تفيد الأنباء أن الأعمال الأساسية لشركة "ياهو" (Yahoo) لا قيمة لها تقريباً، ويكافح المشترون لمعرفة ما إذا كان هناك شيء ذو قيمة فيها. كما تفيد أن القيمة السوقية لشركة "تويتر" (Twitter) قد انخفضت بعد تقرير أرباح سيئ". وبالنظر إلى هاتين الملاحظتين، يبدو أن الشركات التي سيطرت على سوقها تتعلم الآن أن الإكسير الساحر لتأثيرات الشبكة ومزايا "الرابح يحصد كل شيء" لا يمكن الوثوق بها.
طوّر الاقتصاديون نظرية تأثيرات الشبكة في سبعينيات القرن الماضي وصقلوها في التسعينيات، وصار كبار رجال الأعمال ورُوّاد الأعمال ووسائل الإعلام التكنولوجية يعتبرونها نوراً يهتدون به في طريقهم نحو الاقتصاد الجديد. يعمل الأمر على النحو الآتي: تدخل شركة سوقاً جديدة بسرعة، فتجتذب عملاء لها، ويجتذب هؤلاء العملاء المزيد من العملاء، وهكذا. وعليه، يشهد المتحرك الأول نمواً هائلاً ويحتلّ مكانةً مسيطرة في السوق مع كسب أرباح عظيمة. وإلى هنا تنتهي القصة.
نظرية الرابح يحصد كل شيء
طُبّق نفس التفكير على المنصات متعددة الجوانب التي تعتبر أعمالاً تجارية شبكية تربط بين أنواع مختلفة من العملاء المتفاعلين والمعتمدين على بعضهم كالمطاعم وأماكن تناول الطعام في حالة "أوبن تيبل" (OpenTable). أؤكد مرة ثانية، إذا حصل المحرّك الأول على بعض العملاء من أحد جوانب المنصة مثل رواد المطاعم، فإنه سيجتذب عملاء من الناحية الأخرى كالمطاعم، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى زيادة قيمة أعماله بالنسبة للعملاء في الجانب الأول. ومرة أخرى، تتمثل الفكرة في أن قوة الشبكة ستؤدي إلى نمو هائل لا ينقطع، وسيسيطر الرابح على كل شيء.
إلا أن الاقتصاديات الجديدة للمنصات متعددة الجوانب، التي نستكشفها في كتاب "الوسطاء" (Matchmakers)، توضح أن نظرية الرابح يحصد كل شيء لا تصف معظم منصات الإنترنت. فأي الأسواق ربحتها هذه الشركات بالفعل؟ إذا كنت تعتقد أن "جوجل" ربحت سوق البحث، و"فيسبوك" ربحت سوق "شبكات التواصل الاجتماعي" و"تويتر" ربحت سوق التدوين القصير، فأنت على حق جزئياً. ربما "ربحوا" القدرة على منح الأشخاص أنواعاً محددة من المحتوى والخدمات المجانية. إلا أن كل هذه الشركات تدفع للمستثمرين -جزئياً على الأقل- من خلال بيع الإعلانات للمسوّقين الذين يرغبون في الوصول إلى مزيدٍ من المشاهدين، ولم "تربح" أي منها ذلك الجانب من السوق. فهذه الشركات في الواقع تتنافس مع كثير من الشركات الأخرى على الدولارات التي تحصدها من المعلنين. ومؤخراً، أدت "فيسبوك" وظيفةً أفضل من "جوجل" أو "تويتر"، وقد انعكس ذلك على أرباحها وقيمتها السوقية. فماذا عن "ياهو"؟ لا تزال هي الرابح الذي سيطر على بوابات شبكة الويب، إلا أن المعلنين لم يعجبهم ذلك.
توضح التجربة لنا أن تأثيرات الشبكة قد تعمل بصورة عكسية أيضاً وتدمر القيمة بسرعة هائلة. وقد حدث هذا في كثير من مراكز التسوق، فعندما تنخفض معدلات تردد المستهلكين قليلاً على المركز التجاري، تغادر بعض المحلات المركز التجاري وتقل جاذبيته. ثم انخفضت معدلات تردد المستهلكين أكثر قليلاً، فأغلقت المزيد من المحلات، وأغلق المركز التجاري رسمياً. لقد واجهت بعض شركات الإنترنت مصيراً مشابهاً، مثل "ماي سبيس" (MySpace) في الولايات المتحدة، و"أوركوت" (Orkut) في البرازيل والهند. حيث نمت هذه الشبكات الاجتماعية بدرجة هائلة و"ربحت" سوق الشبكات الاجتماعية في دولها خلال العقد الأول من الألفية الثانية. إلا أن بعض الأشخاص انتقلوا إلى "فيسبوك" وتبعهم آخرون، فانحدرت كلتا المنصتين، حتى أغلقت "أوركوت" (Orkut) أعمالها رسمياً في سبتمبر/أيلول 2014، ثم اشترت مؤسسة "تايم" (Time, Inc.) ما تبقى من "ماي سبيس" في فبراير/شباط 2016، وهذا ربما يوضح الأمر برمّته.
تكمن المشكلة في أن تأثيرات الشبكة لم تعد قوية كما كان سابقاً. في الماضي، كان من الصعب عكس تأثيرات الشبكة في الصناعات التي اعتمدت على الشبكات المادية مثل السكك الحديدية والهواتف. عندما أطلقت هذه الشركات شبكاتها وسجّل بها العملاء، كان عليها أن تراهن برأسمال ضخم لتؤسس شبكتها الخاصة من أجل أن تكون منافسة. وحتى إذا كانت قد نفذت هذا الرهان، فإن منهج "الرابح يحصد كل شيء" قد يهدد أسعارها بشكل أكيد، فتهبط عند أول منافسة.
استخدام التكنولوجيا الحديثة
حالياً، صار من الممكن باستخدام التكنولوجيا الحديثة -مدعومة بالبرمجيات والإنترنت والخدمات السحابية- دخول المنافس السوق بأقل تكلفة ممكنة. والتنافس على السعر لا يهم كثيراً نظراً لأن الرابح الذي حصد كل شيء لا يطلب مقابلاً من عملائه على أي حال، فلا أحد يدفع لإرسال رسائل عبر "واتساب" أو استلامها، مثلاً. والأهم من ذلك، سهولة الوصول إلى المستهلكين. فالمنافسة ليست "على بُعد نقرة واحدة" كما يخبر قادة الإنترنت الجهات التنظيمية عادةً، لكن من الأسهل بالتأكيد البدء بمنصة على الإنترنت مقارنةً بإنشاء شبكة هاتف.
من الصعب إقناع الأشخاص أن أسواق الإنترنت لن يكون أساسها "الرابح يحصد كل شيء" دائماً، وأن تأثيرات الشبكة لا يمكن الاعتماد عليها لاستمرارية العمل. لماذا؟ إنهم يظنون أن هناك دليلاً يثبت خلاف ذلك أمام أعينهم، خاصة إذا كانوا يعيشون في وادي السيليكون. فقد ربحت "فيسبوك" كل شيء تقريباً في سوق وسائل التواصل الاجتماعي، وقد جعلت من الكثيرين مليارديرات، وغيرها العديد من الشركات الأخرى التي تتخذ مقرات لها بالقرب من مقرات "فيسبوك". وللشركات الأكثر شهرةً في وادي السيليكون رسومات بيانية توضح زيادة مفاجئة في نموها، ما يوضح قوة تأثيرات الشبكة.
لكن هذه الملاحظات تعتمد على مشاهدات لمدة قصيرة للغاية، ولا نعرف بعد مدى قوة أي من هذه الشركات لأننا لم نراقبها لمدة طويلة، وكثير من الأشخاص يجدون صعوبة في إدراك أن المستقبل قد يختلف تماماً عن الحاضر.
عُمر اقتصاد الإنترنت حوالي 20 سنة، وفي البداية ظنّ الأشخاص أن قادة السوق سيختفون في سنوات قليلة. فكان هناك دافع لبناء سوق للأسهم بسرعة، وحصاد تأثيرات الشبكة، وتحقيق النمو والوصول إلى مكانة مهيمنة في السوق، إلا أن هذه المكانة ثبت ضعفها. فقد شهدنا عدة موجات بالفعل أطاحت فيها منصات حديثة بالرابحين السابقين الذين قيست أعمارهم ببضع سنوات، فقد تغلبت "ماي سبيس" على "فريندستر" (Friendster) وخسرت كل شيء في مواجهة "فيسبوك" في أقل من عشر سنوات. ونحن الآن في منتصف زعزعة هائلة مع الانتقال إلى الهواتف المحمولة، حيث تحاول المنصات التي بدأت أعمالها منذ سنوات التأقلم على التحول السريع من بيئة متصفحات الإنترنت على الحواسيب الشخصية إلى بيئة تطبيقات الهواتف المحمولة.
ومع انخفاض تكاليف الدخول إلى السوق، والهبوط الطفيف في رأس المال، وسهولة التحول من جانب المستهلكين، وغياب أي علامات على توقف الابتكار المزعزع، تواجه جميع الشركات القائمة على الإنترنت مخاطر، حتى بعد أن حققت مؤقتاً حالة "الرابح يحصد كل شيء". فأكثر الأشخاص تعرضاً للمخاطر في رأينا هم من يعتمدون على الإعلانات، لأنهم حتى بعد أن سيطروا على بعض وسائل تقديم الإعلانات، لا يزالون يتنافسون مع جميع من طوّروا وسيلة مختلفة أو من يمكنهم ذلك.
وتتضح أهمية المنظور الزمني في ملحمة "مايكروسوفت" التي بدأت كمحتكر لا يُقهر ثم العودة من جديد. فيمكن القول إن "مايكروسوفت" حكمت صناعة تقنية المعلومات خلال المدة من 1990 حتى 2010، وقد حاولت وزارة "العدل" تفكيكها في أواخر التسعينيات لأنها ظنت، ووافقها الكثيرون، أن هذه هي الطريقة الوحيدة لخلق منافسة في سوق نظم التشغيل.
وعلى الرغم من اكتساحها لنظم الكمبيوتر بطرحها نظام "ويندوز" عام 1985، وحصولها على مزايا المتحرك الأول بتقديمها نظام تشغيل للهاتف المحمول قبل "آبل" أو "جوجل" بسنوات عديدة، خسرت "مايكروسوفت" معركة الهاتف المحمول. فلم تتمكن من تطويع الأطراف الثلاثة المعنية التي تحتاج إليها لعمل منصة للهاتف المحمول: صُنّاع الأجهزة المحمولة، ومطوّري التطبيقات، والمستخدمين.
بالتأكيد ما زالت "مايكروسوفت" شركة مهمة حتى يومنا هذا، وبإمكانها أن تعيد تقديم نفسها كشركة رائدة في الموجة الكبرى القادمة، لكنها فقدت مكانتها في مركز عالم تقنية المعلومات، وقد حدث ذلك في غضون 20 إلى 30 عاماً. هذه مدة قصيرة جداً مقارنة بالصناعات الكبرى للشبكة في الأيام الماضية.
الرسالة بسيطة: احذر الاعتماد على تأثيرات الشبكة ومبدأ الرابح يحصد كل شيء ومزايا المتحرك الأول، فبإمكان تأثيرات الشبكة خلق قيمة هائلة بسرعة، إلا أنها قد تدمرها بالسرعة ذاتها.