لا شك في أنك تساءلت يوماً عن دقة الأرقام الرسمية التي تتحدث عن النمو الاقتصادي في بلدك. وربما نظرت من حولك لتجد أن أحوال الناس وسهولة الأعمال، لا تعكس ما تتحدث عنه الحكومة من تحسن مستمر. أريدك أن تعلم أولاً، أنك لست وحدك في هذا التساؤل، وسأعرض اليوم في هذا المقال طرقاً غير تقليدية، لتتحقق من حالة النمو الاقتصادي في بلداننا العربية، وهي طرق قدمها علماء وباحثون أدركوا هذه المعضلة، فقدموا حلولاً مبسطة يمكن للجميع فهمها، تبدأ بقياس النمو من الفضاء الخارجي، أو عبر أحذية الناس، أو عبر الأبنية غير المكتملة، وصولاً إلى طرق طريفة مثل مقياس "لائحة أسعار المطاعم" ومقياس "بيج ماك" للساندويش، حيث يحتاج كل منا لمعرفة هذه الطرق في ظل التضخم الذي يعصف بالعالم حالياً، والذي تختلط فيه حقيقة تأثير التضخم العالمي بضعف أداء الحكومات.
ولنبدأ مع طريقة "قياس النمو الاقتصادي من الفضاء الخارجي"، فقد لاحظ ثلاثة باحثين هم ج. فيرنون هندرسون وآدم ستوريغيارد و ديفيد ويل أن مقاييس الناتج المحلي الإجمالي المعمول بها غير فعالة، ولا سيما في الدول النامية، وهذا يعود إلى أن كثيراً من الأنشطة الاقتصادية تجري بالالتفاف على القوانين، إضافة إلى المصادر المحدودة التي تواجهها الهيئات الحكومية المعنية بقياس الناتج الاقتصادي. فقد نشر هؤلاء الباحثون ورقة علمية حول طريقة قياس النمو الاقتصادي من الفضاء، وتوصلوا إلى هذه الفكرة غير التقليدية عبر دراسة الأضواء الساطعة في البلدان النامية ليلاً من خلال الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض 14 مرة في اليوم، وتقدم صوراً تساعد في كشف حالة النمو الاقتصادي في البلدان النامية، لأن البلدان المتقدمة لديها بيانات أكثر دقة في حساب الناتج المحلي الإجمالي والنمو الاقتصادي. وبالتطبيق العملي وجد الباحثون من خلال صور الأضواء الساطعة في الليل أن استهلاك الناس للكهرباء والأضواء الساطعة في الليل، يقل لأدنى درجة عندما تسوء الأوضاع الاقتصادية، وذلك بسبب حرص الناس على تخفيض فواتير استهلاك الكهرباء. وقد لاحظ الباحثون من صور عام 1998 انخفاضاً حاداً في أضواء الليل في إندونيسيا عندما حلت الأزمة الاقتصادية الآسيوية، ولاحظوا ارتفاعاً بنسبة 72% في أضواء الليل في كوريا الجنوبية من عام 1992 إلى عام 2008، وهي الفترة التي شهدت فيها كوريا الجنوبية نمواً اقتصادياً واضحاً.
ويمكن لمن يريد استخدام مقياس أضواء الليل أن يوسع دائرة تطبيقاته، عندما يرى الظلام الدامس الذي يخيم باستمرار على عدد من الدول العربية مثل لبنان وسوريا والعراق والسودان وغيرها، بفعل الأزمات التي تعيشها الإدارة الحكومية في هذه البلدان، والتي تعكس حقيقة تراجع اقتصاداتها.
وإذا كنت تعتقد أن هذه الطريقة غير علمية وغير دقيقة في قياس النمو الاقتصادي، فإنني أحيلك إلى الاتجاهات العالمية التي بدأت عملياً تتمرد على الطرق التقليدية في قياس النمو عبر الناتج المحلي الإجمالي، فقد شهد العالم في السنوات القليلة الماضية تشكيل تحالف بين ثلاث دول هي آيسلندا ونيوزلاندا وسكوتلندا، حيث قررت اعتماد رفاهية شعوبها كمقياس للنمو بدلاً من الطريقة التقليدية التي تعتمد الأرقام الجامدة (يمكنك الاطلاع على حديث تيد توكس لرئيسة وزارء سكوتلاندا تتحدث عن هذه الفكرة).
