في العام الماضي، انتشرت الإشاعة الساخرة نوعاً ما التي مفادها أن مارك زوكربيرغ يغطي كاميرا حاسوبه المحمول ومكبر صوته، وراجت رواجاً واسعاً. وكما يبين لنا أنطونيو غارسيا مارتينيز في كتابه "قرود الفوضى" (Chaos Monkeys)، وهو كتاب جديد مثير عن مؤسس شركة فيسبوك: "ليست الفئران أول مَن يغادر السفينة الغارقة. وإنما طاقم السفينة الذين يعلمون تمام العلم كيف يسبحون". أو بحسب التصريح الشهير لأندرو غروف، المؤسس المشارك لشركة "إنتل" وأحد رواد وادي السيليكون: "المصابون بجنون الاضطهاد فقط هم الذين ينجون".
في عصرٍ صرنا نمضي فيه الغالبية العظمى من ساعات يقظتنا على شبكة الإنترنت، أمسينا ننتج بحراً من البيانات، مما جعل القرصنة والأمن السيبراني سببين للهواجس أكبر من ذي قبل. وحيثما كان مفهوم كلمة "شخصي" في فترة من الفترات يعني "خاص"، لم يعد التمايز بينهما صحيحاً، حيث إن كثيراً من تفاعلاتنا الشخصية والحميمة (والبيانات الناتجة عنها) الآن قائمة على شبكة الإنترنت التي صارت نطاقاً عاماً يتسع على نحو متزايد. وحتى لو لم يكن هناك شخص يراقب، فإننا نادراً ما نكون وحدنا.
ماذا لو أُتيحت لك فرصة شراء جميع البيانات التي خلفتها وراءك من أول دقيقة أمضيتها على شبكة الإنترنت حتى هذه اللحظة؟ ما الذي يمكن أن تدفعه لقاء هذه البيانات؟ وكم ستدفع لقاء الحفاظ على أمنها بنسبة 100%؟ قبل أن تفكر في الإجابة، قد تود وضع التكاليف التالية في الاعتبار:
(1) وداعاً للخدمات "المجانية": إننا نعلم جميعاً العبارة المجازية القائلة إنه "إذا لم تدفع لقاء ما تحصل عليه، فاعلم أنك لست الزبون، وإنما أنت المنتَج المُباع نفسه" (وهو اقتباس لأندرو لويس على مدونة ميتا فيلتر)، ولكن ماذا يمكن أن يحدث لو أن مزودي خدمات البريد الإلكتروني ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي، بل وحتى محركات البحث التي نستخدمها كل يوم لم تعد مجانية؟ يجوز أن نتذمر حفاظاً على خصوصيتنا في مواجهة التجاوزات السريعة، كتلك التي يرتكبها مزودو الخدمات في حيزنا الشخصي، غير أنه لا توجد سوى قلة من البدائل السائدة أمامنا.
والأمر لا يُعزى إلى انعدام الأفكار. فثمة نماذج عمل بديلة اقترحها رواد في مجال التقنية مثل جارون لانيير الذي اقترح سداد دفعات مالية فائقة الصغر من شخص لآخر كوسيلة لتعويض المستخدمين عن البيانات التي يساهمون بها. تخيل أنه لو كان عليك أن تودع دفعة مالية صغيرة كلما أرسلت رسالة بريد إلكتروني أو رسالة عبر برنامج واتس آب لشخص ما. أيمكن أن يكون هذا هو الحل لفيض المعلومات المبالغ فيه؟ يوجد خيار آخر يمكن بطبيعة الحال أن يوفر نسخاً باشتراكات للخدمات التي نستخدمها، مثل خدمة فيسبوك، تضمن فيها الرسوم التي يدفعها المستخدمون خصوصية بياناتهم، وتحل بذلك محل بيع بياناتهم بهدف الربح لأغراض دعائية.
ولذلك، فالتحدي لا يتعلق كثيراً بمسألة الخدمات اللوجستية، وإنما بالمسألة النفسية الخاصة بعدم وضوح بياناتنا وقيمتها المقدرة. بالنسبة إلى غالبيتنا، الخدمات "المجانية" التي نستخدمها على شبكة الإنترنت تمكننا من تلبية حاجة محددة: ألا وهي التواصل مع الآخرين. والبيانات التي تنتج عن تفاعلاتنا، سواء أكانت عبر البريد الإلكتروني أم الحوارات الجماعية أم وسائل التواصل الاجتماعي، ليست فقط غير ملموسة، ولكن من الصعب أيضاً على المستهلك العادي استيعاب قيمتها وتحديدها. وعلى الرغم من أن غالبية الناس ربما تقشعر أبدانها إزاء فكرة مجيء شخص غريب إلى بيوتهم والتفتيش في ألبومات صورهم وحساباتهم المصرفية ومذكراتهم الشخصية كلها، فإن كثيراً منا لا يكترثون متى حدثت لهم انتهاكات شبيهة على شبكة الإنترنت، ربما لأن تلك الانتهاكات وتبعاتها أقل تجلياً لهم إلى حدٍ ما. حقيقة الأمر أنه ربما لا ندرك التبعات الواقعية لأنشطتنا الإلكترونية إلا عندما نواجَه بسيناريو ملموس، كانتهاك لسرية البيانات (تسرب بيانات بطاقة ائتمانية أو صور شخصية).
ومتى تعلق الأمر بوسائل التواصل الاجتماعي، حتى عندما يصبح الناس على دراية بالمخاطر، فإن مخاوفهم المتعلقة بالخصوصية نادراً ما تُترجم إلى سلوكيات وقائية. تتزايد شكاوى الناس من التجاوزات الخفية التي تطال خصوصيتهم، لكنهم على الرغم من ذلك ينخرطون في الكشف عن أنفسهم بلا رقابة، ويسمحون للشركات بالوصول غير المسبوق إلى بياناتهم، ما يؤدي إلى "مفارقة الخصوصية". وخلاصة القول أن سلوكيات الناس توحي بأنهم لا يبالون بمسألة الخصوصية كما يزعمون. وعلى الرغم من أن فكرةالخصوصية تروق لهم، فلا يبدو أنهم يقدرون قيمة بياناتهم بما يكفي لاتخاذ إجراءات ملموسة لحمايتها. ولكن، إحقاقاً للحق، فإن هذا الانفصام بين التوجهات والسلوكيات موجود في كافة مناحي الحياة. فعلى سبيل المثال، يقدر السواد الأعظم من الناس قيمة صحتهم وعلاقاتهم تقديراً عظيماً، لكنهم ما زالوا يتبنون سلوكيات تعرضهم للخطر بانتظام، حتى عندما يكونون على دراية بالتبعات المحتملة.
(2) وداعاً للتخصيص: متى تعلق الأمر بالتفاعلات الإلكترونية، تعودنا أن نتوقع درجة من الصلة الشخصية والسياقية، خاصةً فيما يختص بنتائج البحث والخدمات أو المنتجات الإلكترونية. ظل إريك شميت، الرئيس التنفيذي لمجلس إدارة شركة "ألفابت"، يصرح سنوات بأنه على العكس من وسائل البث الإذاعي التقليدية، تعتبر شبكة الإنترنت وسطاً "للبث المحصور". وهذا التوقع ضمني إلى حد بعيد، ويجوز أن ندرك فقط إلى أي مدى صارت خدماتنا مخصصة (على سبيل المثال، في عمليات بحثنا على موقع خرائط جوجل أو الإعلانات التي نراها على موقع يوتيوب أو موقع فيسبوك)، عندما نغير إعدادات خصوصيتنا أو نزيل ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا وتاريخ بحثنا.
إن السهولة والراحة اللتين اعتدنا عليهما أكثر من اللازم هما اللتان تحولان بيننا وبين اختيار تجارب مستخدم أكثر خصوصية (ولكن أكثر مشقة أيضاً). بالتأكيد يمكنك إيقاف عمل إعدادات تحديد موقعك الخاصة بتطبيق سيارات الأجرة، بحيث يكف عن رصد جميع تحركاتك، لكن مشقة الوصول يدوياً إلى موقعك الحالي كلما أردت إيقاف هذه الخاصية قد تبدو مجهوداً مبالغاً فيه بالنسبة إليك فلا تداوم عليه.
وقد يكون هناك أيضاً وجه آخر للمسألة. على سبيل المثال، عندما تبدأ في تلقي إعلانات عبر العديد من المنصات (بدايةً من موجزات وسائل التواصل الاجتماعي وحتى البث التلفزيوني والإذاعي الرقمي بحسب الطلب) لشيء بحثت عنه، لكنك لم تدرك أنك خاضع للرصد. وهذا "العامل المخيف" — أعني الشعور بأن كل حركة تبدر منك، على المستويين العام والخاص، خاضعة للمراقبة والرصد والمتابعة والتحليل والاستغلال - يمكن أن يكون ثمناً باهظاً يُعرف باسم "المُفاعلة النفسية". إذا شعرنا أن حريتنا فُقدت أو تعرضت للتهديد، فمن الممكن أن يؤدي حافز استعادة تلك الحرية بالناس إلى مقاومة الأثر الاجتماعي للآخرين، مما يفضي إلى إحساس بالتعدي لدى المستخدم، وسمعة ملوثة للشركات التي ربما تعقد الآمال على استخدام التخصيص لزيادة إيراداتها.
(3) وداعاً للإشباع الفوري: إن البيانات التي ننتجها عبر تفاعلاتنا اليومية يمكن استخدامها أيضاً للمساعدة في تصميم خدمات تدعم رغبتنا في الوصول الفوري والراحة على نحو أفضل. يبدو أننا نعيش في عصر أمسى فيه الإشباع الفوري وحده سريعاً بالقدر الكافي. وبالنظر إلى قدرتنا على الانتباه في سوق هي بالفعل تفتقر إلى الوقت والانتباه، فإننا نجد أن الخدمات التي تقدم حلولاً فورية لا تكفل فقط تجربةً تُشعر المرء بأنها مُجزية على الفور، وإنما من الممكن أيضاً أن تتجاوز التفكير المتروي بقدر أكبر من الفاعلية. على سبيل المثال، متى كانت آخر مرة قرأت فيها أحكام وشروط التطبيق الذي ثبته؟ هذا يعني أنه متى تعلق الأمر بالاشتراك في خدمة جديدة، فإن رغبتنا في الراحة ستفوق غالباً اعتباراتنا العقلانية، مما يؤدي إلى الموافقة على استخدام بياناتنا بأوجه ربما لم نكن لنتخيلها أبداً. ورغبةً منا في تمضية أقل وقت وبذل أقل مجهود ذهني على الإطلاق، من الممكن أن نعرّض أنفسنا طواعيةً لخطر جسيم مستقبلاً، سواء أكان عبر تسريب البيانات الشخصية أم الحرمان من الوصول إلى خدمات طبية أو خدمات مالية بسبب استدلالات مستترة عن شخصيتنا جُمعت من بصماتنا الرقمية.
وفي رأينا الشخصي، ينبغي أن نتوقع الكثير في مقابل الحصول على خصوصيتنا. لا بد أن يكون هناك تكافؤ أكثر بين كمية البيانات التي نتخلى عنها والخدمات التي نتلقاها. على سبيل المثال، ينبغي أن تساعدنا محركات التوصية على الكشف عما نحتاج إليه بالفعل، حتى لو لم نكن نعرف مرادنا. قد يحدث ذلك إلى حد ما في عالم الموسيقى والأفلام، لكن الوضع ليس كذلك بالمرة متى تعلق الأمر بالتسوق. ومن المنطلق ذاته، فإن البيانات نفسها الجاري التنقيب عنها لأغراض الإعلانات المرتبطة بالبيع بالتجزئة يمكن استخدامها للتوفيق بين الناس والوظائف وثيقة الصلة، حيث إنها تدل على سمات نفسية عامة رُبطت بنتائج مهنية مدة عقود. على سبيل المثال، لو كشفت تفضيلات "نتفليكس" (Netflix) أو "سبوتيفاي" (Spotify) عن أننا فضوليون فكرياً أو مبدعون، فربما عرضت علينا الخوارزميات وظائف شاغرة لموظفين محبين للاستطلاع ومبدعين. لكن السر يكمن في أنه لا ينبغي تقديم أي من هذه الخدمات دون موافقة المستهلك - وفي ظل وعيه الحقيقي - وينبغي أيضاً أن تنقل إلينا "اتفاقاً" حول كيفية استخدام البيانات والسبب وراء استخدامها. نحن جديرون بأن يكون لنا الحق في معرفة الاستنتاجات المستخلصة من بياناتنا، سواء أكانت دقيقة أم لا.