المهنة أو رعاية الأطفال؟ إنّها معضلة تواجهها للأسف كل امرأة عاملة على وشك أن تصبح أماً. هل يجب أن تأخذ إجازة أمومة طويلة؟ علماً أنّ قضاء المزيد من الوقت في المنزل يساعد الأم والطفل في الحصول على صحة جيدة. في نهاية الأمر، تُظهر الأبحاث أنّ إجازات الأمومة ترتبط بخفض معدّات وفيات الرضّع وتقليل إجهاد الأم. أم هل يجب عليها التخلي عن إجازة الأمومة الطويلة، مع العلم بأنّ العودة إلى العمل بسرعة ستحسن فرصها المهنية؟، ما هو الحل الأمثل بين إجازة الأمومة والمسار المهني للمرأة؟
نشهد اتجاهاً في جميع أنحاء العالم نحو إصدار تشريعات تقر إجازات أطول ومدفوعة الأجر للأمهات والآباء. ففي وقت سابق من العام 2018، زادت كندا على سبيل المثال برنامج إجازة الأمومة المدفوعة الأجر من 35 أسبوعاً إلى 61 أسبوعاً، كما أنّ عدداً من الدول الاسكندنافية اتخذ خطوات مماثلة. وتحصل هذه التغييرات بفضل الاهتمام المتزايد بتحسين التوازن بين العمل والحياة الشخصية للآباء والأمهات العاملين، والحثّ على زيادة الاتصال بين الوالدين والأطفال في الأشهر الأولى المصيرية من حياة الأطفال حديثي الولادة. ولكن مع أنّ المشاعر التي تقف وراء هذه السياسات الجديدة حسنة النية وجديرة بالثناء، فقد يكون هناك "جانب مظلم" لإجازات الأمومة الطويلة.
ركّزت معظم الأبحاث التي أجريت حتى الآن في هذا المجال على الأمهات اللواتي ما زلن يحظين بوقت أطول من الآباء في معظم البلدان. وحتّى عندما يُمنح كلا الوالدين إجازات يتشاركانها، فإنّ النساء يملن إلى أخذ غالبية هذه الإجازات، إلّا في حال كانت السياسات تخصص وقتاً محدداً للرجال فقط (وهو أمر نادر). وتُظهر هذه الدراسات أنّ النساء اللواتي يقرّرن قضاء إجازة أمومة أطول يمكن أن يتوقّعن دفع ثمن التزامهنّ بالأمومة عند عودتهن إلى العمل.
اقرأ أيضاً: كيف تضمن الشركات عدم إضرار إجازة الأمومة بالمسار المهني للنساء؟
المدة المناسبة لإجازات الأمومة
تكشف أدلة من بلدان مختلفة أنّه كلّما طال الوقت الذي تبتعد فيه الأمهات عن العمل المدفوع الأجر، يقل احتمال ترقيتهن، أو انتقالهن إلى الإدارة، أو حصولهن على زيادة في الأجور عند انتهاء إجازاتهن. وبالإضافة إلى ذلك، يصبحن أكثر عرضة لخطر الطرد من العمل أو تخفيض الرتبة الوظيفية. يمكن أن يكون طول الإجازة عاملاً مؤثراً في تصورات زملاء العمل أيضاً، إذ غالباً ما يُنظر إلى النساء اللواتي يأخذن إجازات أطول على أنّهن أقل التزاماً بوظائفهن من النساء اللواتي يأخذن إجازات أقصر. وهذه المقارنة تُضعف من أحد الأهداف الرئيسة لتشريع سياسات وطنية لإجازات الأمومة، وهو: ضمان عدم اضطرار النساء للاختيار بين الأمومة والنجاح المهني.
لحل هذا اللغز، سعى بحثنا إلى الكشف عن الآليات التي تؤدي إلى العواقب السلبية غير المقصودة للإجازات الطويلة، وتحديد الطرق التي يمكن بها للمؤسسات أن تساعد النساء في إيجاد توازن بين العمل ورعاية الأطفال. وخلال فترة دراستنا، سمحت سياسة إجازة الأمومة الكندية بإجازة لمدة 12 شهراً كحد أقصى للنساء. لقد أجرينا ثلاث دراسات تكميلية لتحديد وفحص التصوّرات حول فعالية النساء العاملات (أي الدرجة التي تُعتبر فيها المرأة طموحة ومركزة على مهنتها) كمحفّز لهذه الآثار السلبية، والنتائج التي توصّلنا إليها تسلّط الضوء على عدة طرق يمكن من خلالها معالجة هذه المشكلة.
أولاً، باستخدام التجارب المخبرية، اختبرنا التصورات والأفكار عن الإناث المرشحات للوظائف بناء على طلبات العمل التي تبيّن أنّهن حصلن على إجازة أمومة لمدة 12 شهراً (وهذا شائع في كندا) أو إجازة أمومة أقصر من شهر واحد. وجدنا أنّ النساء اللواتي تضمّنت سيرهنّ الذاتية إجازة أمومة أطول لم يكن مرغوباً بهنّ كثيراً. ومن المثير للاهتمام أنّ النزعة إلى اعتبار المرأة التي تأخذ إجازة أمومة أطول هي أقل التزاماً مهنياً، تساوت بين المشاركين من الذكور والإناث في الدراسة، ما يدل على أنّ هذه الفكرة المسبقة ما زالت منتشرة على نطاق واسع.
بعد ذلك اختبرنا كيف يمكن لتقديم معلومات أساسية حول الطموحات المهنية للمرأة المرشحة إلى الوظيفة وعاداتها في العمل (في هذه الحالة، رسالة من مشرف سابق) أن يؤثّر على الآراء حول فعاليتها عندما تكون قد أخذت إجازة أمومة أطول. وجدنا هنا أنّه يمكن التغلب على التصوّرات السلبية حول الالتزام وقابلية التوظيف من خلال تزويد صنّاع القرار بمعلومات إضافية عن فعالية النساء. وبعبارة أخرى، عندما تضمّن طلب العمل رسالة من المشرف لم نلاحظ أيّ اختلاف بشأن تفضيل المرشحة التي كانت تأخذ إجازات أمومة أطول.
وأخيراً، سعينا للحصول على أدلة من عمال كنديين بشأن وجهات نظرهم حول دور برامج "البقاء على اتصال" (keep-in-touch)، وهي البرامج التي تسمح للوالدين في الإجازة بالبقاء على اتصال مع الزملاء ومكان العمل. يجري ضمن هذه البرامج في كثير من الأحيان ربط الموظف أو الموظفة في الإجازة مع أحد الزملاء في العمل، بحيث يمكن لهذا الأخير على سبيل المثال أن يُبقي صاحب الإجازة مطّلعاً على مستجدات مشاريع الشركة وعملائها وزملاء العمل الآخرين. وفي تجربة مع عيّنة من 558 موظفاً كندياً، وجدنا أنّ مقدّمات طلبات العمل من الإناث اللواتي حصلن على إجازة أمومة من 12 شهراً كان يُنظر إليهن على أنهنّ أكثر فاعلية والتزاماً بوظائفهن وأكثر قابلية للتوظيف في حال كن يستخدمن برنامج "البقاء على اتصال" بالمقارنة مع عدم استخدام مثل هذا البرنامج. تجدر الإشارة إلى أنّ وجود هذه البرامج لا يكفي بحدّ ذاته، فهذه النتائج الإيجابية لم تحدث إلّا عندما كانت النساء تستخدم هذه البرامج.
يساعد بحثنا الذي نُشر في "مجلة علم النفس التطبيقي" (Journal of Applied Psychology) في تفسير سبب ارتباط إجازات الأمومة الأطول المشرعة قانوناً بالنتائج المهنية السلبية للنساء. لقد وجدنا أنّ طول فترة إجازة الأمومة يُعتبر إشارة إلى فعالية المرأة والتزامها بالعمل، كما يُستخدم لقياس إخلاصها في العمل. وهذا بدوره يقوّض التصورات حول فعالية المرأة والتزامها الوظيفي ومدى ملاءمتها لأدوار القيادة.
تجنب العواقب السلبية لإجازات الأمومة الطويلة
تشير نتائجنا أيضاً، ولحسن الحظ، إلى بعض الطرق التي يمكن من خلالها للمدراء والمؤسسات والنساء، أن يحاربوا العواقب السلبية غير المقصودة لإجازات الأمومة الطويلة. على سبيل المثال، يمكن للمدراء تقديم معلومات إضافية عن فعالية المرأة وطموحاتها المهنية من أجل التصدي للمفاهيم السلبية بين صنّاع القرار وزملاء العمل. علاوة على ذلك، يبدو إنشاء ودعم برامج "البقاء على اتصال" من قبل المؤسسات واعداً جداً. ففي حين لا تزال برامج "البقاء على اتصال" نادرة في مجال العمل، فإنّ بعض الشركات التقدمية في قطاعات العلاقات العامة والقانون في كندا وأستراليا كانت سباقة في اعتمادها كطريقة لدعم واستبقاء الموظفات.
يمتلك عملنا تأثيرات أيضاً على واضعي السياسات عن طريق إظهار أنّ إجازات الأمومة الأطول والمشرعة قانوناً قد تقوّض من دون قصد المساواة بين الذكور والإناث، وذلك من خلال إلحاق الأذى بالآفاق المهنية للمرأة. وبالتالي، يجب أن تكون هذه السياسات مصحوبة بتدابير إضافية تشجّع على "البقاء على اتصال" أو تتضمن برامج ذات صلة. وقد يكون من بين الحلول المحتملة الأخرى إصدار تشريعات للإجازات الوالدية المخصصة للآباء فقط. في الوقت الحالي، يستخدم 13% فقط من الرجال المؤهّلين إجازات الأمومة في كندا (مقارنة بـ 91% من الأمهات الجدد المؤهلات)، وذلك على الرغم من أنّ إجازة الأمومة في كندا يُفترض أن تكون محايدة بين الجنسين. وذلك لأنّ التزام الآباء بجزء من الإجازة يُفترض أن يشجّع المزيد من الرجال على أخذ إجازات من هذا النوع، وهو ما يمكن أن يقلّل من الوقت الذي تغيب فيه المرأة عن العمل، ويجعل الإجازات لرعاية الأطفال أمراً اعتيادياً للرجال والنساء.
اقرأ أيضاً: بحث: المرأة والرجل سواء في العجز عن القيام بمهام متعددة
وأخيراً، ثمة بعض المحاذير الضرورية، فقد نتجت بعض بياناتنا التجريبية من دراسات تشمل طلاب جامعات يمتلكون خبرة عمل محدودة؛ ولذلك سيحاول البحث في المستقبل دراسة هذه الحالات في مجموعة متنوعة من المؤسسات. بالإضافة إلى ذلك، تبدو بعض نواحي تأثيرنا صغيرة، غير أنّ النتائج لا تزال قوية وذات مغزى لأنّ أيّ تصنيف منخفض للمرأة بسبب إجازة الأمومة يمكن أن يُحدث فرقاً كبيراً سواء تم توظيف هذه المرأة أو حصلت على ترقية. والجدير بالذكر أنّ التحيّز ضد الأمهات بين القوى العاملة قد وُثّق بدقّة في مكان آخر. وفي حين اقتصرت دراستنا هذه المرة على النساء وتأثيرات إجازة الأمومة، يمكن للبحوث المستقبلية أن تركّز أكثر على تأثير هذه الإجازات على وظائف الآباء.
القدرة على أخذ إجازة أمومة كاملة من دون أن يعاني المرء لناحية الترقية أو الراتب أو لجهة آفاقه القيادية، تؤثر كثيراً في تحقيق قدر أكبر من المساواة بين الجنسين في مكان العمل. وتؤثر على مساعدة جميع الآباء والأمهات العاملين، ولاسيما الأمهات، في تحقيق قدر أكبر من التوازن بين الحياة والعمل، وإجازة الأمومة والمسار المهني.
لطالما كان هذا البند مدرجاً على أجندات إدارات الموارد البشرية وقادة الأعمال، وبحثنا يقدّم دليلاً واضحاً على التدخلات والبرامج التي يمكن أن تُحدث فرقاً حقيقياً لدى المؤسسات التي تسعى إلى تطوير أفضل أصحاب المهارات لديها وتنميتهم واستبقائهم.
اقرأ أيضاً: