كيف سيغير الذكاء الاصطناعي طريقة اتخاذنا للقرارات؟

5 دقائق
اتخاذ القرار باستخدام الذكاء الاصطناعي

وسط الطفرة الحالية التي نشهدها حول تأثير الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرار، ثمة قلق مشروع من تأثيراته المحتملة على عمل البشر. حاول الكثير من الناس توقع القطاعات والوظائف التي ستتأثر كثيراً والمهارات التي ستكون مطلوبة أكثر. (هل عليك تعلُّم كتابة الرموز البرمجية؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيحلّ محل المبرمجين أيضاً؟).

عوضاً عن محاولة التنبؤ بالتفاصيل، نقترح هنا مقاربة بديلة. تفيد النظرية الاقتصادية أن الذكاء الاصطناعي سيعلي من شأن قيمة القدرة على الحكم لدى البشر، بحيث سيكون البشر الذين يظهرون قدرة جيدة على الحكم أكثر قيمة. ولكن، علينا أن نكون دقيقين فيما نقول حتى نفهم ما الذي تنطوي عليه القدرة على الحكم جيداً، ولماذا ستصبح أكثر قيمة.

ما الذي يفعله الذكاء الاصطناعي، ولماذا يُعتبر مفيداً؟

يُنظر إلى التقدم المحقَّق أخيراً في مجال الذكاء الاصطناعي على أنه انخفاض في تكلفة التنبؤ.

والتنبؤ هنا لا نعني به المستقبل فحسب، بل يعني أيضاً استخدام البيانات التي تكون لديك من أجل توليد بيانات لا تمتلكها حالياً، ويكون ذلك عادةً عن طريق ترجمة كميات كبيرة من البيانات إلى أخرى أصغر يسهل التعامل معها.

على سبيل المثال، يُعتبر استخدام الصور المقسَّمة إلى أجزاء للتنبؤ بما إذا كانت الصورة تحتوي على وجه بشري أم لا مشكلة تقليدية للتنبؤ.

وتخبرنا النظرية الاقتصادية هنا أن الآلات، مع انخفاض تكلفة التنبؤ، تستطيع إنجاز المزيد على صعيد التنبؤ.

التنبؤ مفيد لأنه يساعد في عملية اتخاذ القرارات، غير أنه ليس المساهم الوحيد في هذه العملية، فالقدرة على الحكم تعتبر مساهماً أساسياً آخر. خذ، على سبيل المثال، شبكة بطاقات الائتمان التي تقرر قبول أو رفض أي محاولة لإجراء عملية سحب أو إيداع. تريد هذه الشبكات أن تسمح بالتعاملات الشرعية وترفض تلك الاحتيالية، وتستخدم الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بمشروعية كل عملية سحب أو إيداع. سيكون قرار الشبكات سهلاً في حال كانت هذه التنبؤات ممتازة، بحيث تُرفض عملية السحب أو الإيداع عندما يكون هناك احتيال فقط.

ومع ذلك، تُرتكب الأخطاء حتى من قبل أفضل برامج الذكاء الاصطناعي، ويبدو أن هذا لن يتغير قريباً. يعرف الأشخاص الذين يديرون شبكة بطاقات الائتمان بخبرتهم أن ثمة مقايضة بين اكتشاف كل حالة احتيالية وإزعاج المستخدم. (هل سبق أن رُفضت بطاقتك عندما حاولت استخدامها في أثناء السفر؟). وبما أن إرضاء العميل يُعتبر أهم شيء للأعمال في مجال بطاقات الائتمان، فهذا يعني أن هذه المقايضة لا يمكن تجاهلها.

يعني هذا أنه من أجل تحديد قبول العملية من عدمه، ينبغي لشبكة بطاقات الائتمان أن تعرف تكلفة الأخطاء. كم سيكون سيئاً رفض معاملة شرعية؟ وكم سيكون سيئاً السماح بعملية احتيالية؟

اقرأ أيضاً: تعرف على طرق صناعة القرار بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي

يجب على اتحاد البطاقات الائتمانية أن يقيِّم كيف تتأثر المؤسسة بكاملها عندما تُرفض أي عملية سحب أو إيداع مشروعة، وينبغي لهم أن يقايضوا بين هذا الأمر وآثار السماح بحصول عملية احتيالية، وهي مقايضة يمكن أن تؤثر على الأشخاص ذوي الملاءة المالية أكثر من مستخدمي البطاقات العاديين. لا يمكن لأي برنامج ذكاء اصطناعي أن يتخذ هذا القرار، بل ينبغي للبشر فعل ذلك، وهذا ما نسميه القدرة على الحكم.

فما الذي تنطوي عليه القدرة على الحكم؟

القدرة على الحكم هي عملية تحديد المكافأة على عمل محدد في بيئة محددة، وهي طريقة تعاملنا مع المنافع والتكاليف التي تنتج عن قرارات مختلفة في أوضاع مختلفة.

يُعتبر الاحتيال في بطاقات الائتمان قراراً يسهل شرحه في هذا الإطار. تنطوي القدرة على الحكم على تحديد مبلغ المال المفقود في عملية احتيالية، ومقدار استياء العميل الشرعي عند رفض عملية سحب أو إيداع، بالإضافة إلى المكافأة على فعل الأمور الصحيحة والسماح بالعمليات الجيدة ورفض السيئ منها. في الكثير من الأوضاع الأخرى، تكون المقايضات أكثر تعقيداً ولا يكون المكسب واضحاً. يتعلم البشر المكاسب الناجمة عن نتائج مختلفة عن طريق التجربة، حيث يحددون خياراتهم ويرصدون أخطاءهم.

الحصول على مكسب مناسب أمر صعب، إذ يتطلب منك أن تفهم ما الذي تهتم له مؤسستك أكثر، وما المنافع الناتجة عنه، وما الذي قد يجري على نحو خاطئ.

اقرأ أيضاً: 4 نماذج لاستخدام الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرارات

في الكثير من الحالات، وخصوصاً على المدى القريب، سيكون مطلوباً من البشر ممارسة هذا النوع من القدرة على الحكم. عليهم أن يتخصصوا في موازنة تكاليف القرارات المختلفة ومنافعها، ومن ثم يُدمج هذا الحكم مع التنبؤات الصادرة عن الآلة من أجل اتخاذ القرارات.

ولكن ألا يستطيع الذكاء الاصطناعي حساب المنافع والتكاليف بنفسه؟ وفي حالة بطاقات الائتمان، ألا يستطيع الذكاء الاصطناعي استخدام بيانات المستخدمين لتحديد المقايضة وتحسين فرص الربح؟ بلى، ولكن بعدما يعمل المتخصصين على برمجة الذكاء الاصطناعي ليعرف مقياس المنفعة المناسب. يُسلّط هذا الأمر الضوء على شكل محدد من القدرة على الحكم لدى البشر، وهو ما نعتقد أنه سيكون الأكثر شيوعاً والأكثر قيمة.

تحديد المكافآت المناسبة

يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتعلم من التجربة، تماماً مثل البشر. يُعتبر التعلّم المعزز (reinforcement learning) إحدى التقنيات المهمة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث يُدرَّب جهاز الكمبيوتر على اتخاذ إجراءات تزيد من وظيفة مكافأة معينة. على سبيل المثال، دُرّبت برمجية "ألفا غو" (AlphaGo) من "ديب مايند" (DeepMind) بهذه الطريقة من أجل زيادة فرصها في الفوز بلعبة "غو" (Go). عادةً ما يكون تطبيق طريقة التعلّم هذه في الألعاب سهلاً لأن المكافأة في الألعاب يمكن تحديدها وبرمجتها بسهولة، ما يؤدي إلى إبعاد دور الإنسان.

ولكن الغش ممكن في الألعاب، فوفقاً لتقرير نشرته "وايرد" (Wired)، عندما درّب الباحثون الذكاء الاصطناعي على لعب لعبة سباق القوارب "كوست رانرز" (CoastRunners)، عرف الذكاء الاصطناعي كيف يزيد نقاطه في اللعبة عن طريق الالتفاف بدلاً من إكمال دورة السباق كما كان مقصوداً. قد يرى المرء هذا الأمر نوعاً من البراعة، ولكنه قد يؤدي إلى نتائج عكسية عند استخدامه في تطبيقات غير تطبيقات الألعاب.

تتمثّل النقطة الأساسية في مثال "كوست رانرز" في أن الهدف الذي يُزوَّد به الذكاء الاصطناعي يختلف في معظم التطبيقات عن الهدف الحقيقي للمؤسسة الذي يصعب قياسه. وطالما بقي الحال على ما هو عليه، فسيلعب البشر دوراً رئيساً في القدرة على الحكم، ومن ثم، في صنع القرار في مؤسساتهم.

في الواقع، في حال كانت المؤسسة تخوّل الذكاء الاصطناعي اتخاذ قرارات معينة، فإن تحقيق المكاسب المناسبة للمؤسسة بأكملها يتطلب فهماً لكيفية اتخاذ الآلات لتلك القرارات. ما أخطاء التنبؤ المحتملة؟ وكيف يمكن للآلة أن تفهم الرسالة الخطأ.

ادخِل مجال هندسة مكافآت الوظائف. نظراً لأن الذكاء الاصطناعي يقدّم تنبؤات أفضل وأرخص، ثمّة حاجة للتفكير بوضوح وتحديد أفضل الطرق لاستخدام تلك التنبؤات. هندسة مكافآت الوظائف (Reward Function Engineering) هي وظيفة تحديد المكافآت لمختلف الإجراءات في ضوء التنبؤات التي يوفّرها الذكاء الاصطناعي. يتطلّب إتقان الأمر أن تفهم احتياجات المؤسسة وقدرات الآلة (ولا يشبه ذلك إطلاع الإنسان على الأمر للمساعدة في تدريب الذكاء الاصطناعي).

اقرأ أيضاً: أداة بسيطة تتيح لك اتخاذ القرارات بمساعدة الذكاء الاصطناعي

تنطوي هندسة مكافآت الوظائف في بعض الأحيان على برمجة المكافآت قبل التنبؤات، بحيث يمكن أتمتة الإجراءات. تُعتبر المركبات ذاتية القيادة من الأمثلة على هذه المكافآت ثابتة الرموز البرمجية، بحيث يكون الإجراء فورياً بمجرّد حصول التنبؤ. ولكن كما يوضح مثال "كوست رانرز"، فإن تصحيح المكافأة ليس أمراً تافهاً، إذ يجب على هندسة مكافآت الوظائف أن تضع في الاعتبار إمكانية أن يبالغ الذكاء الاصطناعي في تحسين مقياس النجاح، بحيث يتصرّف بطريقة لا تتوافق مع الأهداف الأوسع للمؤسسة.

في أحيان أخرى، تكون كتابة الرموز البرمجية الثابتة للمكافآت صعبة جداً. يمكن أن يكون هناك الكثير من التنبؤات المحتملة بحيث يكون الحكم مقدّماً على كل المكاسب شيئاً مكلفاً للغاية. بدلاً من ذلك، ينبغي لبعض البشر أن ينتظروا التنبؤ ليأتي بنفسه قبل أن يقيّموا المكاسب، ويُعد هذا الأمر أقرب إلى طريقة عمل معظم عمليات صنع القرار اليوم، سواء أكانت تتضمن تنبؤات مولّدة آلياً أم لا. يمارس البعض - البشر لا الآلات - فعلاً شيئاً من هندسة مكافآت الوظائف. فالأهل يعلّمون أولادهم القيم، والمرشدون يعلّمون الموظفين الجدد كيفية عمل النظام في المؤسسة، والمدراء يقدّمون الأهداف للموظفين ومن ثمّ يعدلونها لتحقيق أداء أفضل. نحن نتخذ القرارات ونحكم على المكافآت كل يوم، ولكن عندما نفعل ذلك من أجل البشر فإننا نجمع التنبؤ والقدرة على الحكم معاً، والدور المميَّز لهندسة مكافآت الوظائف ليس منفصلاً بالضرورة.

مع تحسّن الآلات فيما يتعلق بالتنبؤ، ستزداد القيمة المميَّزة لهندسة مكافآت الوظائف حيث يصبح تطبيق الأحكام البشرية أمراً مركزياً.

هل يقلل تنبؤ الآلات أم يزيد من حجم العمل المتاح للبشر في صنع القرار؟ لا يزال الوقت مبكراً جداً على الإجابة. فمن ناحية، سيحلّ تنبؤ الآلات محل التنبؤ البشري في صنع القرار. ومن ناحية أخرى، يُعد تنبؤ الآلات مكمّلاً للقدرة على الحكم لدى البشر. وعندما تصبح عملية التنبؤ أرخص سيرتفع الطلب على صنع القرار، لذلك سيكون هناك المزيد من الفرص لتطبيق القدرة على الحكم التي ينفذها البشر.

ولذلك، على الرغم من أن التكهّن بتأثير الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرار الكامل المتعلق بالوظائف سابق لأوانه، فلا شك في أننا سنشهد قريباً زيادة كبيرة للطلب على القدرة على الحكم التي ينفذها البشر على شكل هندسة مكافآت الوظائف.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يرغّبنا الذكاء الاصطناعي في اتخاذ خيارات أفضل؟

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي