الرئيس التنفيذي ذو الكاريزما: هل هو نعمة أم نقمة؟

6 دقيقة
القائد
shutterstock.com/alice-photo
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: بداية من ثمانينيات القرن الماضي، حظي جيل كامل من الرؤساء التنفيذيين الخارقين بشهرة واسعة. ولكن بمرور الوقت أشارت الأبحاث إلى وجود بعض سلبيات القيادة لدى الرؤساء التنفيذيين الذين يتمتعون بشخصيات جذابة. ومع ذلك، فقد تصلح الجاذبية الشخصية على وجه الخصوص مع مفهومين تجاريين يتسمان بالغموض الكبير: الشركات الناشئة الريادية وعمليات التحول المؤسسي. فعندما يتعامل الجميع، من مستثمرين وموظفين وعملاء وموردين، مع مثل هذه الظروف التي يكتنفها الغموض؛ يمكن لشخصية القائد الجذابة أن تبث الثقة اللازمة في الناس لتحمّل المخاطر.

لعل الشركات الناشئة أو الشركات التي في حاجة ماسّة إلى التجديد ترى الاستثمار في القائد الاستثنائي مجدياً.

في عملي أستاذاً للقيادة بكلية هارفارد للأعمال، كنت أناقش مع طلابي قيادة جاك ويلش لشركة جنرال إلكتريك (General Electric) في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، وقد حضر ويلش في تسعينيات القرن الماضي وفي العقد الأول من الألفية الثالثة قرابة 12 مناسبة للمشاركة في هذه المناقشات.

خلال النصف الأول من كل جلسة كان الطلاب هم الذين يديرون مناقشة المثال وجاك ويلش يُنصِت بانتباه تام، بعد ذلك أطلب من ويلش أن يطرح أفكاره وردود فعله، وكنت أراقب الطلاب عندما يقف ويبدأ بالكلام. كنت ألاحظ أن أكثرهم كانوا مفتونين بالرجل؛ فقد كان يَفيض بطاقة وقوة تعجز الكلمات عن وصفهما، وكان الحوار بينه وبين الطلاب صريحاً وجاداً ومشحوناً بالطاقة. وفي اليوم التالي من الجلسة كنا نسأل الطلاب عن انطباعاتهم عنه، فكان الوصف الذي تكرر كثيراً جداً “يتمتع بالكاريزما”.

توفي ويلش في عام 2020، ومع شهرته في أغلب حياته فقد خلَّف إرثاً صعباً، وقد أقرّ له الجميع بالفضل في إحياء الشركة الأميركية المشهورة وتحقيق نمو غير مسبوق فيها، ولكنهم انتقدوه أيضاً لأنه كان مفرِطاً في صرامته مع الموظفين ومندفعاً للغاية، كما أنه أبدى تهوراً في دخول قطاعات كانت بعيدة كل البعد عن تخصصات جنرال إلكتريك الأساسية، مثل الخدمات المالية والإعلام والترفيه، فترك الشركة في وضع جرَّ على خلفائه تحديات عويصة.

ومع ذلك، لا شك في أنه كان رئيساً تنفيذياً يتمتع بالكاريزما في عصر نالت فيه هذه الصفة التقدير الذي تستحقه.

كان عالم الاجتماع البارز ماكس فيبر أول من تحدث (في العقد الثاني من القرن العشرين) عن دور الكاريزما في القيادة، ونظر إليها على أنها “صفة خاصة في شخصية الفرد تميز صاحبها عن غيره من الرجال العاديين كما لو أنه وُهِبَ قوى أو صفات خارقة للطبيعة أو فوق مستوى البشر أو على الأقل فذّة واستثنائية جداً”. ومن ثَمّ فالقادة أصحاب الكاريزما، تِبعاً لهذا الرأي، يشكّلون قوة فعالة في التغيير الاجتماعي.

لكن الكاريزما قد تكون أشبه بسيف ذي حدَّين. لخّص زميلي راكيش كورانا بعض الجوانب السلبية لهذا الطراز من القادة في مقالته التي نشرت في هارفارد بزنس ريفيو عام 2002 بعنوان “لعنة الرئيس التنفيذي النجم” (The Curse of the Superstar CEO)، وشرح فيها بحثاً أجراه عن كيفية اختيار مجالس الإدارة للرؤساء التنفيذيين.

ذكر كورانا أنه قبل عام 1980 كان الغالب على الرئيس التنفيذي العادي أن يكون من المغمورين الذين ارتقوا السلم في شركة واحدة ولا يعرفهم إلا المحيطون بهم. ومع ذلك، بدأت وسائل الإعلام الإخبارية في ثمانينيات القرن الماضي بتغطية أخبار مجموعة من قادة المؤسسات المهمّين أصحاب الكاريزما الساعين للشهرة، على غرار ما تفعله الصفحات الرياضية من تمجيد الرياضيين. فأصبح ويلش من المشاهير الحقيقيين، مع غيره من القادة من أمثال لي أياكوكا من شركة كرايسلر، ومايكل أيزنر من شركة ديزني، وجان كارلزون من شركة الخطوط الجوية الإسكندنافية، وأكيو موريتا من شركة سوني. وبمرور الوقت أصبحت مجالس الإدارة تركّز اهتمامها على اختيار الشخصيات الملهِمة التي تلقى قبولاً على شاشات التلفاز لإدارة شركاتها (وتزيد حزم التعويضات والمزايا لأولئك القادة بدرجة كبيرة حتى تضمن بقاءهم في مناصبهم). والنتائج عادة لم تكن عند حسن الظن كما ذكر كورانا، وأحد الأسباب هو أن نجاح الشركة يعتمد على عدة عوامل غير شخصية الرئيس التنفيذي.

أعجبني أنا والكثيرين غيري بحث كورانا الذي ناقشه باستفاضة في كتاب نُشر عام 2004 بعنوان البحث عن منقذ الشركة” (Searching for a Corporate Savior)؛ وهضمتُ نتائجه حول تكاليف الرؤساء التنفيذين ذوي الكاريزما ومزاياهم. بقدر ما أعجبني أسلوب بعض قادة الأعمال الذين استعانوا في تجديد نشاط الموظفين والتأثير في أصحاب المصالح بجاذبيتهم الشخصية، كنت أميل إلى النظر بعيون الرِّيبة إلى ولع البعض الآخر بالشهرة والأضواء. يشير البحث وتشير خبرتي الشخصية إلى أن أداء المؤسسات يتحسّن إذا تحلى قادتها التنفيذيون بالتواضع وهذَّبوا ذواتهم من الأنانية وحب الذات وركزوا تفكيرهم على فِرقهم؛ أولئك يقودون من منطلق الكفاءة لا من منطلق الكاريزما.

وحيث إني أرى جيلاً جديداً من رواد الأعمال والمسؤولين التنفيذيين الذين يتمتعون بالكاريزما يتولون قيادة شركات اليوم؛ فحكمي على أهمية الكاريزما في القيادة أصبح أكثر ارتباطاً بالسياق.

بدأت بتمييز سياقين على وجه التحديد، يمكن أن يكون الاعتماد فيهما على قوة الشخصية مجدياً.

السياق الأول في الشركات الريادية الناشئة: عند بداية مشروع جديد تنتاب كل المشاركين فيه، من مستثمرين وموظفين وعملاء وموردين، شكوك هائلة؛ هل سينجح المنتَج؟ هل سيلقى رواجاً؟ هل ستتوسع الشركة؟ ألن يسبقها المنافسون؟ بعيداً عن مجموعات شرائح العرض والتوقعات المتفائلة، تبدو الشركات الناشئة عملاً مستمراً متقلباً ومحفوفاً بالمخاطر ومتغيراً.

وفي المؤسسات التي تواجه الكثير من العوامل المجهولة، فمن الطبيعي أن يبحث الموظفون عن قائد يتحلى بقوة خاصة في الشخصية ليُعيد الاطمئنان والثقة إلى نفوسهم. في الشركات الناشئة تمنح كاريزما القائد الموظفين الثقة الكافية لقبول المخاطر التي قد تُقلِق أي شخص يفكر بمنطق سليم، وليس من قبيل المصادفة أن تستمد الكاريزما، وهي صفة قيادية تبثُّ فيمن حولها الإيمان، بعض قوتها من الدِّين. ويبدو أن الشركات الناشئة تنتفع من القائد الصاحب الكاريزما بطريقة مماثلة لانتفاع الدول من بعض القادة السياسيين أصحاب الكاريزما في فترات التقلبات الشديدة؛ وخذ تشرتشل مثالاً على ذلك.

خذ مثلاً ستيف جوبز؛ فقد كان مغروراً بنفسه معتاداً على ازدراء القواعد (كان يقود السيارات بلا لوحات لأنه لا يحب شكلها)، وفي الوقت نفسه كان جوبز فذّاً لا يشق له غبار في قدرته على ابتداع ما أسماه البعض بمجال تشويه الواقع، ووصف أحد الموظفين السابقين هذا المجال بهذه الكلمات: “مزيج مدهش من الأسلوب البلاغي الجذاب، والإرادة التي لا تُقهَر، والرغبة في تطويع الحقائق لتلائم الهدف الحالي. وإذا أخفق أحد أساليب النقاش في الإقناع فإنه ينتقل ببراعة إلى أسلوب آخر؛ وأحياناً يُفقِدك توازنك بغتة بتبنيه موقفك كأنه موقفه هو، دون الإقرار قَطّ بأنه فكَّر بطريقة مختلفة”.

يتذكر كثير من المراقبين اليوم أسلوب جوبز المميز، المتمثل في الرعونة والميل إلى الاستفزاز والقدرة على إلهام أتباعه، على أنه فضيلة وليس رذيلة. وعلى الرغم من الغطرسة وحب التباهي اللذين كان يتصف بهما، فقد ابتكر منتجات غيّرت وجه عالمنا، وهذه نقطة استدلالية وثيقة الصلة بالنقاش القائم حول إذا ما كانت مكاسب الكاريزما تفوق تكاليفها. ومع أن المجتمع شهد حجم الضرر الذي يمكن أن يسببه رواد الأعمال من أصحاب الكاريزما من أمثال إليزابيث هولمز وآدم نيومان وسام بانكمان فريد، فقد انتفعنا أيضاً من الرؤية الإبداعية لبعض المؤسسين أمثال جيف بيزوس ومارك زوكربيرغ وسارة بليكلي وريتشارد برانسون وأريانا هافينغتون وجاك ما، على الرغم من بعض الانتقادات المشروعة بحقهم.

السياق الثاني الذي يمكن فيه للكاريزما أن تكون نافعة جداً هو عمليات التحول في الشركات الراسخة. في أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين، ساعدت شخصية لي أياكوكا في إقناع الحكومة الفيدرالية أن تُقرِض شركة كرايسلر تجنباً لإفلاسها، ثم دعمت حملة إعلانية لإقناع المستهلكين بشراء خط إنتاجها الجديد من سيارات كيه (K-cars) والحافلات الصغيرة. وفي أوائل التسعينيات، ساعدت الكاريزما لو غيرستنر على إقناع المعنيين في شركة آي بي إم التي كانت تتقدم ببطء أن التغيير ضرورة مُلحة وواجبة. وفي السبعينيات اعتمد جوبز على الكاريزما عند تأسيس شركة آبل، وفي أواخر التسعينيات اعتمد عليها مرة أخرى عندما عاد لإنعاش الشركة. وفي القرن الحالي، ساعد كلٌّ من إندرا نوي من شركة بيبسيكو (PepsiCo) وجيني روميتي من شركة آي بي إم (IBM) في بث حياة جديدة في شركتيهما.

عندما طرح ماكس فيبر فكرة الكاريزما للنقاش الدائر حول القيادة، كان يظن أن صعود المؤسسات الكبيرة الحديثة والبيروقراطية من شأنه أن يولي أهمية أكبر للكفاءة وحصافة الرأي مقارنة بالكاريزما،  ومنذئذ استمرت القيمة التي يعطيها الناس لكاريزما القائد بالتأرجح بين الزيادة والنقصان. واليوم عندما يجمعني العمل مع القادة المعَيَّنِين حديثاً في ورشة عمل الرؤساء التنفيذيين الجديدة التي نعقدها في كلية هارفارد للأعمال، أعجب من كثرة عدد من يرجون تجنب الأضواء منهم ويقللون ظهورهم أمام العامة. وبعد عشرين عاماً من تحليل كورانا التصحيحي، ابتعد الكثير من الشركات القائمة بالفعل عن السعي لتعيين رؤساء تنفيذيين مشهورين. فكِّر بسرعة: هل تستطيع تسمية الرؤساء التنفيذيين لشركات أيه تي آند تي (AT&T)، وزيروكس (Xerox)، أو إكسون موبيل (Exonmoli)، أو مجموعة يونايتد هيلث (UnitedHealth)؟

بدلاً من الانتهاء إلى الحكم بجدوى الكاريزما من عدمها في العموم، أو أن علينا اعتناق أسلوب ويلش في القيادة القائمة على الشخصية أو تجنبه؛ يجدر بنا أن نفكر بعناية في الظروف التي تزداد فيها أهمية الكاريزما أو تقل.

ربما كان القائد الاستثنائي ذو الكاريزما خياراً مدروساً بعناية بالنسبة للشركات الناشئة التي انطلقت توّاً أو التي في حاجة ماسة إلى التجديد.

في الختام، القائد الصاحب الكاريزما هو خيار فيه مجازفة كبيرة وفوائد كثيرة، ولا بد في أي سياق من الاعتراف بأن القائد الكاريزماتي قد يضر المؤسسة (بسوء الأداء أو سوء التصرف أو الغطرسة) وهو خطر حقيقي.  وفي الوقت نفسه نرى أن احتمالات نجاح عملية التحول في شركة راسخة، أو أن تتحول فكرة شركة ناشئة إلى شركة رائدة في مجالها ضعيفة جداً، وفوائد نجاحها قد تكون كبيرة جداً.

وبقدر ما يمكن للكاريزما أن تُقرِّب تلك الاحتمالات من النجاح ولو قليلاً، تصبح المخاطر مستحقة للمجازفة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .