يُعتبر الخوف ظاهرة طبيعية لدى جميع البشر، وتؤثر هذه الظاهرة على أهم المدراء كتأثيرها على أي شخص آخر. لذلك تركز أغلبية كتب الإدارة على مساعدة القادة في التغلب على مخاوفهم. لكن المشكلة هي أن كبت الخوف لن يجعله يختفي. وفي الحقيقة، تؤدي عدم القدرة على معالجته إلى توليد سلوكيات مختلّة وغير منتجة، فما هو تأثير الخوف على الحياة المهنية لدى الأفراد؟
من خلال عمل شركتنا مع آلاف المدراء على مدى ثلاثين عاماً، وصلنا إلى إدراك حقيقة أن المخاوف الجوهرية غير المدركة أو غير المعترف بها تكاد تكون دائماً سبباً رئيسياً للإحباط المهني وكبت الإمكانات وعدم استثمارها. ومع ذلك، ليس بالضرورة أن تكون هذه المخاوف سيئة، فقد قابلنا العديد من القادة الذين اختاروا فهم مخاوفهم والتعلم منها وتحويلها إلى حوافز لأدائهم.
فإذا كانت لديك رغبة بإلقاء نظرة صريحة على مخاوفك ومصادرها ستستفيد منها بصورة منتجة. مثلاً، إذا كنت في أعماقك متخوفاً من ألا تكون على المستوى المطلوب لتحمل المسؤولية، وهذه إحدى المخاوف الشائعة لدى المدراء، ستجد طرقاً لاستخدام هذه الرغبة لتقدم أفضل ما لديك دون إرهاق فريقك واستنزاف طاقته.
يمكن أن تحظى بمساعدة خارجية، من مدرب تنفيذي أو أخصائي معالجة نفسية محترف أو من دعم عائلتك وأصدقائك لك، لكن يبقى هناك الكثير من العمل الذي يستطيع القادة أن يقوموا به بأنفسهم، بل ينبغي عليهم القيام به. فقد أوجدنا من خلال عملنا طريقة لإجراء تأمل ذاتي شديد الدقة وهذه الطريقة مؤلفة من أربع مراحل، واتبعها عدد لا يحصى من المدراء لكي يفهموا مخاوفهم ويصبحوا قادة أفضل.
أنواع الخوف في حياتنا المهنية
سنقوم بشرح الطريقة وكيفية استعانة واحدة من القادة بها لتغيير مجرى سيرتها المهنية. لكن أولاً، سنطرح المخاوف التي تبين لنا أنها الأكثر شيوعاً بين المدراء. وهي مرتبطة بصورة عامة بأنواع الشخصيات وتم تحديدها باستخدام نموذج الأنيغرام للشخصيات. (يمكنكم إيجاد شرح أوسع للمخاوف وأنماط الشخصيات في بحثنا عن هذا الموضوع) المخاوف هي:
-
الخوف من ارتكاب الخطأ
الأشخاص الذين يعانون من هذا الخوف يركزون بشدّة على القوانين والأخلاقيات والمعايير ومقياس الخطأ مقابل الصواب. وهم يخافون كثيراً من القيام باختيارات تُثبت أنها خاطئة "موضوعياً" فيما بعد. ويضغط هؤلاء الأشخاص الباحثين عن الكمال على أنفسهم وعلى زملائهم بصورة كبيرة.
-
الخوف من عدم الوصول إلى مستوى الكفاءة المطلوب
من يعانون من هذا الخوف يميلون إلى الشعور بعدم الأمان ويركزون بشدة على صورتهم ويستميتون لإثبات قيمتهم. ويمكن أن يكلفهم ذلك مصداقيتهم عدا عن قدرتهم على الشعور بالمتعة. وبالإضافة إلى ذلك يميلون للتلاعب بالحقائق وذلك لأن حافزهم الجوهري مرتبط بصورتهم أمام الآخرين.
-
الخوف مما قد يفوتهم
وهذا يدفع القادة إلى البحث عن فرص وخبرات جديدة باستمرار. والجانب السلبي لذلك هو أنه يشتت انتباههم ويشوش قدرتهم على اتخاذ القرارات. وفي حين سعيهم خلف عدة أمور معاً يتركون أفراد فرقهم مستائين ومرتبكين. ويخاف هؤلاء المدراء في أعماقهم من الوحدة.
-
الخوف من الوقوع ضحية للظلم أو الاستغلال
يسعى المدراء الذين يعانون من هذا الخوف وراء الحقيقة والعدالة. فهم يخافون من أن يراهم الآخرون ضعفاء. ويشعرون بحاجة للفوز في كل معركة ويمكن أن يتصرفوا بأساليب دفاعية ومسيطرة.
ربما تكون حماية أنفسنا من العواقب التي نتخيلها لهذه المخاوف أمراً مفيداً لنا، من خلال دفعنا للعمل بجدّ أكبر وإنجاز المزيد. ولكن ذلك غالباً ما يكون له ثمن باهظ.
فلنأخذ مثالاً تجربة مستشارة استراتيجية ناجحة جداً التقينا بها بعد مرور 10 سنوات على عملها، ولنسمّها هنا سوزان. فهي توضّح تكلفة عدم الاعتراف بالخوف وفائدة التصالح معه.
كانت سوزان نموذجاً يحتذى به بالنسبة لأقرانها. فهي من أصحاب الأداء المتميز معروفة بتقديم نتائج باهرة لكل مشروع تستلمه. ومع ذلك، كانت تعتقد أنّ سيرتها المهنية توقفت، وقدّم أحد التقييمات التي تلقتها مبرراً مقنعاً لهذا الاعتقاد، حيث وضّح تقييم شامل بطريقة (تقييم 360 درجة) أنّ فريقها لم يكن يثق بها، وسبب ذلك صدمة كبيرة لسوزان لأنها كانت تعتبر نفسها مديرة ناجحة، وكان ذلك في غاية الأهمية بالنسبة لها.
أضف إلى ذلك أنّ علاقاتها الشخصية كانت متأزّمة. ونظراً لشدة تلهفها من أجل ترك انطباع جيد عن نفسها لدى الآخرين أصبحت خبيرة في إضافة شيء من الإيجابية على الأمور المثيرة للجدل. لا عجب أنّ فريقها كان يشعر بالقلق. وعند اعترافها بهذين الأمرين أصبحا دافعاً كافياً لها لتتكبد عناء التغيير.
مالم يره الآخرون هو خوف سوزان الدفين من الفشل، الذي توجب عليها منازعته وحدها، وكيف كان هذا الخوف يدمرها عاطفياً. كانت تعاني الخوف من عدم الوصول إلى مستوى الكفاءة المطلوب. وعلى الرغم من إعجاب الجميع بها قالوا أنها بدت مهتمة بصورتها الخاصة أكثر من أي شيء آخر، كما افتقدت القدرة على الاهتمام بالآخرين. والحقيقة أنها كانت عاجزة عن إقامة علاقات حقيقية بسبب انشغالها الزائد بحماية سمعتها.
كيفية التغلب على تأثير الخوف على الحياة المهنية
المرحلة الأولى: الاعتراف بالخوف
كانت سوزان شديدة الاهتمام بنظرة زملائها إليها نظراً لكونها ناجحة جداً. فبدأت بتصحيح سلوكها بصدق مع نفسها. كانت خطوتها الأولى هي فهم خوفها والاعتراف به، وهو ليس بالأمر السهل. فقد نجحت في إخفائه لسنوات، وظهرت بصورة لامعة وبدت متماسكة وغاية في الذكاء وناجحة جداً. لكن بدأت صورتها هذه بالتصدّع.
في مرحلة الاعتراف، نقترح أن يلقي الشخص نظرة عميقة على تاريخه ويتمعن في اختياراته والأسباب التي دفعته لاختيارها. وعند تمعن سوزان في ذاتها عادت بذاكرتها إلى أهمّ مراحل حياتها، ابتداء بالثانوية العامة مروراً بالمرحلة الجامعية وحياتها المهنية. وبالنظر إلى النشاطات التي قامت باختيارها أدركت أنها لم تبذل جهداً في السّعي لتحقيق أحلامها هي بل كانت تختار النشاطات التي كانت واثقة أنها تتقنها.
فقدت سوزان إحساسها بذاتها بسبب سعيها المستميت للظهور بمظهر برّاق أمام الآخرين. وعندما أدركت أنّ هذه صحوة حقيقية أصبحت بحاجة لإعادة التفكير بنفسها، من تكون وما الذي تريده. وعندئذ فقط استطاعت أن تطلق شخصيتها الحقيقة لتقيم علاقات حقيقية مع الآخرين.
المرحلة الثانية: فكر بخوفك ملياً لتفهمه أكثر
كان على سوزان أن تُجري تقييماً دقيقاً لواقعها الحالي والتفكير بما خسرته بسبب خوفها. وبعد أن علمت أنّ فريقها لا يثق بها، كان عليها مواجهة هذه الحقيقة عن طريق مقارنة نفسها بالآخرين باستمرار ومحاولة الظهور بصورة جيدة قبل كل شيء، فلم تعد تعي ما كان يشكّل أهمية حقيقية بالنسبة لها ولا كيفية تأثير سلوكها على الآخرين.
لذلك، أمضت بعض الوقت في التفكير بما يعنيه فشلها بأمر ما. من ستكون حينها؟ وما الذي سيحصل إذا استلمت مشروعاً لم يتوافق مع نقاط قوتها؟ ماذا لو سلّمت عملاً بمستوى جيد عوضاً عن الممتاز؟ كانت غريزتها تقول لها دائماً أنّ الفشل سيجعلها تخسر كل شيء، ولذلك كان عليها الاعتراف بتلك الغريزة وتتجاوزها. فالآخرون يرتكبون الأخطاء ويتجاوزونها دون أن يمضوا في حياتهم موصومين بالفشل. وعندما رأت سوزان كيف كانت مخاوفها التي لا أساس لها تزيد سلوكها سوءاً بدأت تفهم أنها غير مجبرة على الوصول إلى المثالية المستحيلة.
المرحلة الثالثة: اختر مساراً مختلفاً للأمور
تتعلق هذه المرحلة باتخاذ قرار بشأن ما ستفعله في الخطوة التالية وإنشاء التزامات، أي فهم ما الذي يهمك فعلاً. وهذه بعض الأسئلة التي عليك طرحها على نفسك:
- إن قمتُ الآن بتقييم موضوعيّ لأفعالي وسلوكي، ما الذي سيثبت الواقع التزامي به؟
- كيف يختلف ما ألتزم به فعلياً عمّا أقول أنني أريده؟
- إن كانت رغباتي غير متوافقة تماماً مع أفعالي، إلام يشير ذلك فعلياً؟
عندما طرحت سوزان هذه الأسئلة على نفسها أدركت أنّ سلوكها لم يكن متوافقاً تماماً مع النزاهة التي تعتبرها إحدى قيمها الأساسية. وكذلك الأمر بالنسبة لاهتمامها بعلاقاتها مع زملائها، فبالإضافة إلى رغبتها بترك انطباع جيد لدى الآخرين أصبحت أقلّ جدارة بالثقة، الأمر الذي أبعد الناس عنها. فاتخذت قراراً واعياً بأن تعمل بجد لموافقة سلوكها مع قيمها بصورة أفضل.
المرحلة الرابعة: تصرّف بحسب هذا الاختيار وبطريقة تتوافق مع قيمك من أجل ضبط تأثير الخوف على الحياة المهنية
تتمثل آخر مرحلة بالوفاء بالتزاماتك. وكان جزء من هذه المرحلة بالنسبة لسوزان يتمثل باستلام مشاريع ليست ضمن المجالات التي تتقنها. أي أن تتحدى نفسها وتتعلم من نقطة ضعف لديها. كما بذلت جهوداً لمعرفة ما تحبه أكثر مما تختاره لنيل إعجاب الآخرين. وكان أحد التمارين التي عليها القيام بها هو التجول في المتاحف والتعرف على اللوحات التي تعجبها وشرح سبب إعجابها بها، دون طلبد رأي أيّ شخص آخر. يبدو ذلك بسيطاً، لكنه لم يكن مهمة سهلة بالنسبة لسوزان التي اعتادت إرضاء الآخرين.
- كان تمعّن سوزان في نفسها ومخاوفها عمل شاقّ ومرهق، وأدى إلى تغيير حياتها بصورة كبيرة. وساعدها على إجراء تغييرات إيجابية في الناحيتين الشخصية والمهنية. وبعد 10 سنوات ازدهرت سيرتها المهنية. وتلقّت سلسلة من الترقيات وأصبحت تستلم مشاريع أكبر وأكثر أهمية.
قامت في نهاية المطاف بإنشاء شركتها الناجحة الخاصة بها، وتُعتبر اليوم قائدة حقيقية على قدر عال من الكفاءة والفعالية وهي محبوبة بين موظفيها. وعلى مدى العقد الأخير من الزمن استطاعت أن تطوّر أسلوب قيادتها حتى أصبحت اليوم معروفة أنها جديرة بالثقة وتهتم بالآخرين.
وفي نهاية الحديث عن تأثير الخوف على الحياة المهنية بشكل سلبي، يمكن أن يدمّر الخوف القادة ويجعلهم عاجزين إذا سيطر عليهم أو إذا تظاهروا بعدم وجوده. لا أحد يخلو من الخوف، ومن غير الواقعي اعتقاد أنه بإمكاننا وضع حدّ لمخاوفنا دائماً. لكن حتى عندما تبدو خسائر الاعتراف بالمخاوف كبيرة، يكون القادة أكثر كفاءة عندما يكونون صريحين ويعملون بجد لتحجيم مخاوفهم. أضف إلى ذلك أنّ تحدّث القادة عن مخاوفهم بصراحة يساعد على فهمهم وجعلهم أكثر قرباً من الآخرين. وذلك ما يجعل أي فريق تنفيذي أكثر تماسكاً وفعالية، ما سيؤدي في النهاية إلى ازدياد قوة الشركة التي يديرونها وتحقيقها نجاحاً أكبر.
اقرأ أيضاً: