مرة أخرى، أدى هجوم المتمردين في بيني، بؤرة تفشي مرض الإيبولا الجديدة عند الحدود الشرقية لجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى إعاقة جهود الفرق الطبية التي تعمل جاهدة على كبح تفشي الفيروس. أصبح من الصعب قياس مدى انتشار مرض الإيبولا بسبب حالة الانفلات الأمني وانعدام الثقة في المجتمع مع وقوع أكثر من 10 حوادث عنف كبيرة منذ الإعلان عن ظهور المرض في شهر أغسطس/آب. وعلى الرغم من إمكانية الحدّ من تفشيه فإن عدد الإصابات في تزايد مستمر وخصوصاً في بيني، حيث تضاعفت في الأسابيع الأخيرة مع ظهور 80% من الإصابات الجديدة بين السكان دون ارتباطها "بسلاسل انتقال معروفة للمرض" (حيث يكون جميع المصابين معروفين ويمكن تتبع من تعرض للعدوى بدقة إلى حدّ ما). من الممكن أن يكون ما نراه مجرد جزء بسيط من انتشار أكبر غير ظاهر للمرض، ومن الممكن أن يخرج المرض عن السيطرة وينتشر إلى الدول المجاورة. ولذلك، يجب تعديل خطة احتواء المرض لمواجهة هذه الخطر.
لطالما احتضنت المنطقة الشرقية من جمهورية الكونغو الديمقراطية إحدى أخطر النزاعات وأكثرها استعصاء في التاريخ المعاصر، مع وجود أكثر من 50 مجموعة مسلحة مستمرة بنشاطها في المنطقة. ونظراً لأن الكثير من هذه الميليشيات المسلحة قد تشكل أساساً لحماية المجتمعات، نجد أنها قد تشابكت مع شبكة تعمّها الفوضى من السياسات والائتلافات المتقلبة وصفقات التعدين التي تجرى "تحت الطاولة" والتي تغذي هذه الصراعات.
أدت هذه الخلفية، إضافة لعجز الحكومة والوكالات الدولية عن ضمان الأمان الأساسي، إلى الاحتياجات الأساسية الأدنى، إلى ترسيخ انعدام ثقة الشعب بالمؤسسات الرسمية. وقد أصبحت الأمور أكثر تعقيداً بسبب الانتخابات التي يفترض أن تجريها الكونغو في شهر ديسمبر/كانون الثاني بعد أن تم تأجيلها مرتين منذ عام 2016.
يجب اتخاذ إجراءات حاسمة الآن نظراً لإمكانية تفشي المرض بسرعة كبيرة وعلى نطاق واسع. لقد بنيت الخطة المتبعة حالياً للحدّ من تفشي المرض على تعقب التواصل (تحديد الأشخاص الذين كانوا قرب الأشخاص المصابين بفيروس الإيبولا على مدى فترة تطور المرض البالغة 21 يوماً ومراقبتهم) وصنع لقاح "حلقي" (تحصين الأشخاص الذين كانوا قرب المرضى ومن حولهم بلقاح تجريبي ضد الإيبولا). لقد كانت هذه الخطة فعالة في احتواء تفشي المرض في المنطقة الغربية من جمهورية الكونغو قبل عدة أشهر ولكنها تحتاج إلى مراقبة شاملة ودقيقة لمن أصيب بالعدوى ومن كان على مقربة منه، وهذا ما يوجب بالضرورة إمكانية الحضور ضمن مجتمعاتهم على مدى أشهر دون عوائق.
وهذا الأمر ليس ممكناً الآن، إذ لا يمكن الدخول إلى المناطق التي تشهد أحداث عنف لعدة أيام متواصلة في كل مرة. ولذلك، وفي حين يجب أن يستمر تعقب التواصل واللقاحات الحلقية في الأماكن التي يمكن تعقب انتقال المرض فيها، ينبغي أن نفكر بإجراء تطعيم جماعي لأعداد أكبر من السكان ضمن المناطق التي لا يمكن تعقب انتقال المرض فيها كما هو الحال في "بيني" التي تضم نحو 230,000 نسمة. يمكننا بواسطة نشر اللقاحات بهذه الطريقة وضع حدّ لتفشي المرض فوراً. صحيح أن التطعيم الجماعي هذا يبدو أمراً كبيراً، إلا أن "منظمة الصحة العالمية" قد نفذت مع مؤسسات أخرى حملات دولية أكبر بكثير فيما يزيد عن 40 دولة فقيرة، بما فيها جمهورية الكونغو، حيث تم تطعيم ملايين الأطفال ضد شلل الأطفال أو الحصبة خلال أسبوع واحد. كما نفذت هذه الحملات أيضاً بنجاح في أثناء النزاعات في الصومال وأفغانستان وليبيريا. على الرغم من أن أعمال التطعيم الجماعية تستهدف كتلاً سكانية بأكملها، فإنها لا تحتاج إلا الوصول إلى النسبة المناسبة لتحقيق ما يسمى "مناعة القطيع"، أي تحصين عدد كاف من السكان لمنع انتشار الفيروس. وقد وجدت دراسات سابقة على لقاح الإيبولا أنه من الممكن تحقيق مناعة القطيع عن طريق تطعيم نسبة بالكاد تصل إلى 42% من السكان.
يتطلب نجاح التطعيم الجماعي دعم المجتمعات وتمكّن الفرق الطبية المتخصصة من الدخول بأمان إلى المناطق المستهدفة لفترة يوم أو اثنين بحسب ما يحتاجه تطعيم الجميع. وتبشر نتائج دراسة جديدة بأنه حتى المجتمعات التي تعاني من انعدام الثقة بمستويات مرتفعة ترحب بحملات التطعيم وتتقبلها.
لقد بدأ علماء الأنثروبولوجيا (علماء الاجتماع والأجناس) بالفعل العمل الحثيث على الأرض لإشراك زعماء المجتمع والمجموعات المسلحة. وفي المناطق التي تقاوم التواصل معهم، ينبغي أن يتم تأمين حملات التطعيم بواسطة قوى "الخوذ البيضاء" الأمنية المحايدة، التي تكون عادة تابعة للاتحاد الإفريقي أو دول أخرى لم تشارك مسبقاً في نزاعات جمهورية الكونغو. ويجب التوضيح الشديد للسكان أن هذه القوة ليست حليفة لأي طرف سياسي أو تنظيمي وأنها موجودة فقط بهدف منع تعرض الفرق الطبية للعنف. وفي النهاية، لا يرغب أي من السكان أو المسلحين فقدان أحبائهم بسبب مرض الإيبولا، وسيحترمون وجود قوة مماثلة إذا تأكدوا من أنها مقيدة بمهمة طبية حصراً.
كما ستتطلب حملة التطعيم الجماعي إلى توفير كمية كافية من لقاح الإيبولا. وقد تعهدت الشركة المصنعة للقاح، شركة "ميرك"، بتأمين 300,000 جرعة من اللقاح في أي وقت. وقد يصبح ذلك صعباً إذا توسعت حملات التطعيم، ولكن في المرحلة الحالية يبدو أن عدد السكان الذين يحتاجون إلى التطعيم من أجل الحد من تفشي المرض لا يزال ضمن حدود عدد اللقاحات المتوفرة. ولكن مع ذلك، يجب زيادة إنتاج اللقاح ويجب تقييم ما تواجهه هذه الزيادة من عراقيل وإزالتها من أجل ضمان وجود إمداد كافٍ منه.
صحيح أن لقاح الإيبولا لا يزال في المرحلة التجريبية ومخاطره الصحية لا تزال غير معروفة تماماً، إلا أنه بالنسبة للشعوب التي تعيش في المناطق التي لا يمكن معرفة جميع المصابين فيها، قد تتعدى خطورة انتقال عدوى الإيبولا القاتلة دون علم في هذه المرحلة الخطورة المحتملة للقاح.
بعد أن خرج انتشار وباء الإيبولا في إفريقيا الغربية عن السيطرة، تساءل الكثيرون عن سبب عدم اتخاذ تدابير أكثر صرامة في وقت أبكر. وقد نكون اليوم عند نقطة حاسمة مماثلة بالنسبة لتفشي الإيبولا.