يُعتبر التعاقد نشاطاً شائعاً جداً، لكن عدداً قليلاً فقط من الشركات تقوم به بكفاءة وفعالية. ومن المرجح أنّ التعاقد غير الفعال يؤدي إلى خسارة الشركات ما بين 5% إلى 40% من القيمة في صفقة معينة، وذلك تبعاً للظروف. ولكن التطورات التقنية الأخيرة مثل الذكاء الاصطناعي في التعاقدات تساعد الشركات على التغلب على العديد من التحديات في التعاقد.
ينشأ التحدي الرئيسي الذي تواجهه الشركات في التعاقد، عن العدد الهائل من العقود التي عليهم تعقبها، فهي غالباً تفتقر إلى التجانس ويصعب تنسيقها وإدارتها وتحديثها. يضاف لهذا أنّ معظم الشركات لا تمتلك قاعدة بيانات لكل المعلومات في عقودها (ناهيك عن طريقة فعالة لاستخراج كل تلك البيانات). وبالتالي ليس هناك طريقة منظمة وسريعة لعرض اتفاقات التعاقد أو معرفة الكيفية التي تمت بها صياغة شرط معين عبر مختلف الأقسام. وهو ما يجعل التعاقد يتطلب الكثير من القوى العاملة لصياغة وتنفيذ وتحسين ليس فقط العقود نفسها، بل أيضاً عمليات التعاقد والمعاملات التي تحكم هذه العقود.
مثلاً، إذا وجدت شركة تقنية كبيرة أنّ لديها عدداً ضخماً من عقود الشراء المختلفة من حيث مواعيد تجديدها وشروط التفاوض عليها، فإنّ ذلك يتطلب مئات الساعات وفريقاً من مدراء العقود لاستعراض وتتبع كل هذه المعلومات لضمان عدم تفويت أي تجديد أو فرصة.
لكن برنامجاً للذكاء الاصطناعي باستطاعته استخراج البيانات وتوضيح مضمون العقود بسهولة. (بإمكانه أن يستخرج سريعاً وينظم مواعيد التجديد وشروط إعادة التفاوض من أي عدد من العقود). ويمكنه أن يسمح للشركات مراجعة العقود بسرعة أكبر، وتنظيم وتحديد أعداد كبيرة من بيانات العقد بسهولة أكبر، وتقليل احتمال حدوث نزاعات حول التعاقد (والمفاوضات العدائية في العقود)، وزيادة عدد العقود التي يمكن التفاوض بشأنها وتنفيذها.
وجدت في بحثي أنّ العديد من الشركات تستخدم برامج لإدارة العقود، وأنّ عدداً أقل من الشركات (معظمها شركات لديها أعداد كبيرة من العقود الروتينية) تستخدم برامج أكثر تقدماً تتمتع بمقدرات الذكاء الاصطناعي. وشهدت هذه الشركات عموماً زيادة في الإنتاجية وكفاءة في التعاقدات.
استخدام برمجيات التعاقد المدعومة بالذكاء الاصطناعي يمنح الشركات القدرة على تحسين طرق تعاقدها، وهي سوف تفعل ذلك بثلاث طرق: تغيير الأدوات التي تستخدمها الشركات للتعاقد، والتأثير على محتوى العقود، والتأثير على إجراءات تعاقد الشركات.
أدوات محسّنة لإدارة العقود
مع أنّ برامج مراجعة الوثائق القانونية موجودة منذ سنوات، إلا أنها كانت تُستخدم تقليدياً لمساعدة الشركات على تخزين عقودها وتنظيمها. أما برمجيات العقود التي تستخدم الذكاء الاصطناعي فترفع سقف ما يمكن لهذه الأدوات إنجازه. إذ أنه باستطاعة برامج الذكاء الاصطناعي للتعاقد مثلاً تحديد أنواع العقود (حتى لو كانت بلغات متعددة) اعتماداً على التعرف على أنماط صياغة الوثيقة. ولأن برنامج الذكاء الاصطناعي للتعاقد يدرب خوارزميته على مجموعة من البيانات (العقود) من أجل التعرف على الأنماط واستخراج المتغيرات الرئيسية (الشروط، التواريخ، الأطراف، وما إلى ذلك)، فإنه يسمح للشركة بأن تدير العقود على نحو أكثر فعالية بفضل معرفتها ما يوجد في كل منها والوصول إلى محتوى كل منها بسهولة. كما يوفر برنامج الذكاء الاصطناعي توقعاً بسيطاً، وهو أمر له آثاره على ما يتبع من إجراءات الفحص النافي للجهالة (Due Diligence): بإمكان برنامج الذكاء الاصطناعي للعقود إجراء تدقيق سريع في عدد ضخم من العقود وتحديد العقود الفردية بناء على معايير تحددها الشركة.
كما تستطيع برمجيات الذكاء الاصطناعي الحالية أيضاً قراءة العقود بدقة بأي صيغة، وتوفير تحليلات حول البيانات المستخرجة من العقود، واستخراج بيانات العقود أسرع بكثير مما بإمكان فريق من المحامين فعله. ربما يبدو ذلك سيئاً بالنسبة للمحامين، ولكن هذا ليس هو الحال بالضرورة: وجود بيانات إضافية عن العقود يُمكّن الشركات من تحديث عقودها بصورة أكثر انتظاماً، ما يسمح للمحامين التركيز أكثر على دورهم الاستشاري بدلاً من دورهم كمراجعين للعقود.
المحافظة على اتساق العقود
تساعد برمجيات التعاقد القائمة على الذكاء الاصطناعي الشركات في المحافظة على اتساق الشروط واستخدامها في جميع عقودها. على سبيل المثال، إذا أرادت شركة تعريف مصطلح "معلومات سرية" بطريقة معيّنة في اتفاقيات عدم الإفصاح الخاصة بها، فعليها أن تحرص على أنّ جميع أقسامها تعتمد هذا التعريف، وأنّ التغييرات في التعريف يتم إدماجها بسرعة وبدقة لأن الاختلاف قد يضر بالشركة. وهنا، تستطيع برمجيات الذكاء الاصطناعي للعقود أن تُبقي هذا المصطلح متسقاً بسهولة عبر مختلف نماذج الشركة، وبإمكانها أن تحدد المصطلحات الأخرى التي تشير إلى مصطلح "معلومات سرية" في اتفاقيات عدم الإفصاح القادمة من الشركاء التجاريين.
توفر هذه القدرة على تحديد واستخراج نقاط رئيسية من البيانات، مساعدة كبيرة للشركات في تنظيم العقود وتنفيذها أيضاً. على سبيل المثال، يجب أن تحرص الشركة التي تملك عدداً كبيراً من عقود الموردين على تعقب الاختلافات في أحكام إنهاء العقود والأحكام المتعلقة بالعقوبات والأضرار، سواء في عقودها الخاصة أو في عقود الموردين. إلى جانب ذلك، تُعد إدارة الاختلافات مهمة ضخمة تتطلب مؤسسة تتصرف بصورة استباقية. لكن برمجيات الذكاء الاصطناعي للتعاقد يمكنها تسجيل وتوحيد هذه الأحكام في عقود الشركة وفي العقود الصادرة عن الموردين، ما يجعل من الأسهل بكثير عليها تحديد حالات عدم الامتثال وضمان التعامل معها على الفور.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن لبرامج العقود القائمة على الذكاء الاصطناعي إجراء تقييم سريع للمخاطر في العقود (إجراء تحليل مخاطر أسرع بكثير من فريق من المحامين) بتحديد المصطلحات والبنود التي تعتبر دون المستوى الأمثل. كما بإمكانها تقليل خطر الخطأ البشري في صياغة العقد والمراجعة.
إجراءات جديدة تتطلب مهارات جديدة
بما أنّ الأدوات الحالية للعقود القائمة على الذكاء الاصطناعي تغيّر المحتوى الفعلي للعقود، فإنّ ذلك يؤثر بدوره على عمليات التعاقد التي تستخدمها الشركات. سابقاً، كان التعاقد الناجح يتطلب مهارات في صياغة العقود والتفاوض بشأنها، فضلاً عن مهارات في إدارتها ومراجعتها. وكانت التعاملات التخصصية عالية القيمة تتطلب مجموعات من المحامين يقضون ساعات في إجراءات شاملة لتوخي الحيطة. وكان يُنتظر من محترفي العقود أن يجدوا طرقاً ذكية لصياغة العقود بحيث تشتمل على بنود تعجب عملاؤهم. وحتى المعاملات الأكثر روتينية كانت تتطلب من الموظفين إيلاء اهتمام وثيق للتفاصيل.
لكن عندما تُتخذ معظم إجراءات الفحص النافي للجهالة وتنظيم العقود (وحتى صياغة العقود) باستخدام برنامج للعقود قائم على الذكاء الاصطناعي، فإنّ الموارد اللازمة لإنتاج كمية كبيرة من العقود ستتغير، سواء كانت هذه العقود بسيطة أو معقدة. هذا لا يعني بالضرورة أنّ الشركات ستحتاج إلى عدد أقل من المحامين، بل يعني أنّ أدوارهم قد تتحول. على سبيل المثال، سوف يقضي المحامون وقتاً أطول في تقييم المخاطر وتقديم المشورة، بدلاً من مراجعة الوثائق. وبدلاً من وجود فريق كبير من الموظفين يعملون على إجراءات الفحص النافي للجهالة قبل التوصل إلى اتفاق، سيكون لدى الشركات فريق أصغر وأكثر مرونة يراجع وثائق تشير إليها البرمجيات ومن ثم يقدمون المشورة. في الواقع، يعتقد الأستاذ جيليان هادفيلد، أستاذ القانون في جامعة جنوب كاليفورنيا المتخصص في قانون العقود، أنّ الذكاء الاصطناعي في مجال التعاقد سيؤدي إلى استخدام أفضل للمواهب القانونية: "سيتحول تركيز المحامين من الأنشطة الروتينية إلى أعمال أهم بكثير تنطوي على صياغة الاستراتيجيات وإيجاد حلول للمشاكل القانونية المعقدة".
وبالمثل، سوف يتحول أيضاً دور محترفي إدارة العقود. في حين كان يعمل فريق كامل في السابق على جعل العقود ممتثلة للقواعد المتبعة، فإنّ أدوات الذكاء الاصطناعي تُمكّن منصة برمجيات مصممة جيداً (إلى جانب عدد قليل من الموظفين) من القيام بالمهمة. وبدلاً من أن تكون المهارات المؤسساتية عنصراً أساسياً في هذا الدور، سيحتاج مدراء العقود إلى المزيد من الخبرة الفنية والخبرة في سير الإجراءات للعمل مع البرنامج.
سوف تعني هذه التحسينات في الأدوات والمحتوى والعمليات أنّ التعاقد سيصبح أسرع وأفضل وأسهل حالما تصبح هذه التقنية أكثر انتشاراً. ولكن من المهم إدراك أنه في حين أنّ الذكاء الاصطناعي يعِد بالكثير، إلا أنه لن يقوم بكل شيء.
لا زالت تقنية التعاقد في منتصف الطريق: سيكون هناك تيار من التطور في صناعات لديها العقود القائمة على القوالب وعلى درجة عالية من الروتينية. ستُستخدم في هذه حالة الشركات تقنية الذكاء الاصطناعي للتعاقد ضمن نموذج بلوك تشين (Blockchain)، ما يسمح للعقود بالتطور. وبالتالي إعادة كتابة نفسها وفقاً لاحتياجات الأطراف. أما الاستخدام الرئيسي الآخر فسيكون في المساعدة على وضع معايير التعاقد، مثل كيفية مناقشة وهيكلة بعض البنود. عندما يتوفر للشركات التي تتفاوض على عقد وصول سهل إلى كل عقد مماثل من السنوات العشرين الماضية، مرتبة بالأولوية بحسب الصناعة، بصورة تمكنها من النظر في الصياغة الأكثر استخداماً، لا بدّ حينها أن نرى التفاوض على بنود العقد يصبح أقل إرهاقاً، ما سيؤدي إلى تسهيل إجراءات التعاقد.
إنّ تمييز ما بإمكان أدوات الذكاء الاصطناعي للتعاقد فعله، وما لا يمكنها فعله، هو المفتاح لتنفيذها واستخدامها بنجاح. في الوقت الحاضر، لعل أكثر من سيستفيد من هذه الأدوات هي الشركات التي لديها عدد ضخم من العقود وشركات تتسم معاملاتها بروتينية أكبر (سيقل الوقت الذي تستغرقه مراجعة العقود وصياغتها). لكن مع تطور الذكاء الاصطناعي في التعاقدات، من المؤكد أنها ستكون يوماً ما مفيدة لجميع الشركات.
اقرأ أيضاً: