شهد العالم على مدار الأشهر القليلة الماضية تسارع موجات تفشي مرض "كوفيد-19" التي اتخذت بصورة عامة المسار ذاته: متمثلاً في مرحلة أولية شهدت ظهور عدد قليل من الإصابات مع إبداء استجابة محدودة لمواجهة الفيروس، تلاها الصعود الشهير لمنحنى الوباء مصحوباً بإغلاق موسع بطول البلاد وعرضها سعياً لتسطيح المنحنى، وبمجرد وصول المنحنى إلى ذروته، تضطر الحكومات إلى مواجهة "القرار الأكبر" الذي وصفه الرئيس ترامب بأنه أهم قرار اتخذه طوال حياته والذي يتعلق بتوقيت وكيفية إدارة إجراءات رفع الحظر. فكيف يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لمواجهة الجائحة؟
ينصب التركيز منذ بداية الجائحة على مشاركة المعلومات المهمة (أو نقصها) بين البلدان بشأن انتشار المرض، لاسيما المعلومات الواردة من الصين، وفي المقابل، لا يُقال الكثير حول كيفية إدارة أزمة "كوفيد-19" بصورة أفضل من خلال الاستفادة من تقنيات البيانات المتقدمة التي أعادت تشكيل الأعمال التجارية على مدار الأعوام العشرين الماضية، ونناقش في هذا المقال إحدى الطرق التي تساعد الحكومات على الاستفادة من هذه التقنيات في إدارة أي جائحة قد تظهر في المستقبل، وربما يشمل ذلك المراحل الختامية للجائحة الحالية.
استخدام الذكاء الاصطناعي لمواجهة الجائحة
قوة التنبؤ المخصص
ثمة نهج بديل يمكن أن يستعين به واضعو السياسات للنظر في إمكانية إضافته إلى مزيج الإجراءات التي يتخذونها لمحاربة "كوفيد-19"، ويعتمد هذا النهج على تقنية التنبؤ المخصص التي أسهمت في إعادة تشكيل العديد من القطاعات على مدى السنوات العشرين الماضية، حيث تمكنت الشركات القائمة على البيانات (بدايةً من شركة "بيغ تيك" (Big Tech) وحتى شركات الخدمات المالية والسفر والتأمين والبيع بالتجزئة ووسائل الإعلام) من الوصول إلى توصيات مخصصة للمشتريات وممارسة التسعير المخصص والمخاطر والائتمان وغيرها من الأمور المشابهة باستخدام البيانات التي جمعوها عن عملائهم، اعتماداً على تقنيات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي.
ويمكننا الإشارة في هذا الصدد إلى مقال نُشر مؤخراً بمجلة هارفارد بزنس ريفيو، وفيه يشرح مينغ زينغ، الرئيس التنفيذي السابق للاستراتيجية في شركة "علي بابا"، كيف تمكنت شركة "آنت فايننشال" (Ant Financial)، وهي إحدى الشركات التابعة لشركته وتتولى عمليات إقراض الشركات الصغيرة، من تقييم المتقدمين للحصول على القروض بصورة آنية من خلال تحليل بيانات المعاملات وعمليات التواصل الخاصة بهم على منصات التجارة الإلكترونية الخاصة بشركة "علي بابا"، في حين تلجأ شركات مثل "نتفليكس" إلى تقييم الخيارات والخصائص السابقة للمستهلكين للتنبؤ ببرامجهم المفضلة ومشاهداتهم التالية.
ويمكن أن يحقق النهج ذاته نجاحاً في مواجهة أي جائحة، وأيضاً مع المرحلة المستقبلية لكوفيد-19، فبالاستعانة بمصادر متعددة للبيانات، يمكن تدريب نماذج تعلم الآلة لقياس المخاطر الصحية التي قد يعانيها الفرد نتيجة للعواقب الوخيمة (حال إصابته بمرض كوفيد-19)، ومعرفة مدى احتمالية احتياجه لتلقي رعاية طبية داخل وحدات الرعاية المركزة ذات الموارد المحدودة، ومدى احتمالية تعرضه للوفاة، وربما تشتمل على البيانات الأساسية للتاريخ المرضي للأفراد (في حالة كوفيد-19، يبدو أن شدة الأعراض تزداد مع التقدم في العمر، ووجود أمراض مصاحبة مثل داء السكري أو ارتفاع ضغط الدم)، بالإضافة إلى البيانات الأخرى مثل الوضع المعيشي للأسرة، إذ يمكن، على سبيل المثال، تصنيف شاب سليم على أنه "أكثر عرضة لخطر الإصابة" إذا كان يعيش مع كبار السن أو المرضى الذين قد يحتاجون إلى رعاية مكثفة إذا أصيبوا بالعدوى (ويصنف بخلاف ذلك بأنه "أقل عرضة لخطر الإصابة").
يمكن بعد ذلك استخدام هذه التنبؤات بالمخاطر الصحية لتخصيص السياسات والموارد على مستوى الفرد والأسرة، مع مراعاة موافقتها للالتزامات والمخاطر الصحية القياسية التي قد تساعدنا، على سبيل المثال، في تخصيص إجراءات التباعد الاجتماعي والحماية لأولئك الأكثر عرضة للمخاطر الصحية، مع السماح للأقل عرضة لهذه المخاطر بالعيش بصورة طبيعية إلى حد ما، ولا بد طبعاً من تحديد المعايير الخاصة بتصنيف الأفراد في مجموعات حسب الأكثر والأقل عرضة للمخاطر الصحية، مع الأخذ في الاعتبار كلّ من الموارد المتاحة ومخاطر المسؤولية الطبية، ومخاطر المفاضلات الأخرى، إلا أن مناهج علم البيانات المستخدمة لهذا الغرض موحدة وتُستخدم في العديد من التطبيقات.
ويتسم النهج المخصص بعدة مزايا، فقد يسهم في الوصول إلى بناء مناعة القطيع سريعاً وبعدد وفيات أقل، كما يتيح إمكانية تخصيص الموارد بصورة أفضل وأكثر إنصافاً، كالمعدات الطبية النادرة (مثل أجهزة الاختبار والأقنعة الواقية وأسرّة المستشفيات) وغيرها من الموارد.
ويمكن لاستراتيجيات رفع الحظر الاستفادة من هذا النهج بطريقة مماثلة في المراحل اللاحقة من الجائحة التي تمثل الخطوة الرئيسية التالية لكوفيد-19 في معظم البلدان، فتحديد الأشخاص الذين تبدأ بهم إجراءات رفع الحظر يمثل بطبيعة الحال مشكلة تصنيف مشابهة لمشاكل التصنيف المألوفة التي تواجهها معظم الشركات القائمة على البيانات، وتنتهج بعض الحكومات بالفعل خطوات لرفع الحظر بالاستعانة بالعمر كضامن للمخاطر، وهو تصنيف بدائي نسبياً قد يغفل الأفراد الآخرين الأكثر عرضة للمخاطر الصحية (كما في المثال المذكور أعلاه في حال الشباب الأصحاء الذين يعيشون مع كبار السن).
وقد تقودنا الاستعانة بإجراء التصنيف استناداً إلى البيانات ونماذج التنبؤ بالذكاء الاصطناعي إلى قرارات آمنة لرفع الحظر على مستوى المجتمع وبتكلفة أقل بكثير للفرد والاقتصاد، ونحن نعلم أن سرعة انتقال العدوى هي واحدة من أهم سمات "كوفيد-19"، ولكنه يتميز أيضاً بانخفاض حدة الأعراض المصاحبة له وتدني معدلات الوفيات الناجمة عن الإصابة به نسبياً، حيث تشير البيانات إلى أن أكثر من 90% من المصابين بالمرض لا تظهر عليهم أي أعراض أو أنهم يعانون أعراضاً طفيفة عند إصابتهم بالفيروس.
ويمكننا من الناحية النظرية إجراء توقع موثوق به لمعرفة الأفراد الذين يمثلون النسبة البالغة 90% حتى يمكننا رفع الحظر عنهم جميعاً، وحتى إن تسببوا في نقل العدوى فيما بينهم، فلن تصيبهم أعراض حادة ولن يشكلوا عبئاً على المنظومة الطبية ولن يتعرضوا للوفاة، وستسهم هذه النسبة الأقل عرضة للمخاطر الصحية والبالغة 90% في زيادة سرعة بناء مناعة القطيع، وعند الوصول لهذه النقطة يمكننا أيضاً رفع الحظر عن النسبة المتبقية والبالغة 10%.
وفي حال ثبت خطأ نتيجة التنبؤ، فستقتصر العواقب على الأفراد "الأكثر أماناً" الذين رُفع عنهم الحظر أولاً، وبهذا لن يتعرض النظام الطبي للانهيار بعلاج 10% أو أكثر من الحالات الأكثر عرضة للخطر الذين ظلوا قيد الحظر، والتي يمكن إدارتها بالموارد الطبية المتاحة، ولا شك أن عملية رفع الحظر ستُجرى بصورة تدريجية من الناحية العملية، بداية بالمجموعات الأقل عرضة للمخاطر الصحية وبناء مناعة القطيع بمرور الوقت.
اقرأ أيضاً: كيف تساهم تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة جائحة "كوفيد-19"؟
ومن المؤكد أننا لا نملك نماذج مثالية للتنبؤ بالمخاطر الصحية، مثلما نفتقر إلى أنظمة مثالية لتصنيف المستشفيات أو نماذج للتنبؤ باحتمالية العجز عن سداد الائتمان، لكن هذا لا يقف حائلاً أمام توفير الائتمان للعديد من الشركات والأفراد الذين لا يعجز معظمهم عن السداد في أغلب الأحيان شريطة توافر أدوات جيدة لتحديد درجة الائتمان، ولا شك أن الرهانات في هذه الحالة أعلى بكثير مقارنة بحالة التخلف عن سداد القروض، ولهذا نحتاج إلى إنشاء نماذج قوية قدر الإمكان، ولكن هذا لا يعني أن نتجاهل النظر في استخدامها.
وعلى عكس الاختبارات الطبية النادرة والمكلفة وبطيئة التنفيذ، يسهل تطبيق هذا النهج الطبي الرقمي المخصص القائم على البيانات وبصورة سريعة على نطاق واسع، ومع توافر النماذج الصحيحة، يمكن لهذا النهج الإسهام في إجراءات رفع الحظر بصورة أكثر أماناً وبسرعة أكبر بكثير مقارنة بأفضل الممارسات الحالية المستخدمة في عزل وتعقب "كوفيد-19" التي سيبقى بموجبها جميع المصابين والمخالطين لهم قيد الحجر، حتى إن كانوا ضمن الفئة الأقل عرضة لإظهار أعراض حادة نتيجة للإصابة بالمرض.
الحصول على البيانات
يصعب الوصول حتى الآن إلى البيانات المطلوبة لتقييم المخاطر الصحية المعرض لها أي فرد يحتمل تعرضه للإصابة بفيروس محدد، ولكن تستطيع الحكومات بلا شك دعم عملية جمع البيانات الصحية الوطنية عن طريق إنشاء أو طرح سجلات طبية إلكترونية أكثر شمولاً، غير أن قيمة هذه السجلات ربما تكون محدودة نظراً للوقت الذي يستغرقه ظهور الأنماط بين البيانات السابقة في السجلات الطبية وأثر الفيروس في ضحاياه.
وفي ظل الجائحة التي قد تؤثر سريعاً في الملايين على مستوى العالم، ربما يتمثل أفضل نهج ممكن في إنشاء نموذج تنبؤ "مُدرّب" ومشاركته بالاستعانة بالبيانات المتاحة منذ بداية تفشي المرض، وتعتبر مجموعة البيانات المتوازنة التي تضم عشرات الآلاف من الأشخاص شديدي التضرر (أولئك الذين يحتاجون إلى وحدات الرعاية المركزة)، وغيرهم من الأشخاص الأقل تضرراً نسبياً (أولئك الذين تظهر عليهم أعراض طفيفة)، كبيرة بما يكفي لتمكين مستوى معين من التنبؤ المخصص، وتتحسن جودتها مع زيادة البيانات المضافة.
اقرأ أيضاً: تجارب المستشفيات في استخدام الذكاء الاصطناعي لمواجهة كوفيد-19
ويمكن مشاركة النموذج وتشغيله بمجرد إعداده لمساعدة المدن والبلدان الأخرى في المراحل المبكرة من الانتشار لأن البيانات البيولوجية والفسيولوجية الأساسية في السجلات الطبية للأشخاص لا تختلف كثيراً (فالأمر الذي ينطبق على كل شخص كبير في السن ومريض بداء السكري في ووهان ينطبق على غيره من مرضى السكري في غيرها من مدن العالم)، وإذا أصاب فيروس بلدين يتشابهان في تعداد السكان، فمن المرجح أن تكون النتائج متشابهة، ونظراً لذلك يمكن للبلدين استخدام نموذج التنبؤ ذاته دون الحاجة إلى مشاركة السجلات الطبية الفعلية المستخدمة عند تدريب النموذج، وقد تختلف أنماط البيانات عبر البلدان بالطبع نتيجة لبعض الأسباب، من بينها التركيبة السكانية، على سبيل المثال (عدد كبار السن في اليابان أكثر منه في المكسيك، مثلاً) والاختلافات الثقافية أو نمط الحياة (ربما يكون الأجداد الإيطاليون أكثر مشاركة في رعاية الأطفال مقارنة بالأجداد الألمانيين)، ولكن يمكن لمحللي البيانات إعادة صياغة النموذج لاستيعاب هذه الاختلافات إذا نجحوا في جمع البيانات وفقاً لمعيار أو بروتوكول مشترك.
تأمل كيف كان هذا الأمر لينجح في حالة "كوفيد-19": عندما ظهر فيروس كورونا في ووهان، لم تكن البيانات متوفرة في البداية، ما جعل وضع نماذج مخصصة أمراً غير ممكن، وبالتالي كان نهج الإغلاق منطقياً عند هذه النقطة، وكان لا بد من إغلاق المدن وتنفيذ إجراءات التباعد الاجتماعي الكامل والمراقبة عن كثب دون أي استثناءات مؤثرة. من الواضح أن هذا ساعد في احتواء المرض، ولكنه خلق أيضاً فرصة للحكومة الصينية لجمع كافة البيانات المتاحة لتدريب نماذج التنبؤ بالمخاطر الصحية التي كان من الممكن مشاركتها بعد ذلك مع دول أخرى، والتي بدورها تستطيع إضافة بيانات التدريب الخاصة بها لتحسين النموذج.
تحدي الخصوصية
يتطلب تنفيذ هذه الابتكارات التقنية في المقابل إجراء بعض التغييرات في السياسات المتبعة، فالسياسات الحالية التي توفر خصوصية البيانات والأمن السيبراني وصورها المختلفة عبر البلدان ستتسبب إلى حد كبير في تقييد النهج المخصص لإدارة الجائحة الذي ندعو إلى اتباعه.
اقرأ أيضاً: دور البيانات الصغيرة في الذكاء الاصطناعي
يُعزى ذلك بصورة أساسية إلى أن السياسات الحالية لا تفرق بين بيانات المدخلات (المستخدمة لتدريب النماذج) ونماذج التنبؤ نفسها و"بيانات المخرجات" (تنبؤات النموذج المدرَّب)، فعندما تحظر إحدى السياسات، ضمنياً أو صراحة، مشاركة البيانات أو تتطلب تخزين البيانات على خوادم داخل البلد، فإنها تشمل أي شيء يمكن تفسيره قانونياً على أنه بيانات، بما في ذلك النماذج ومؤشراتها، لذلك، فإننا نناشد واضعي السياسات النظر في التفرقة بين مشاركة النماذج ومشاركة البيانات.
كما نشجع الحكومات الوطنية على الاتفاق على بروتوكول لتحديد متى يمكن مشاركة البيانات، وربما يكون إعلان منظمة الصحة العالمية أو الأمم المتحدة، على سبيل المثال، بتصنيف تفشي فيروس معين وباء عالمياً، محفزاً لتعليق قوانين الخصوصية العادية للسماح بمشاركة البيانات المجهَّلة، وربما يكون العديد من الأشخاص خلال هذه الأوقات على استعداد لاستخدام الذكاء الاصطناعي لمواجهة الجائحة ولتقديم بياناتهم بصورة استثنائية ومؤقتة عبر القنوات المناسبة والآمنة لتدريب النماذج التي يمكن أن تشارك في توجيه القرارات والسياسات المؤثرة في حياة الأفراد والاقتصاد، إذا حدث ذلك، فهناك الكثير الذي يمكن لعلم البيانات الحديث والذكاء الاصطناعي القيام به للتخفيف من تداعيات هذه الجائحة وتهيئتنا للحد من آثار الجائحة التالية.
اقرأ أيضاً: تأثير الذكاء الاصطناعي على اتخاذ القرار