كانت سهيلة، البالغة من العمر 21 عاماً، تتمتع بخبرة عملية شبه معدومة ولا تمتلك مؤهلات تعليمية سوى شهادة الثانوية العامة فقط. لم يكن هناك شيء في سيرتها الذاتية يدلُّ من قريب أو بعيد على أنها يمكن أن تقود فريق عمل عن بُعد لتنفيذ مشروع بالتعاون مع أعضاء يقطنون في الولايات المتحدة والهند وإفريقيا، ولكن من خلال تطبيق ما تعلمَته في قيادة وحدة صغيرة عندما خدمت في الجيش، نجحت سهيلة في تنفيذ المهمة المنوطة بها في شركة براكسي دوت كوم (Praxie.com) الناشئة في سان فرانسيسكو.

تُعتبر سهيلة مثالاً رائعاً لكيفية الاستفادة من الخبرات الحياتية لتحقيق التميز، على الرغم من عدم إكمال تعليمها الجامعي أو ما قد يعتبره البعض ثغرات صارخة في السيرة الذاتية. عندما سألتُ سهيلة كيف تعلمت قيادة كتيبتها، أجابتني: “كان عليّ أن أكتشف الأمر بنفسي”، ما جعلني أستشفُّ أنها كانت بطبيعتها حلَّالة مشاكل. أخبرتني أيضاً بأنها انتقلت من مدينة بيركلي بولاية كاليفورنيا إلى فرنسا في المدرسة الإعدادية. وسافرت بمفردها إلى الهند لمدة 6 أشهر خلال انقطاعها عن الدراسة لمدة عام، ما يشير إلى أنها كانت قابلة للتكيف بدرجة كبيرة وقادرة على التعامل مع مختلف الثقافات. وبدايةً من ثقة سهيلة في نفسها وقدرتها على مواجهة التحديات التي تظهر أمامها، وصولاً إلى قدرتها على التنسيق بين أفراد فريق يعمل كلٌ منهم في مكان مختلف، فهي تمتلك عقليات ومهارات تسمح لها بالازدهار في عالم الأعمال.

تراجع قيمة الشهادات الجامعية

أدت الاتجاهات المتقاربة لسوق العمل التنافسي وتضخُّم الرسوم الجامعية وظهور بدائل جديدة للتعلُّم عبر الإنترنت وسرعة تغيُّر الأدوار الوظيفية إلى خلق نقطة تحول في القيمة المدركة للشهادات الجامعية؛ إذ يشير تقرير معهد برننغ غلاس (Burning Glass Institute) الصادر مؤخراً إلى انخفاض النسبة المئوية للوظائف التي تشترط الحصول على شهادة جامعية من 51% عام 2017 إلى 44% عام 2021. ووفقاً لمؤسسة غالوب، فقد انخفضت النسبة المئوية للبالغين في الولايات المتحدة الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً وينظرون إلى التعليم الجامعي على أنه “مهم جداً” من 74% إلى 41% في 6 سنوات فقط.

يرجع أحد العوامل الرئيسية لنشوء هذه الاتجاهات إلى ظهور شركات مثل آبل وتيسلا وآي بي إم ودلتا للطيران وهيلتون التي لم تعد تشترط الحصول على شهادات جامعية لإجراء مقابلة شخصية من أجل شغل وظيفة شاغرة بإحداها. تدرك هذه الشركات أن قيمة العقليات والقدرات والمهارات المكتسبة من الخبرات الحياتية قد توازي قيمة الشهادات الجامعية في عالم اليوم الذي يشهد تغيُّرات متلاحقة. ويؤدي اشتراط الحصول على الشهادات الجامعية في الواقع إلى تحجيم شبكة مرشحي الوظائف الموهوبين، ما يؤدي بدوره إلى استبعاد نسبة كبيرة من المرشحين الرائعين من عملية التوظيف حتى قبل أن تبدأ.

وتتصف البيانات بالتضارب فيما يخص المبالغ التي يكسبها المرء نتيجة حصوله على شهادة جامعية مقارنة بعدم حصوله على إحداها. فوفقاً لبحث أجرته جامعة جورج تاون، يبلغ إجمالي ما يمكن أن يكسبه العامل الحاصل على درجة البكالوريوس على مدار حياته 2.8 مليون دولار، في حين يبلغ إجمالي المكاسب المتوقعة في حال عدم حصوله على شهادة جامعية 1.6 مليون دولار. ولكن في دراسة أُجريت على طلاب الجامعات في ولاية ماساتشوستس، وُجد أن مكاسب خريجي الجامعات لا تفوق مكاسب خريجي المدارس الثانوية. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يعمل خريجو الجامعات لمدة 20 عاماً لاسترداد تكلفة الرسوم الدراسية، وهي أموال كان بإمكانهم استغلالها لشراء منزل أو الاستثمار أو الادخار للتقاعد.

زيادة قيمة الخبرة

بحسب مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة، فإنّ العامل العادي يغيّر وظائفه 12 مرة طوال حياته المهنية. ومن هنا جاءت أهمية كلٍّ من الخبرة العملية والخبرة الحياتية العامة؛ إذ تسهم الخبرة غالباً في تطوير طرق تفكير جديدة واكتساب قدرات لا تقتصر بالضرورة على وظيفة معينة. ويمكنك الاستفادة من خبراتك المكتسبة خلال السفر والتدريب المهني والعمل التطوعي وممارسة الهوايات والأنشطة الترفيهية وغيرها من مجالات الخبرة لاكتساب مهارات تعينك على استغلال أي فرص جديدة والحصول على الوظائف التي ربما لم تكن موجودة أساساً قبل بضع سنوات.

أنشأ بعض المؤسسات مثل جوجل “شهادات مهنية” تقدِّم محتوى وموارد وأنشطة إرشادية لتدريب الباحثين عن فرص عمل. تهدف هذه الشهادات إلى إنشاء برامج تركّز مباشرةً على تلبية احتياجات الشركة من المواهب الصاعدة. وتتيح شهادات جوجل التي تُقدَّم باستخدام منصة التعلُّم عبر الإنترنت، كورسيرا (Coursera)، للباحثين عن عمل تجاوز عتبة الجامعات التقليدية التي تستمر الدراسة فيها مدة 4 سنوات كاملة، وتؤهلهم فوراً لوظائف محددة من خلال دفع رسوم مقرر تعليمي لا تتعدّى قيمتها 100 دولار، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بالاستثمار المطلوب للحصول على شهادة جامعية.

لم يدرك سوى عدد قليل من الجامعات التي تستمر الدراسة فيها مدة 4 سنوات كاملة الحاجة إلى استغلال طاقاتها بالكامل في التعلُّم التجريبي من أجل البقاء؛ إذ تقدم جامعة مينرفا (Minerva University)، الحائزة تصنيف الجامعة الأكثر ابتكاراً في العالم، برنامجاً مدته 4 سنوات مثل الكثير من المؤسسات التعليمية، لكن نموذجها يجمع بين المقررات التعليمية الافتراضية والسفر مدة أسبوع في المدن الكبرى عبر 7 دول. يكتسب الطلاب كفاءات من خلال التنقُّل بين ثقافات متنوعة والالتحاق بدورات التدريب المهني في مؤسسات مثل آيديو (IDEO) وجوجل و500 ستارتبس (500 Startups) وتيكشوب (TechShop) وإنفورام (INFORUM) وإس إكس إس ويدو (SxSWedu) وغيرها. ويركّز برنامج مينرفا على تطوير العقليات بقدر ما يركز على تنمية المهارات من خلال موقعها الإلكتروني على شبكة الإنترنت الذي يدعو إلى ثقافة مفادها ما يلي: “لا يتشكَّل الفهم الحقيقي للعالم وسكانه إلا بالتعرُّض لواقع الحياة”.

وأفادت جامعة واشنطن أن ما يقرب من 53% من طلاب الجامعات بعد التخرج إما عاطلون عن العمل أو يعملون في وظائف لا تتطلب شهادات جامعية. ويجب ألا نُفاجأ حينما ننظر إلى هذه البيانات ونجد أن 49% من خريجي الجامعات الجدد لم يكلفوا أنفسهم عناء التقدم لوظيفة احترافية للمبتدئين عام 2022 لأنهم شعروا بأنهم يفتقرون إلى المؤهلات اللازمة لشغلها. لو مُنح هؤلاء الطلاب أنفسَهم فرصاً لاكتساب خبرات عملية في العالم الواقعي في إطار العملية التعليمية، فقد لا تكون هذه الأرقام مرتفعة بهذا الحد الذي ينذر بالخطر.

الخبرة تصنع الذكاء الحقيقي

عندما تخوض تجارب تتيح لك ممارسة شيء ما على أرض الواقع، يمكنك حينها استيعاب العملية التعليمية وحفظ ثمارها في الذاكرة بسهولة، ثم تطبيق خبراتك المكتسبة في السياقات المستقبلية. يطلق الرئيس السابق لجمعية علم النفس الأميركية، روبرت ستيرنبرغ، على النتائج المتحققة عن التعلم بالممارسة مُسمَّى الذكاء التجريبي.

وقد أشرت في كتابي الأخير حول هذا الموضوع إلى أهمية خبراتك الحياتية، وأوضحت كيف تساعدك على تطوير عقلياتك، فضلاً عن مهاراتك وقدراتك. يُعرف الذكاء التجريبي على سبيل الاختصار أيضاً باسم “XQ”، وهو شيء يمكنك تطويره بمرور الوقت ويكمّل ذكاءك الفكري (IQ) الذي يعتقد معظم الناس أنه موهبة تُمنح للمرء بالوراثة. هذا هو سبب أهمية الخبرات، لأنه يمكنك استخدامها لتنمية ذكائك فعلياً.

ولك أن تتأمل كيف تعلمت ركوب الدراجة في المرة الأولى. لقد فعلتها فحسب. وبغض النظر عن مدى ارتفاع معدل ذكائك الفكري، وبغض النظر عن عدد الكتب التي قرأتها عن ميكانيكا الدراجات، فلا بد أن تجرِّب عملية الركوب نفسها لكي تتعلم ركوب الدراجات، وهو ما يُعرَف اختصاراً باسم “الخبرة”.

عندما يتعلق الأمر بركوب الدراجات، فإن مهاراتك الملموسة تتضمن كيفية الحفاظ على اتزانك والضغط على البدّالات والقدرة على إيقاف الدراجة. وتتضمن عملية تطوير قدراتك توقُّع المطبات وتمييز العقبات المحتملة في طريقك. وتتضمن عقلياتك أشياء مثل إدراك الحاجة إلى توخي الحذر في المناطق المزدحمة. تتيح لك خبرة تعلُّم ركوب الدراجة، بما في ذلك استخدام عجلات التدريب للحفاظ على اتزانك في البداية والسقوط والوقوف من جديد، ثم استيعاب كيفية الركوب بكل سلاسة، استخدام دراجتك لتحقيق أهدافك، سواء في التنقل أو الحفاظ على لياقتك البدنية أو مشاهدة المعالم السياحية أو تخفيف حدة التوتر أو ما شابه. ينطبق هذا المثال البسيط بحذافيره على أنواع التعلُّم الأخرى كلها، مثل تعلُّم برمجيات الترميز البرمجي وكتابة خطط العمل وعزف الموسيقى وغير ذلك الكثير.

الخبرة تمنحك الأفضلية

يشهد عالم اليوم تغيُّرات متلاحقة تفوق سرعة تطوُّر معظم المناهج الدراسية في الجامعات. كانت درجة البكالوريوس بمثابة البوابة السحرية لإجراء المقابلات الشخصية التي تؤهلك لشغل الوظيفة التي تتمناها، لكن هذا الوضع آخذ في التغيُّر. على الرغم من ذلك، ثمة شيء واحد مؤكد: بغض النظر عن المسؤول عن تعيين الموظفين الجدد، يريد الجميع معرفة الخبرة التي تمتلكها.

سواء كنت تريد أن تصبح مبرمجاً أو مسوّقاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا غنى عن الخبرة العملية. وفي حين أن الشهادة الجامعية قد تشير إلى أنك اكتسبت الأساس النظري لأداء عمل ما، فإن الخبرات المكتسبة من الحياة الواقعية تؤكد لأصحاب العمل أنك تمتلك أصولاً حقيقية تؤهلك لإنجاز مهام وظيفتك بنجاح.

يدرك أفضل الباحثين عن فرص العمل، والشركات التي تقوم ثقافتها على التفكير المتنوّر، أن الاسم الجديد للعبة هو ترجمة الخبرات إلى مهارات وقدرات وسلوكيات ومعتقدات تناسب العمل وقابلة للتطبيق على نطاق أوسع. ومن الأهمية بمكان أن تقدّم دليلاً واضحاً على ذكائك التجريبي؛ لأن هذا سيمنحك ميزة على الآخرين. تهدف هذه العملية إلى مساعدة الشركة أو المؤسسة التي تعمل بها على فهم كيفية الاستفادة من خبراتك المهنية الحالية في إنجاز المهام المطلوبة اليوم ومعرفة القيمة التي قد تضيفها في المستقبل أيضاً.

لا تعد الشهادة الجامعية هي السبيل الوحيد للنجاح في عالم اليوم الذي يشهد تغيُّرات متلاحقة. فقد أثبتت البيانات في واقع الأمر أن 25% فقط من خريجي الجامعات سيختارون اتباع المسار التعليمي نفسه لو عاد بهم الزمان إلى الوراء وأُتيحت لهم فرصة الاختيار مجدداً. علاوة على ذلك، قال 41% من خريجي الجامعات إنهم سيحصلون بدلاً من ذلك على شهادة تؤهلهم على الفور لشغل الوظائف المطلوبة. وسواء كنت تفكر في الالتحاق بالجامعة أو توشك على التخرج أو حصلت بالفعل على شهادتك الجامعية، فهناك الكثير من الخيارات المتاحة لتحقيق النجاح، وتتوافر هذه الخيارات الآن بأعداد تفوق أي وقت مضى. المهم أن تحرص على اكتساب الخبرات العملية اللازمة. هذا هو مفتاح التعلُّم المستمر الذي يفتح الأبواب الموصدة ويتيح إمكانية استغلال الفُرص السانحة.