قال ديل كارنيغي ذات يوم: "إن الطريقة الوحيدة لإقناع شخص ما بفعل شيء ما هي جعله "يريد" فعل هذا الشيء". وبالتالي، فإن الاقناع والتأثير في الجمهور هو في نهاية المطاف عملية إقناع للذات. حتى لو وضعتُ مسدساً في رأسك، فإنك تظل حراً بأن تقرر ما الذي تريد فعله، على الرغم من أن مسدسي سيحد من خياراتك بالتأكيد.
تُظهر عمليات تحليل البيانات الضخمة بأننا سنكون أكثر قابلية للإقناع من قبل الآخرين عندما تتوافق الطلبات المقدمة إلينا مع قيمنا وصورتنا عن ذاتنا وأهدافنا المستقبلية. بعبارة أخرى، الناس أكثر قابلية للاقتناع بالشيء الذي يريدون فعله في المقام الأول. وكان الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال قد قال: "يميل الناس إلى الاقتناع بشكل أفضل بناء على الأسباب التي اكتشفوها بأنفسهم وليس بناءً على الأسباب التي وردت في أذهان الآخرين".
لماذا بعض الأشخاص أكثر قدرة على الإقناع من غيرهم؟
ورغم ذلك، فمن الواضح بأن بعض الناس أكثر قدرة على الإقناع من غيرهم. وعادة ما يكون هؤلاء الأشخاص أصحاب الكاريزما والوعي السياسي والمهارات الاجتماعية مطلوبين كمندوبي مبيعات ومدراء وقادة. وبفضل ذكائهم العاطفي الأعلى، فإنهم أقدر على قراءة الناس والاستفادة من معارفهم الحدسية هذه للتأثير في مواقف الآخرين وسلوكياتهم. وبما أنهم يظهرون كأشخاص حقيقيين أكثر من أقرانهم، فإننا نميل إلى الثقة بهم أكثر، إلى حد أننا نتنازل عن اتخاذ القرار بأنفسنا ونترك لهم المجال لاتخاذ القرارات نيابة عنا. وهذا ما يأمل معظم الناس الحصول عليه من سياسييهم، ولكن ليس هذا ما يحصلون عليه دائماً منهم.
ومع ذلك، ربما نحن نعطي هؤلاء النجوم المزعومين في إقناع الناس أكثر مما يستحقونه. فالكثير من الأبحاث في مجال علم النفس تتفق عملياً في الرأي مع كارنيغي، وتشير إلى أن المحفزات الأساسية للإقناع تحصل في ذهن "متلقي" الرسالة، بينما لا يتعدى تأثير الأشخاص المُقنعين أكثر من 10%. إذاً، ما هي القوى النفسية الرئيسية التي تفسر متى ولماذا نكون قابلين للإقناع من قبل الآخرين؟ فيما يلي بعض مما خلص العلم إليه في هذا المجال:
نحن نستسلم للاقتناع لأننا لا نستطيع تحمّل الغموض. نحتاج نحن البشر إلى ختام واضح للأمور التي يجب ألا تظل معلقة دون نهاية، ولدينا رغبة أيضاً بالمحافظة على التناغم بين معتقداتنا وسلوكياتنا المختلفة، الأمر الذي قد يولد تقلبات مفاجئة في مواقفنا ويجعلنا تواقين إلى الشعور باليقين. على سبيل المثال، يميل أولئك الذين يجرون مقابلة مع مرشح لشغل وظيفة معينة إلى إعطاء رأي أكثر سلبية بهذا الشخص، إذا كانوا قد حصلوا على معلومات سلبية عنه سلفاً، كما أن معظم الناس يبدلون رأيهم فوراً من الإعجاب بفكرة إلى كرهها، عندما يكتشفون بأن من اقترحها هو شخص لا يطيقونه. وبالمعيار ذاته، فإننا كبشر لدينا دوافع في لاوعينا للمحافظة على الانسجام في أفكارنا وخواطرنا. وهذه الدوافع قد تجعلنا غالباً في حالة حصانة من الاقتناع حتى لو كانت هناك براهين لا يمكن دحضها. على سبيل المثال، يكون المدراء عادة أقل ميلاً إلى ملاحظة الأخطاء لدى موظفيهم إذا كانوا هم من اختاروهم. لأن البديل من ذلك سيكون الاعتراف بأنهم أخطؤوا في اختيارهم، وهو أمر سيجعلهم يشعرون بأنهم أغبياء. وبالتالي، فإن الفكرة الأساسية هي أن الإقناع يعتمد على نظرتنا إلى نفسنا بشكل أكبر من اعتمادنا على نظرتنا إلى الرسالة، وكما لاحظ الفيلسوف الألماني نيتشه عندما قال: "هناك شخص يتمسك برأي ما لأنه يفخر بأنه قد وصل إليه بمفرده، وهناك شخص آخر يتمسك بذلك الرأي لأنه عانى كثيراً ليتعلمه وهو فخور بأنه قد استوعبه، وبالتالي، فإن كلا الشخصين يتمسكان بهذا الرأي من باب الغرور".
ليس هناك شيء مقنع للإنسان مثل الخوف. باستثناء الأشخاص المعتلين نفسياً، أكثر طريقة فعالية لإقناع الناس هي تفعيل آليات كشف المخاطر لديهم. وهذا ما يفسر سبب شعور الناس عموماً برغبة أكبر في تحاشي فقدان شيء يعتقدون أنهم يمتلكونه (مثل الحب أو الصحة أو المال) مقارنة مع رغبتهم في كسب شيء قد يريدون امتلاكه. فعبارة مثل "إذا اشتريت هذا الشيء ستعيش لفترة أطول" هي أقل فعالية من "إذا لم تشتر هذا الشيء فإنك ستموت قريباً".
نظرية "تأثير الشخص الثالث"
نحن نميل عادة إلى رؤية الآخرين على أنهم أكثر سذاجة وقابلية للانخداع منا. إن نظرية "تأثير الشخص الثالث" هي واحدة من النظريات المثبتة، وهي تقول إن الإنسان يحس بالراحة وتتعزّز نفسيته عندما يشعر بمزيد من الاستقلال عن أقرانه، وهذا الشعور بدوره يغذي حالة خداع الذات لدينا.
وتماشياً مع هذه النظرية، فإننا عموماً أقدر على اكتشاف محاولات الإقناع عندما تكون موجهة إلى الآخرين بالمقارنة مع لو ما كانت موجهة إلينا. وحتى عندما يحاول العلماء شرح هذه النظرية للناس العاديين، فإن معظمهم ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم أقل سذاجة وانقياداً من الآخرين، تماماً مثل التحيز الموجود لدينا بأننا أفضل من الناس الآخرين.
الإقناع هو أمر عاطفي في المقام الأول وعقلاني في المقام الثاني. نحن أميل إلى الاستسلام والاقتناع من الآخرين بغية المحافظة على حالة مزاجية معينة أو الوصول إلى تلك الحالة المزاجية، بالمقارنة مع الاقتناع بهدف كسب المزيد من المعرفة أو تطوير تفكيرنا. فعندما يشعرنا أحدهم بالجمال، سواء قصد ذلك أم لا، فإننا سنكون أميل إلى موافقته على آرائه والاقتناع بما يقوله لنا.
فخلال عملية إقناع الآخرين، إبداؤنا للدفء الإنساني والتعاطف معهم يقودان إلى نتائج أكبر بكثير بالمقارنة مع استعمال المنطق والبراهين. ولهذا السبب فإن معظم الإعلانات تستهدف الجوانب العاطفية لدينا. ومع ذلك، من المهم جداً أن تكون هذه المحاولات غير مباشرة، بحيث تبدو صادقة. فإبداء الدفء بشكل مبالغ في صراحته سيجعله يبدو مزيفاً ومصطنعاً، وكأنه محاولة مفضوحة للتلاعب بنا.
باختصار، هذه الحقائق المتعلقة بطرق إقناع الجمهور بفعالية تسلط الضوء على مدى لا عقلانية طريقة التفكير البشرية. فرغم أننا نعيش في عالم تحركه وتقوده البيانات الإلكترونية، لكن ذلك لا يجعل الناس أكثر عقلانية. وهذا هو أيضاً السبب الذي يجعل الشخص ذاته يعتبر فكرة ما بأنها عظيمة في أحد الأيام، ومن ثم يعتبرها فكرة عبثية في اليوم التالي. وكما قال آرثر شوبنهايمر يوماً: "كل الحقائق تمرّ عبر 3 مراحل: أولاً تتعرّض للهزء بها والسخرية منها. ثانياً، تجري معارضتها بعنف. ثالثاً، يتمّ قبولها بوصفها حقيقة بديهية لا تحتاج إلى برهان".