ملخص: الوعود التي يقدمها الذكاء الاصطناعي مغرية جداً، مثل زيادة الإنتاجية وتحليل البيانات بسرعة البرق والتحرر من المهام الروتينية، والشركات والعاملون على حد سواء منبهرون ومذهولون بقدرة أدواته على إنجاز الكثير من المهام على نحو أسرع وأفضل من أي وقت مضى. وبسبب حماسة المؤسسات لمواكبة المنافسة وجني مكتسبات الكفاءة المرتبطة بتوظيف الذكاء الاصطناعي، غفلت غالبيتها عن أهم ما تملك، أي الموظفون الذين تتجزأ وظائفهم إلى مهام تنجز الآلات المزيد منها يوماً بعد يوم. في أربع دراسات، أفاد الموظفون الذين يعتمدون على الذكاء الاصطناعي في عملهم بأنهم يشعرون بالوحدة ويتناولون المهدئات ويعانون الأرق أكثر من غيرهم.
تخيل هذا السيناريو: تصل محللة التسويق جنا إلى عملها، ثم تشغّل جهاز الكمبيوتر، فيرحب بها مساعد الذكاء الاصطناعي الذي فرز بالفعل رسائل بريدها الإلكتروني ورتب مهامها حسب الأولوية لذلك اليوم، وأنشأ المسودات الأولى للتقارير التي كانت تستغرق كتابتها ساعات. تتعجب جنا (مثل كل من استخدم هذه الأدوات) من مقدار الوقت الذي يمكنها توفيره باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتشعر بأنها تستطيع أن تكون أكثر إنتاجية من ذي قبل بسبب تعزيز الذكاء الاصطناعي لكفاءتها، ونتيجة لذلك، تركز على إكمال أكبر عدد ممكن من المهام بالتعاون مع مساعد الذكاء الاصطناعي.
مع مرور اليوم واستمرار ارتفاع إنتاجية جنا وكفاءتها، يزداد شعورها بالعزلة عن زملائها في العمل، فقد كانت تتبادل الأحاديث الجانبية مع زملائها في أثناء حل المشكلات المتعلقة بالعمل، أما الآن يتولى مساعدها للذكاء الاصطناعي حل هذه المشكلات (بدقة وكفاءة أكثر من زملائها في العمل)، وهي تتساءل إذا ما كان زملاؤها في العمل يشعرون بالمثل، وإذا ما لاحظوا أنهم لا يتحدثون كثيراً كما في السابق. تدفعها هذه الرغبة في التواصل إلى محاولة الاختلاط بزملائها في العمل من خلال مساعدتهم، ولكنها لاحظت أيضاً أنها تعاني صعوبة في النوم في الآونة الأخيرة وأنها بدأت تتناول المهدئات بعد العمل.
قد تبدو هذه القصة تحذيراً مما قد يحدث لنا في المستقبل القريب، لكننا وجدنا في سلسلة من الدراسات أن قصة جنا باتت شائعة جداً.
الوعود التي يقدمها الذكاء الاصطناعي مغرية جداً، مثل زيادة الإنتاجية وتحليل البيانات بسرعة البرق والتحرر من المهام الروتينية، والشركات والعاملون على حد سواء منبهرون ومذهولون بقدرة أدواته على إنجاز الكثير من المهام على نحو أسرع وأفضل من أي وقت مضى. على سبيل المثال، أثبت الذكاء الاصطناعي قدرته على مضاهاة الأداء البشري أو التفوق عليه في مجموعة واسعة من المهام، مثل تحليل المستندات القانونية وتوقع المبيعات وفحص ملفات المرشحين للوظائف. تزداد الشركات التي تفيد أن عدم تبنيها للذكاء الاصطناعي هو أكبر المخاطر التي تواجهها، وتُظهر البيانات الحديثة أن 35% من الشركات العالمية تستخدم الذكاء الاصطناعي وأنه من المتوقع أن يصل حجم السوق العالمية للذكاء الاصطناعي إلى 1.85 تريليون دولار بحلول عام 2030.
وبسبب حماسة المؤسسات لمواكبة المنافسة وجني مكتسبات الكفاءة المرتبطة بتوظيف الذكاء الاصطناعي، غفلت غالبيتها عن أهم ما تملك، أي الموظفون الذين تتجزأ وظائفهم إلى مهام تنجز الآلات المزيد منها يوماً بعد يوم. قد يكون هذا الاتجاه مقلقاً من منظور العمل الذي يركز على الإنسان، فقد يؤدي التركيز الرئيسي على التكنولوجيا إلى نتائج غير مرغوب فيها من ناحية الموظفين، مثل تدهور الرضا الوظيفي والدافعية والصحة النفسية؛ إن كنت تريد أن تضمن نجاح مشاريع تبني الذكاء الاصطناعي وقابلية تطبيقها، فعليك التركيز على الإنسان أولاً ثم الذكاء الاصطناعي.
إن هذا التغاضي عن أولوية الإنسان في عملية تبني الذكاء الاصطناعي أمر مثير للدهشة إلى حد ما، فاهتمام المؤسسات الحديثة بالصحة البدنية والنفسية لموظفيها يزداد، وهي تبذل جهوداً كبيرة لتعزيز كل من الشمول والتواصل الاجتماعيين. ولهذا الاهتمام فوائد عدة، إذ تُظهر الأبحاث أنه عندما يتمتع الموظفون بعلاقات قوية بزملائهم في العمل، فإنهم يعتبرون مصالح المؤسسة أهم من مصالحهم الشخصية. في الواقع، تُظهر هذه الدراسات باستمرار أن الموظفين الذين يشعرون بالترابط الاجتماعي والرضا العاطفي في العمل تزداد مستويات اندماجهم وإنتاجيتهم في العمل والتزامهم تجاه مؤسساتهم، وهم أكثر استعداداً للتعاون والابتكار وبذل جهد أكبر مما هو مطلوب في وظائفهم. في المقابل، يكون الموظفون الذين يشعرون بالعزلة والبعد عن زملائهم أكثر عرضة للاحتراق الوظيفي والتغيب عن العمل والدوران الوظيفي. وهذه مشكلة، فبغض النظر عن درجة تقدم أدوات الذكاء الاصطناعي هذه أو تطورها، فهي شائعة وقابلة للاستبدال والتقليد، لذلك فهي ليست من الأصول الاستراتيجية التي تؤثر في نجاح الشركة وتكسبها ميزة تنافسية مستدامة على منافسيها، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا اهتمت الشركات بالموارد البشرية عند إدخال الذكاء الاصطناعي في معادلة العمل، حتى لا ينعزل الموظفون وتحبط معنوياتهم.
ثمة تساؤلات كبيرة في الوقت الحالي حول تأثير العمل مع الذكاء الاصطناعي في التواصل الاجتماعي بين الموظفين في العمل. للإجابة عن هذه الأسئلة، أجرينا 4 دراسات في ظروف ميدانية وتجريبية مختلفة، وتمثل نتائجنا إنذاراً للشركات التي تسارع إلى تعزيز قوة العمل لديها بالذكاء الاصطناعي.
كيف يزيد الذكاء الاصطناعي عزلة الموظفين في العمل
كانت الأهداف العامة لدراستنا هي (1) اختبار مدى تأثير العمل مع الذكاء الاصطناعي في التواصل (أو بالأحرى تسببه بغيابه) بين الموظفين، و(2) توثيق التبعات الحقيقية الضارة جداً لغياب التواصل. درسنا أنواعاً مختلفة من الذكاء الاصطناعي في عينة متنوعة عالمياً لإظهار قابلية التعميم الواسعة وقابلية تطبيق النتائج التي توصلنا إليها. وقد صُممت كل دراسة لتعزيز الرسالة الأساسية لدراستنا، وهي ترسم في مجملها صورة مقلقة لرفاهية الموظفين الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي في عملهم.
في الدراسة الأولى، أجرينا مقابلات مع عينة من 166 مهندساً في شركة تايوانية للطب الحيوي. عمل هؤلاء الموظفون مع الشركة مدة 3 أعوام في المتوسط، وعملوا مع أنظمة الذكاء الاصطناعي مدة تزيد قليلاً على عامين. سألناهم عن (أ) وتيرة تفاعلهم مع الذكاء الاصطناعي (في الأسبوع الأول)، و(ب) شعورهم بالوحدة ورغبتهم في التواصل مع الآخرين (في الأسبوع الثاني). وفي الأسبوع الثالث، تحدثنا إلى أشخاص مقربين منهم، فسألنا زملاءهم في العمل عن مدى تعاونهم، وتحدثنا مع أفراد أسرهم عن تناولهم للمهدئات بعد العمل ومعاناتهم الأرق. أظهرت النتائج التي توصلنا إليها أن المهندسين الذين عملوا بدرجة أكبر مع الذكاء الاصطناعي أظهروا رغبة أقوى في التواصل مع الآخرين، ما أدى إلى بعض السلوكيات الإيجابية حيث ساعدوا زملاءهم في إعادة التواصل معهم. لكنهم أبلغوا أيضاً عن شعور أكبر بالوحدة، ما أدى إلى زيادة تناول المهدئات والإصابة بالأرق.
أجرينا عدة دراسات تجريبية مكملة للتحقق من صحة النتائج ودقتها، وفي اثنتين من هذه الدراسات، تواصلنا مع مجموعة من 120 مستشاراً عقارياً في شركة إندونيسية لإدارة العقارات (متوسط مدة خدمتهم نحو 3 أعوام، وقرابة عامين من العمل مع الذكاء الاصطناعي) و294 موظفاً في وحدات العمليات التشغيلية والمحاسبة والتسويق والمالية في شركة تكنولوجيا ماليزية (متوسط مدة الخدمة أكثر من 3 أعوام بقليل، أكثر من عام ونصف منها كانت بالعمل مع الذكاء الاصطناعي). يستخدم الموظفون في كل من هذه الشركات الذكاء الاصطناعي لدعم أنشطة عملهم اليومية، مثل البحث عن المعلومات وإنشاء محتوى وتوليد أفكار جديدة. وقد سمحت لنا كل شركة بتكليف بعض موظفيها عشوائياً بعدم العمل مع الذكاء الاصطناعي مدة 3 أيام، أجرينا خلالها قياساً لكل متغير من متغيرات الدراسة. أظهرت النتائج مجدداً أن الموظفين الذين استمروا في العمل مع الذكاء الاصطناعي كانت لديهم رغبة أكبر في التواصل مقارنة بالآخرين، وشعروا بالوحدة أكثر منهم، وكانت النتائج المترتبة على ذلك تقديم الموظفين الذين شعروا بالحاجة إلى التواصل المزيد من المساعدة لزملائهم، وتناول المشاركين الذين شعروا بالوحدة للمهدئات (في إحدى الدراسات) وإصابتهم بالأرق.
تُظهر هذه النتائج عموماً أنه كلما زاد تعاون الموظفين مع الذكاء الاصطناعي الذي يساعدهم على إنجاز المزيد من المهام، زاد شعورهم بالحرمان الاجتماعي لأن العمل استحوذ على يومهم بالكامل. أيقظت هذه الحالة من عدم التواصل مع البشر خلال يوم العمل رغبة إنسانية قوية في التواصل مع الآخرين في العمل، إذ تسبب تفاعلهم مع الذكاء الاصطناعي في تراجع التواصل الاجتماعي مع زملائهم في العمل، فدفعهم هذا الوضع إلى اتخاذ إجراءات لإعادة التواصل. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الإجراءات، ما زال هؤلاء الموظفون يشعرون بالعزلة والاغتراب الاجتماعي. وهذا يعني أن تفاعلهم مع الذكاء الاصطناعي جعلهم أكثر كفاءة وقدرة على إنجاز المزيد من العمل، لكنه في الوقت نفسه جعلهم يشعرون بالوحدة، ما أدى إلى زيادة احتمال لجوء الموظفين إلى تناول المهدئات ومعاناتهم الأرق، وهي مؤشرات تحذيرية مقلقة على الشعور بالضيق الاجتماعي واعتلال الصحة، التي تُظهر الأبحاث أن لها آثاراً سلبية على جودة الحياة والمزاج والوظائف الإدراكية والسلوك والصحة عموماً.
ترسم هذه النتائج صورة معقدة للتكلفة الاجتماعية التي يخلقها الذكاء الاصطناعي في مكان العمل. فمن ناحية، قد تؤدي العزلة الناجمة عن استخدام الذكاء الاصطناعي إلى تحفيز الموظفين على الاهتمام بعلاقاتهم الإنسانية أكثر والبحث عن الدعم الاجتماعي الذي يفتقدونه. لكن من الناحية الأخرى الأهم، قد تؤدي هذه العزلة إلى تآكل أساسات تلك العلاقات، أي الشعور بالإنسانية الحقيقية المشتركة الذي يدعم التواصل والتعاون الحقيقيين، ونتيجة لذلك قد تقوض العزلة صحتهم النفسية والبدنية.
ما الذي يمكن للشركات فعله
لمواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي والاستفادة من إيجابياته في مكان العمل بالنسبة للموظفين، يجب على قادة الشركات أن يوازنوا بين السعي لتحقيق الكفاءة والالتزام الشديد برفاهية الموظفين وترابطهم الاجتماعي. إليك بعض الخطوات الرئيسية التي يمكن للشركات اتخاذها:
مراقبة الرفاهية
تُظهر النتائج التي توصلنا إليها مفارقة واضحة، وهي أن الإفراط في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي سعياً لتعزيز الإنتاجية قد يؤدي إلى تراجعها بمرور الوقت. فمن غير المرجح أن يقدم الموظفون الذين يشعرون بالوحدة والعزلة أفضل ما لديهم في العمل، إذ تقل احتمالية تعاونهم أو ابتكارهم أو بذلهم جهداً إضافياً من أجل مؤسساتهم. لذلك، على المؤسسات مراقبة رفاهية الموظفين واندماجهم الاجتماعي في المؤسسة، وليس الأداء فحسب. يمكن أن تساعد الدراسات الاستقصائية المنتظمة واللقاءات وجلسات الاستماع إلى الملاحظات على كشف المشكلات قبل تفاقمها. كما يجب تتبع المقاييس، مثل مقياس تفاعل الموظفين والرضا الوظيفي والدعم الاجتماعي الذي يشعر به الموظف، بنفس القدر من الدقة التي تُقاس بها النتائج والإنتاجية. يساعد هذا النوع من الممارسات مؤسستك على العمل بطرق وقائية لتجنب وصول الموظفين إلى دوامة سلبية يعانون فيها نفسياً وبدنياً بسبب هيمنة الذكاء الاصطناعي على حياتهم العملية.
إعادة تصميم مراحل سير العمل
من الطرق الأخرى لتجنّب الآثار السلبية المتصاعدة لدمج الذكاء الاصطناعي في العمل على صحة الموظفين هي اعتماد نهج مدروس يركز على الإنسان في توظيف الذكاء الاصطناعي. يجب على المؤسسات إعادة تصميم مراحل سير العمل بحيث تستفيد من مواطن القوة الفريدة لكل من البشر والآلة عوضاً عن مجرد إضافة الذكاء الاصطناعي إلى العمليات الحالية. ويجب عليها تمكين الموظفين من التعاون مع الذكاء الاصطناعي بطرق تعزز استقلاليتهم وشعورهم بالسيطرة والإتقان وإحساسهم بأن عملهم له قيمة. تُظهر الأبحاث أن الموظفين الذين يشعرون بالسيطرة والاستقلالية في السعي لتحقيق هدف له مغزى يتمتعون بصحة نفسية جيدة.
اعتبار الذكاء الاصطناعي مجرد أداة
على المؤسسات إحداث تحول جوهري في عقليتها لتجنب العزلة وعدم التفاعل اللذين يتسبب بهما الذكاء الاصطناعي. فبدلاً من النظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه مجرد وسيلة للأتمتة والتحسين فحسب، يجب أن تعتبره المؤسسات أداة لتعزيز التجربة الإنسانية في العمل. ماذا يعني ذلك بالنسبة للمؤسسات؟ يجب أن يكون الهدف من توظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي إثراء عمل الموظفين. تُعد الكفاءة التي تحققها هذه الأنظمة فرصة لدعم الاحتياجات الاجتماعية والعاطفية للموظفين. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتولى المزيد من المهام، وفي الوقت نفسه يوفر القادة أماكن وأوقاتاً مخصصة للتواصل المباشر بين الموظفين، مثل تخصيص وقت لأنشطة بناء الفريق أو فعاليات اجتماعية أو حتى مجرد استراحات لتجاذب أطراف الحديث. يجب أن يكون الهدف هو تعزيز ثقافة تقدير التفاعل الاجتماعي وتشجيعه، وليس اعتباره مصدر إلهاء عن "العمل الحقيقي".
في الختام، مع ازدياد تغلغل الذكاء الاصطناعي في نسيج العمل، فإنه لن يؤثر في طرق أدائنا لوظائفنا فحسب، بل سيؤثر أيضاً في طريقة تواصلنا فيما بيننا بوصفنا زملاء وبشراً. لهذا السبب، من الضروري أن تدرك المؤسسات أنها عندما تستخدم الذكاء الاصطناعي لرفع الكفاءة والإنتاجية تقع عليها مسؤولية الحفاظ على جودة تفاعلات الموظفين وعمق علاقاتهم مع الآخرين. من أجل أخذ التبعات الاجتماعية في الحسبان عند النظر إلى مكتسبات الكفاءة التي يحققها الذكاء الاصطناعي، يجب اعتباره أداة قادرة على زيادة الإمكانات والمهارات البشرية لا أداة تحل محل العاملين البشر. ولا يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينجح بتعزيز الكفاءة إلا إذا تمكنت المؤسسة من توفير وظائف مُرضية ومترابطة اجتماعياً تؤثر إيجاباً في الصحة النفسية والبدنية لموظفيها.