في الإجازة الماضية، شاهدت والد زوجي يضع التقييمات لأكثر من 100 امتحان لصف المرحلة الثانوية الذي يُدّرسه. كانت الامتحانات في معظمها أجوبة عن أسئلة قصيرة. وكانت عملية التصحيح مملة وتتطلب وقتاً طويلاً، وقد استغرق ذلك منه ساعات، في وقت كان من المفترض أن يكون في إجازة. بدأت أتساءل إن كان ممكناً استخدام طريقة أسرع للقيام بذلك مثل استخدام الذكاء الاصطناعي في القطاع العام.
كيف يخدم الذكاء الاصطناعي القطاع العام؟
يؤدي استخدام الحاسوب لتصحيح نتائج الامتحانات هذا الغرض تماماً، حيث يتعلم الحاسوب من الإجابات السابقة ويتحسن كلما كرر المهمة، وهو نظام مستخدم فعلاً في بعض الجامعات وفي الدورات الكبرى على الإنترنت (MOOCs). إلى جانب ذلك، يستطيع الحاسوب وضع التقييمات لحزم من أوراق الطلاب سريعاً، مع إمكانية الإشارة لأوراق فيها عناصر غير مألوفة تحتاج إلى القليل من الرقابة البشرية.
كما يوفر هذا على المعلمين وقتاً يمكنهم استخدامه ليخططوا لدروس جديدة أو ليعطوا دروساً إضافية لطلاب يعانون من مشاكل دراسية أو ليزيدوا حصص القراءة، أو ببساطة ليستمتعوا بوقت عطلتهم.
لا يُعد هذا المثال لمساعدة مدرس في تصحيح أوراق الامتحانات بشكل أسرع، إلا مثالاً بسيطاً عن عدد كبير من الفوائد الواسعة النطاق التي يمكن أن يجلبها الذكاء الاصطناعي إلى القطاع العام. فاستخدام الذكاء الاصطناعي بإمكانه جعل الوكالات الحكومية أكثر كفاءة وتحسين رضا الموظفين الحكوميين عن عملهم وزيادة جودة الخدمات المقدمة. ويقلل هذا من تبديد الموهبة والحافز في القيام بمهام روتينية، في حين يمكّن توظيفهما للقيام بأشياء أكثر إبداعاً.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القطاع العام
تُعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القطاع العام كثيرة وآخذة بالنمو، وهناك تجارب أولية يتم تطبيقها في مختلف أنحاء العالم. بالإضافة إلى التعليم، ويستخدم الموظفون الحكوميون الذكاء الاصطناعي لمساعدتهم على اتخاذ قرارات حول مدفوعات الإعانات الاجتماعية وقرارات الهجرة وكشف الغش والتخطيط لمشاريع البنية التحتية الجديدة والإجابة عن استفسارات المواطنين والفصل في جلسات الكفالة وفرز حالات الرعاية الصحية وتحديد مسارات الطائرات من دون طيار. لهذا، فإنّ القرارات التي نتخذها اليوم سوف تحدد الشكل الذي سيكون عليه تأثير الذكاء الاصطناعي على هذه المهام الحكومية وغيرها. ومن هذه القرارات: ما المهام التي ستُسلّم للآلات؟ وكيف ينبغي على الحكومات توظيف وقت العمل الذي يتم توفيره بفضل الذكاء الاصطناعي؟
حتى الآن، تستخدم أفضل تطبيقات الذكاء الاصطناعي الواعدة التعلم الآلي، حيث يتعلم برنامج الحاسوب ويحسن إجاباته عن سؤال ما من خلال إنشاء وتكرار خوارزميات من مجموعة من البيانات. كثيراً ما تكون هذه البيانات بكميات هائلة ومن مصادر كثيرة، وهنا تتميز خوارزمية التعلم الآلي التي باستطاعتها إيجاد روابط جديدة بين بيانات لا يتوقعها البشر. على سبيل المثال، يعثر واتسون من شركة آي بي إم، وهو روبوت لتقديم توصيات العلاج، أحياناً على علاجات لم يكن الأطباء البشريون قد فكروا فيها.
كما أنّ برنامج تعلم الآلة قد يكون أفضل أو أرخص أو أسرع أو أكثر دقة من البشر في المهام التي تتضمن الكثير من البيانات والحسابات المعقدة أو المهام المتكررة ذات القواعد الواضحة. ولعل الكثيرين من العاملين في المؤسسات الحكومية، وفي الكثير من المؤسسات الكبرى الأخرى، يرون أنّ عملهم يقع تحت هذه التصنيف. فواقع أنّ العاملين الحكوميين يتبّعون مجموعة من القواعد (سياسة أو مجموعة إجراءات) يجعل منها فرصة كبيرة للأتمتة.
لكن هذا لا يعني أنّ على برنامج تعلم الآلة أن يكون أفضل من البشر في جميع النواحي حتى يُعتبر مفيداً. نحن نتوقع في مجال عملي أنّ الجزء الأكبر من "الثمار سهلة الحصاد" في استخدام الحكومة للتعلم الآلي سيكون السبّاق في التحليل أو اتخاذ القرار. سيأتي بعدها دور الحكم البشري ليكون حاسماً في تفسير النتائج أو إدارة الحالات الأكثر صعوبة أو الاستماع للاستئنافات.
وعندما يصبح قيام الموظفين الحكوميين بعملهم في وقت أقل أمراً ممكناً، يكون بوسع الحكومة تخفيض أعداد موظفيها، وإعادة الأموال التي توفرها من ذلك إلى دافعي الضرائب، وأنا متأكد من أنّ بعض الحكومات ستتبع هذا الخيار. لكنه ليس بالضرورة الخيار الذي أوصي به. بإمكان الحكومات بدلاً من ذلك أن تختار الاستثمار في جودة خدماتها. يمكنها إعادة توظيف العمال في عمل أكثر جدوى يتطلب تفكيراً جانبياً وتعاطفاً وإبداعاً، وهي جميعها أمور سيظل البشر متفوقين فيها على أكثر برامج الذكاء الاصطناعي تطوراً.
على سبيل المثال، يُعد تحديد المؤهلين للحصول على إعانات البطالة عملاً مهماً وله عواقب جسيمة. ربما تساعد تطبيقات التعلم الآلي في تسريع القرارات إما بإعطاء إجابة واضحة أو بالإشارة إلى الحالات التي يجب أن توكل للإنسان. هناك أوقات يكون فيها أعظم ما يتمنى المواطن الحصول عليه من حكومته هو إجابة سريعة بـ"نعم" أو "لا". وهناك في المقابل أحيان أخرى يكون سؤال المواطن أكثر تعقيداً، كأن يكون أحدهم عاطلاً عن العمل لعدة أشهر ويحتاج لحوار أطول يشمل بعض التدريب والمشورة والتشجيع، وهي أمور يستطيع الموظف البشري القيام بها بشكل أفضل بكثير من الحاسوب. ولعل هذه المهام هي أيضاً الجزء الأفضل في وظيفة الموظف الحكومي: أن يفكر في حل لمشكلة جديدة، وأن يساعد شخصاً يحتاج فعلاً للمساعدة. أضف لهذا أنّ مطالبة الإنسان بالعمل كالحاسوب في معالجة مطالبات بسيطة بينما يخفي تعاطفه وإبداعه، يُرهق الموظف الحكومي ويجعل تجربة تعامل المواطن مع حكومته مدعاة للإحباط.
بما أنني أكتب هنا كموظف حكومي سابق، والآن كاستشاري للحكومات بدوام كامل، أعي جيداً أنّ نسبة كبيرة من العمل الحكومي تتضمن أعمالاً مملة. فالإجراءات المعقدة التي لا تترك مجالاً للأفكار الجديدة تحوّل الموظفين الحكوميين الجدد المتحمسين إلى مادة للسخرية (وتشجعهم على ترك العمل الحكومي). هذا مسيء للموظفين الحكوميين، والأهم من ذلك، أنه مسيئ للحكومة أيضاً. لهذا تظهر استطلاعات دورية للآراء عن الثقة في الحكومة، قامت بإجراء بعضها مؤسسة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ووكالة إيدلمان، تظهر أنّ الثقة في الحكومة منخفضة، وآخذة بالتدهور. ربما يحسّن الأمور منح مساحة أكبر للعاملين الحكوميين لاستخدام مهاراتهم البشرية (الإحساس بالآخرين والإبداع والتفكير الجانبي) على اعتبار أنّ البشر أفضل بكثير من الآلات في هذا النوع من التفكير (والشعور). كما أنّ التواصل الهادف والحس السليم والفهم هو عادة ما ينشده المواطنون في تعاملهم مع حكومتهم.
إذا استُخدم الذكاء الاصطناعي في القطاع العام بشكل جيد، سيكون بوسع برامجه أن تجعل خدماتنا الحكومية أسرع وأكثر تلاؤماً. والقرار الحاسم الذي على الحكومات اتخاذه هو كيفية إعادة توظيف الوقت الذي توفره بفضل التقنية لمصلحة للمواطنين. وفي حين ستتغير الكثير من الصناعات والوظائف سريعاً، قد يجد المواطنون أنّ فرص الخوض في حوارات أطول وأكثر تفاعلاً مع موظفين حكوميين أهم من توفير الحكومة لخدمات أرخص.
الشكر لريتشارد ستيرلنغ و أنتون مارتينيو-ترستويل.
اقرأ أيضاً: