأجور على الفور أم أنّ تأثيره يستغرق بعض الوقت للظهور. ووجدنا أدلة على أنّ آثار ترخيص مهنة فني البصريات تكون أكثر وضوحاً في السنوات الخمس الأولى التي تلي اعتماد قوانين الترخيص فوراً (ربما أكثر بنسبة 16.9% من الذي جناه فني البصريات في المتوسط قبل إصدار قانون الترخيص). وتختلف هذه النتيجة عن دراسة أخيرة أخرى حللت آثار الترخيص المهني لثلاث عشرة مهنة مرخصة دولياً (لا تشمل مهنة فني البصريات) ووجدت أنّ أكبر زيادات الأجور الناتجة عن الترخيص المهني تحققت بعد 10 سنوات. ربما يكون أحد أسباب هذه النتيجة المختلفة هو أنّ بنود الحقوق السابقة في القوانين (التي لا تلزم الممارسون الحاليون بالمتطلبات الجديدة لقانون الترخيص) لم تكن سائدة على فنيي البصريات مقارنة بالمهن المرخصة الأخرى.

وفي حين لا يمكن لتحليلنا أن يحدد بشكل قاطع السبب وراء زيادة أرباح فنيي البصريات بعد الترخيص، فإنّ هذا التأثير ليس مفاجئاً إلى هذا الحد إذا كنت تفكر في قوى العرض والطلب في سوق العمل. فإذا كان على فنيي البصريات الطموحين فجأة أن يكملوا مستويات إضافية من التعليم ويدفعوا رسوماً ويجتازوا اختبارات للحصول على رخصة، سيكون دخول المهنة أكثر كلفة. ونتيجة لذلك، ربما يقرر أشخاص أقل أن يصبحوا فنيي بصريات، ما يقلل المعروض من العمالة ويزيد الأرباح لفنيي البصريات. ويمكن أيضاً أن يطلب فنيو البصريات رسوماً أعلى مقابل خدماتهم؛ لتعويض التكاليف الإضافية اللازمة لكي تصبح فني بصريات.

بالطبع قد يكون هناك تفسير آخر لزيادة الأرباح، وهو أنّ الترخيص أدى إلى رفع جودة فني البصريات؛ لذا كانت مهمتنا التالية هي فهم آثار الترخيص على جودة خدمات فني البصريات. ولأن الجودة يمكنها أن تكون غير موضوعية، حاولنا أن نقيسها بشكل غير مباشر. أولاً، قمنا بالمقارنة بين أقساط التأمين ضد الإهمال لفنيي البصريات في الولايات المرخصة وغير المرخصة في العام 2014. وإذا كان الترخيص يحسّن جودة خدمات فنيي البصريات، كان من شأننا أن نتوقع ملاحظة أقساط أقل للتأمين ضد الإهمال في الولايات المرخصة. ولم نجد أدلة على أقساط أعلى في الولايات المرخصة. في الواقع، كانت الولاية الوحيدة التي لديها قسط سنوي أعلى من المتوسط بـ25 دولار هي ولاية فرجينيا، وهي ولاية ترخص عمل فنيي البصريات.

ثانياً، فحصنا المشاركة في برنامج ولاية تكساس التطوعي لاعتماد فنيي البصريات. وبموجب قانون ولاية تكساس، يمكن أن يختار فنيو البصريات اجتياز اختبارين ودفع رسوم بقيمة 105 دولارات للولاية للحصول على شهادة الاعتماد واستخدام مصطلح "فني بصريات معتمد". يمكن أن يعمل فنيو البصريات في تكساس دون هذه الشهادة، لكن لا يمكنهم استخدام هذا المسمى الوظيفي المحمي.

وكنا نتوقع أن يحصل فنيو البصريات في ولاية تكساس على شهادة الاعتماد إذا أرادوا تمييز أنفسهم على أساس الجودة، لكننا وجدنا أنّ أقل من 3% من فنيي البصريات الممارسين في الولاية قرروا المشاركة في هذا البرنامج في العام 2014؛ وهو ما يعني أنّ معظمهم لم يكونوا مهتمين لإثبات جودة خدماتهم للمستهلكين بشكل خاص. ومن المثير للاهتمام أنه تم إلغاء قانون المصادقة في ولاية تكساس عام 2015.

هذه الأدلة بعيدة كل البعد عن كونها حاسمة ونهائية، لكنها تدعم الرأي القائل أنّ زيادات أرباح فنيي البصريات الناتجة عن الترخيص تقودها عوامل أخرى غير تحسّن الجودة. وتتسق هذه النتائج مع الدراسات الاستقصائية للأدبيات الحالية التي لا تجد أدلة كافية على أنّ الترخيص المهني مرتبط بتحسن جودة الخدمات المقدمة للمستهلكين.

وبالنسبة لمستهلكي خدمات تصحيح الإبصار، فإنّ أجوراً أعلى لفنيي البصريات تعني مجموعة تكاليف أعلى أو أقساط أعلى للتأمين على النظر. وتتسق هذه النتيجة مع نتائج تقرير إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما التي تربط الترخيص المهني بأسعار أعلى للخدمات المهنية. وبالنسبة لفنيي البصريات الطامحين لدخول المجال، ربما تكون التكاليف المرتبطة بالترخيص المهني عاملاً مثبطاً لهم.

ومع توفر مصادر بيانات جديدة عن نطاق الترخيص المهني، نحتاج إلى مراقبة هذه المؤسسة المهمة في سوق العمل عن كثب. تستمر نسبة العمال المتأثرين بشكل مباشر بالترخيص المهني في الزيادة؛ وهو ما يبرر دراسة تكاليف وفوائد الترخيص المهني بعناية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي