يمكن لمكان ولادة الشخص أن يحدد اللغات التي يتكلمها، ومعدل حياته المتوقع، وكم مرة يحرك يديه أثناء الكلام، أو كم مرة يبتسم. ولكن كيف يمكن لهذا الأمر أن يؤثر على طريقة بنائه للشركة؟ هل صحيح أن طريقة شخص من جنوب أفريقيا تختلف تماماً عن طريقة شخص آخر من روسيا؟ تبين لنا أنها تختلف فعلاً في بعض الحالات.
بنينا بحثنا على مجموعة بيانات واسعة من "إيف أونلاين" (EVE Online)، وهي لعبة إلكترونية على الإنترنت، تقوم على تقمص الأدوار، طورتها شركة "سي سي بي غيمز" (CCP Games) ومقرها في آيسلندا، في عام 2003. تعتمد اللعبة على اللاعبين الذين يتنافسون على السيادة، عن طريق تأسيس شركات افتراضية أو العمل لديها، إذ يجب على المؤسس تجنيد الأعضاء الجدد من أجل تأسيس شركته، ويحدد لهم أهدافاً وقوانين واضحة من أجل بناء أصول الشركة. وشارك في اللعبة منذ بدايتها أكثر من 6.5 ملايين لاعب من حوالي 200 دولة. ناهيك عن البيانات الكبيرة، هناك ميزة أساسية لإجراء هذا البحث على عدة دول ضمن لعبة إلكترونية، وهي أن كل لاعب يعمل ضمن بيئة افتراضية مطابقة تماماً، بغض النظر عن موقعه الفعلي. وهكذا يمكننا أن نفصل بين أن يكون الشخص يابانياً مثلاً عن أنه يعمل في اليابان.
تألفت عينتنا من جميع الشركات التي يديرها لاعبو إيف والتي أُسست ما بين يناير/كانون الثاني 2012 ويوليو/تموز 2016. وأجرينا بحثنا على 310,652 شركة يديرها اللاعبون، والتي تمثل حوالي مليون "موظف". واستعنا بسجلات قاعدة البيانات من أجل معرفة ما إن كان بإمكان الشخصية الدخول مباشرة إلى محفظة الشركة (حسابها المصرفي) وأرصدة الموارد (مركبات فضائية أو قواعد أو معدات، إلخ). واستخدمنا قدرة الموظف هذه على اتخاذ قرارات تخصيص الموارد دون الحصول على موافقة شخص آخر كمقياس "للاستقلالية".
كانت "الشركات" في بحثنا مصنفة وفقاً لمكان إقامة مؤسسيها في العالم الواقعي والذي يحدده عنوان بروتوكول الإنترنت (IP address) الخاص به. إجمالاً، كان هؤلاء المؤسسين ينحدرون من 124 دولة، وضعنا لكل منها نقاطاً بحسب قابلية التنبؤ والشفافية في مؤسساتها الكبرى. بُني هذا التصنيف على تصنيفات خبراء مشروع أنواع الديمقراطية (Varieties of Democracy project) والتي تتألف من 4 عوامل رئيسة، وهي: 1- الإدارة العامة (مدى خضوع المسؤولين العامين للقانون)، 2- حقوق الملكية (مدى تمتع المواطنين بحق الملكية الخاصة)، 3- القانون والحرية (مدى حزم تطبيق القوانين)، 4- الفساد (مدى تقديم موظفين القطاع العام خدمات مقابل الرشوة). وعند جمع هذه العوامل الأربعة، نحصل على مؤشر جيد فيما يتعلق بشفافية مؤسسات الدولة وإمكانية التنبؤ بها، ومن النادر أن تجد موظفين عموميين وإدارة تعسفية ملتزمين بالاحترام التام للقانون. ووفقاً لنموذجنا، يقدم مؤشر استقرار المؤسسات هذا نموذجاً لطريقة ممارسة شخص ترعرع في تلك الدولة للسلطة. ثم ربطنا هذه العوامل في دولة ما مع قدر حق اتخاذ القرارات المستقلة الذي يمنحه مؤسسو الشركات الذين ترعرعوا فيها لموظفيهم.
وأظهرت نتائجنا أن المؤسسين المنحدرين من دول تتمتع بمؤسسات أكثر شفافية وقانون يطبق كما هو متوقع، يمنحون موظفيهم استقلالاً أكبر. على سبيل المثال، من بين 30 دولة أجرينا بحثنا عليها، حازت ألمانيا على أعلى مرتبة في شفافية مؤسساتها وإمكانية التنبؤ بها. وتمنح الشركات الألمانية، التي يبلغ عددها 26 ألفاً، موظفيها قدراً أكبر من الاستقلال مقارنة بالشركات من الدول الأخرى. ومن بين أكثر 30 دولة ظهوراً في لعبة إيف، حازت روسيا على المرتبة العليا في الفساد والمرتبة الدنيا في القانون والحرية. وكانت مستويات الاستقلال الذي يتمتع به الموظفون في الشركات الروسية، والتي بلغ عددها 34 ألفاً، من ضمن المستويات الأدنى في اللعبة بأكملها. وينطبق هذا النموذج على دول أخرى، حيث سجلت سويسرا وأستراليا واليابان نقاطاً عالية نسبياً فيما يتعلق بجودة المؤسسات واستقلال الموظفين. وفي المقابل، سجلت الصين وبيلاروسيا وإيطاليا نقاطاً متدنية نسبياً في نفس العاملَين.
إجمالاً، تتوافق هذه النتائج مع نتائج البحث التي تقول إن الدولة الأم تؤثر على سلوك العمل لدى الجيل الثاني من المهاجرين وتنظيم المصانع المحلية للشركات متعددة الجنسيات، ولكن هناك اختباراً مباشراً أكثر لدور الثقافة في الخيارات الاقتصادية. وثمة تحذير واحد، وهو أن النتائج التي توصلنا إليها لا تجيب مباشرة (بعد) عن كيفية تأثير قرارات الاستقلال الذاتي على متوسط الأداء. ومع ذلك، نقول إنه من الأهمية بمكان أن يعي المؤسسون أن خياراتهم المتعلقة بهياكلهم التنظيمية قد تضم مكوناً اعتباطياً كبيراً. وإذا لم يكن تغيير هيكل تنظيمي في أثناء سير عمله سهلاً، فستواجه الشركات الجديدة مشاكل أثناء نموها أو تغير بيئتها التنافسية. وهناك مؤلفات طويلة حول النظرية التنظيمية توثق أن الشركات الصغيرة التي لديها طرق متسقة لتنفيذ الأعمال تملك معدلات بقاء أفضل، ولكن يعني هذا الاتساق نفسه عدم قدرة هذه الشركات في أغلب الأحيان على التغيير استجابة للتحديات الجديدة.
وبالمثل، غالباً ما يرتبط المؤسسون المؤثرون بأسلوب إدارة معين، وهو نفس الأسلوب الذي أدى إلى نجاحهم الأولي. وفي حين أن عملنا التجريبي لا يقدم بعد حلولاً ملموسة لهذه المشكلة الإدارية المعقدة، إلا أنه يساعد على تفسير المعضلات التي قد تواجهها بعض الشركات الصغيرة الواعدة.