وللتأكيد على أن الأرقام لا معنى لها مادام الناس يعانون لتوفير أساسيات الحياة، فإنني أذكر هنا مقياساً آخر طبقته شركة خاصة اسمها "بريمس" وحققت مقاييس دقيقة في قياس حقيقة النمو الاقتصادي في بلدان العالم، لدرجة أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي اعتمدها كمصدر بيانات في العام 2019، فما هي طريقة شركة بريمس؟ تعتمد هذه الشركة على صور يرفعها المواطنون في دول العالم لطوابير الوقوف على محطات الوقود أو على محلات المواد الغذائية، كما تدرس صور الفواكه والخضروات التي يشاركها الناس إلى موقع بريمس مباشرة، وتحلل البيانات عبر الأسعار التي تظهر في الصور. وتحلل مثلاً صور التفاح أو الفواكه غير الناضجة التي تعرض في الأسواق، والتي تعتبر دليلاً على أزمة اقتصادية دفعت المزارعين لاستعجال طرح المنتجات للبيع وهكذا. ربما يحلو لبعضنا وصف عمل شركة بريمس بالمؤامرة، ولكنها إحدى منتجات ثورة المعلومات والتي يصعب إيقافها. ويمكننا أن نستفيد من فكرة مقياس الطوابير الذي تقدمه بريمس، لنلتفت حولنا، ولنعد أي طابور نقف فيه مؤشراً على أزمة، فقد يكون طابور الوقود أو طابور الإجراءات الحكومية أو حتى الطابور الإلكتروني، فهو حالة الانتظار التي قد تصل لأسابيع وأشهر وربما سنوات لإنجاز معاملة حكومية، أو الحصول على حكم قضائي يفصل بين الحق والباطل (ويمكنكم الاطلاع على تقرير البنك الدولي عن سهولة ممارسة الأعمال في جميع بلدان العالم)، لتجدوا بالأرقام كم تستغرق مدة الإجراءات للحصول على ترخيص تجاري أو شراء عقار تجاري أو الحصول على بعض الموافقات الحكومية في كل بلد، لتتعرفوا على هذه الطوابير التي قد لا نشاهدها بالعين المجردة.
يمكنك قياس حقيقة الوضع الاقتصادي في بلدك من خلال عدة مؤشرات بسيطة، بدءاً من "لائحة الطعام" أي "المنيو" والتي ذكرها ألفريد ميل في كتابه (مبادىء الاقتصاد)، حيث نبه إلى طريقة بسيطة، وهي أنك إذا تفحصت قائمة الطعام في أحد المطاعم في بلدك، ووجدت أن اللائحة مكشوفة وليس عليها ملصق يحميها، فهذا معناه أن البلد في حالة تضخم، وأن المطعم يُبقي لائحة الأسعار مكشوفة ليبدلها باستمرار، ويعدل أسعارها وفقاً لتطور حالة التضخم. كما يمكنك أن تعتمد مؤشر مجلة الإيكونومست (مؤشر بيج ماك)، وهو مؤشر يعني باختصار؛ أنه كلما اقترب سعر البيج ماك في مطاعم ماكدونالدز في بلدك (سعره بالدولار في بلدك) مع السعر الأصلي في أميركا، فمعنى ذلك أن عملة بلادك قوية، وكلما انخفض سعر البيج ماك مقدراً بالدولار في بلدك، فإن قيمة العملة في بلدك متراجعة أمام الدولار بمقدار الفرق بين سعر هذه الساندويتش في أميركا وبلدك، لأن انخفاض سعر هذه الوجبة في بلدك بالدولار يعني أن الدولار في بلدك يشتري منتجات أكبر مما يشتريه في أميركا.
ما ذكرناه سابقاً، طرق مبتكرة لقياس النمو الاقتصادي، وتبسيطه وتحويله إلى مؤشرات ملموسة تكشف ما تعجز عنه أو تخبئه الأرقام الحكومية الرسمية، ويمكنك أن تختار بعض الطرق السابقة أو تطورها حسب حالة بلدك، كما يمكنك أن تتعلم من تلك الطرق غير التقليدية في ابتكار طريقتك الخاصة لملاحظة حالة الاقتصاد، وهذا ما فعله أحد رؤساء الوزراء في دولة موزمبيق، والذي روى للباحث هانس روسيلينغ في كتابه (الإلمام بالحقيقة) بأن لديه طريقتين لقياس حالة الاقتصاد في بلده بعيداً عن الأرقام الرسمية؛ الطريقة الأولى، هي أنه يراقب أحذية الناس في مسيرات الأول من مايو وهي تقليد شعبي في موزمبيق، يشارك فيه الجميع، ويلاحظ مدى تحسن أحذية الشعب والتي لا يمكن إعارتها بحسب خبرته، لأن الجميع مشارك في المهرجان.
والطريقة الثانية، هي أنه يقوم بجولات في مدن وقرى الدولة، ويلاحظ مدى انتشار الأبنية غير المكتملة والتي تعلوها الأعشاب، ويرى أنه كلما زادت الأعشاب فوق الأعمدة قيد البناء، فمعنى ذلك أن الأحوال تسوء، وأن الوضع الاقتصادي يدفع الناس للتوقف عن استكمال أبنيتهم لفترات طويلة.