تُعتبر المرونة، المعرّفة بوصفها القدرة النفسية على التكيّف مع الظروف الصعبة والتعافي من نتائج الأحداث السلبية، سمة شخصية مرغوبة بشدة في مكان العمل العصري. وكما ناقش كل من شيريل ساندبيرغ وآدم غرانت في كتابهما الذي صدر مؤخراً، يمكننا أن نفكّر في المرونة كأحد أنواع العضلات التي تتقلّص في السراء وتتمدد في الضراء.
من هذا المنطلق، تُعد الشدائد أفضل السبل الكفيلة بتطوير المرونة التي أشار إليها عدة فلاسفة على مر السنين؛ إذ أشار سينيكا إلى أن "الصعوبات تقوّي العقل، كما يقوي العمل الجسد"، وقال نيتشه مقولته الشهيرة: "الشيء الذي لا يقتلنا يجعلنا أقوى". وفي سياق مماثل، تستخدم قوات مشاة بحرية الولايات المتحدة الشعار: "ما الألم إلا مجرد ضعف يغادر الجسد" كجزء من برنامج تدريبها القاسي.
لكن هل يمكن أن تكون المرونة المفرطة أمراً سيئاً تماماً كما يمكن أن تكون الكتلة العضلية المبالغ فيها أمراً سيئاً – أي أنها ستشكل عبئاً على القلب؟ تشير دراسات علمية واسعة النطاق إلى أنه حتى الكفاءات المتكيّفة تصبح سيئة التكيف إذا دُفِعت إلى الحد الأقصى. ووفقاً لما أشار إليه البحث الذي أجراه روب كيسر حول تنوع المهارات القيادية، تتحول جوانب القوة المستغلة بإفراط إلى نقاط ضعف. وبما يتماشى مع ذلك، يسهل تصور المواقف التي يمكن أن يكون الأفراد فيها مفرطي المرونة بحيث يخدمون مصالحهم الخاصة.
على سبيل المثال، قد تدفع المرونة المتطرفة الأشخاص إلى أن يصبحوا شديدي التشبث بأهداف بعيدة المنال. وعلى الرغم من أننا نميل إلى الاحتفاء بالأشخاص ذوي الأحلام الكبيرة أو الطموحات العالية، تُعد مواءمة أهداف الشخص مع أصعدة أكثر قابلية للتحقيق أكثر فاعلية عادة، ما يعني الاستغناء عن البقية. وفي الواقع، تُبيّن الاستعراضات العلمية أن معظم الأشخاص يهدرون قدراً هائلاً من الوقت وهم يواظبون على تحقيق أهداف غير واقعية، وتُدعى هذه الظاهرة "متلازمة الأمل الزائف". وحتى عندما تُشير السلوكيات القديمة بوضوح إلى أنه من غير المرجح أن تتحقق الأهداف، قد تُفضي الثقة الزائدة في النفس والقدر عديم الأساس من التفاؤل إلى تبديد الأشخاص لطاقتهم على مهام عديمة الجدوى.
وفي السياق ذاته، قد تجعل المرونة المفرطة الأشخاص شديدي التحمل للشدائد. وقد يُترجم هذا في العمل إلى تحمل وظائف مملة أو مثبّطة للهمم، ولمدراء مزعجين على وجه التحديد، لوقت أطول من اللازم. وفي أميركا، يعتبر 75% من الموظفين مديرهم المباشر أسوأ ما في عملهم، كما عبّر 65% منهم عن استعدادهم لتقاضي راتب منخفض إذا تمكّنوا من استبدال مديرهم بشخص آخر. ومع ذلك، ليس ثمة ما يشير إلى أن الأشخاص يتصرفون وفقاً لهذه المواقف في الحقيقة، إذ بقيت مدة تولّي الوظيفة ثابتة على مر السنين على الرغم من إمكانية الحصول واسعة الانتشار على فرص العمل وزيادة التوظيف السلبي الذي استحدثته الثورة الرقمية. وبينما سهّلت التكنولوجيا على الناس مقابلة شخص ما وبدء علاقة جديدة، بدا الناس مذعنين لحالتهم الراهنة الكئيبة في عالم الأعمال. وربما لو كانوا أقل مرونة، لزاد احتمال تحسينهم لظروف عملهم، كحال الكثيرين من الأشخاص عندما يُقرّرون التخلي عن الوظائف التقليدية ليعملوا لحسابهم الخاص. بيد أن الناس يُبدون استعداداً لتحمل وظيفة سيئة (ومدير مزعج) يفوق استعدادهم لتحمل علاقة سيئة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تَحُول المرونة المفرطة دون فاعلية القيادة فضلاً عن فاعلية الفريق والفاعلية التنظيمية كامتداد لذلك. أوضح أدريان فورنهام وزملاؤه في دراسة أجروها مؤخراً وجود فروقات هائلة في قدرة الأشخاص على التكيف مع الوظائف وبيئات العمل المجهِدة. وعند مواجهة ظروف تبدو بائسة، يتمثّل بعض الأشخاص بشخصية كرتونية لبطل خارق يخترق حائطاً من الطوب بلا خوف ودون انفعال وبرباطة جأش مفرطة. وليحموا أنفسهم من الأذى النفسي، يُسخّرون آليات تأقلم عدوانية للغاية تساهم بدورها في تضخم أناهم بطريقة مصطنعة. وفي الوقت ذاته، يتمتع آخرون بمجموعة من الميول الكامنة التي تجعلهم يتصرفون بشكل مختلف نوعاً ما عندما يرزحون تحت الضغوط والتوتر. إذ يصبحون مضطربين عاطفياً وخائفين من الرفض، وبناء على ذلك، يبتعدون عن المجموعات ويعزلون أنفسهم ليتجنبوا التعرض إلى الانتقاد ويعترفون علناً بالأخطاء كوسيلة لحماية أنفسهم من الإذلال العلني.
على الرغم من أن العادة جرت على اعتبار البطل الخارق المرن أفضل، فلهذا الأمر جانب مظلم خفي؛ إذ إنه يترافق مع سمات مماثلة بالضبط لتلك التي تحول دون الوعي الذاتي، الذي يحول بدوره دون القدرة على الحفاظ على ثقة واقعية بالنفس التي تُعدّ محوريّة بالنسبة لتطوير الإمكانات المهنية للشخص وموهبته القيادية. على سبيل المثال، تشير دراسات متعددة إلى أن القادة الشجعان لا يدركون حدودهم ويُغالون في تقدير قدراتهم القيادية وأدائهم الحالي، مما يؤدي إلى عدم قدرتهم على مواءمة النهج الشخصي لأحدهم بحيث يتناسب مع الظروف. إنهم في الحقيقة مرنون بشكل صارم وواهم ولا يتقبّلون المعلومات التي قد تكون واجبةً لإصلاح نقاط الضعف السلوكيّة أو تحسينها على الأقل. باختصار، عندما تكون المرونة مدفوعةً بتنمية الذات، يُكلّف النجاح ثمناً باهظاً: ألا وهو الإنكار.
بالإضافة إلى تعميتها للقادة عن فرص التطور وفصلهم عن الواقع، أصبحت مسارات القيادة واهنة بسبب القادة المرنين الذين رُشّحوا على أنهم يتمتّعون بإمكانات كبيرة ولكنهم لا يتمتعون بمهارات حقيقية في مجال القيادة. ولتفسير هذه الظاهرة، يزعمُ عالما الأحياء الاجتماعي ديفيد سلون وإدوارد ويلسون (إي أو ويلسون) أن الشخص الذي يفوز ضمن أية مجموعة من الناس، سواء تمثّلت هذه المجموعة في فريق عمل أو مرشحين للرئاسة، والذي يُعيّن بالتالي قائداً لتلك المجموعة، غالباً ما يكون مرناً جداً أو "يتّسم بالعزيمة".
على الرغم من ذلك، ثمة أمر يحدث في العلاقات الإنسانية أكثر أهمية من السياسات الداخلية، كما أن المنافسة ضمن المجموعات أقل أهمية منها بين المجموعات – كتنافس شركة آبل مع شركة مايكروسوفت على الابتكارات التكنولوجية، ومحاولة شركة كوكاكولا أن تتفوّق على الحملات التسويقية التي تُجريها شركة بيبسي، أو من حيث التطور، كيف قاتل أسلافنا ضد الفرق المنافسة من أجل أراضيهم منذ 10,000 عام. وكما أشار روبرت هوغان، إلى أنه للتفوّق على المجموعات الأخرى، يجب أن يكون الأشخاص قادرين على الانسجام مع بعضهم البعض ضمن المجموعة الخاصة بهم كي يشكّلوا فريقاً. ويتطلّب هذا مؤهلات قيادية على الدوام، لكن يجب اختيار القادة المناسبين. وعندما يتعلّق الأمر بتحديد القادة الذين سيشجعون الفريق على المدى الطويل، يتمتّع الأشخاص الأكثر مرونة من الناحية النفسية بمجموعة متنوعة من الخصائص تبدو أقرب إلى الدهاء السياسي وأسلوب القيادة المستبد أكثر من قربها من تلك الخصائص اللازمة للتأثير في الفريق ليعمل بتناغم ويركّز اهتمامه على التفوق على المنافسين. وبمعنى آخر، لا يكفي اختيار قادة مرنين؛ إذ يجب أن يتمتّعوا أيضاً بالنزاهة وأن يهتموا برفاه فرقهم أكثر من اهتمامهم بنجاحهم الشخصي.
وخلاصة القول، لا شك أن المرونة تُمثّل سمة مفيدة ومتكيّفة بدرجة كبيرة، لاسيما في مواجهة الأحداث المأساوية. بيد أنها قد تجعل الأشخاص يركّزون على أهداف مستحيلة ويتحملون دون مبرر ظروفاً غير مستحبّة أو غير مجدية عند المغالاة فيها. يذكّرنا هذا برواية "كانديد" (Candide) التي كتبها فولتير، تلك التحفة الساخرة التي تكشف العواقب العبثية الناتجة عن التفاؤل الشديد: "لقد أردت أن أنتحر مئات المرات، لكنني ما زلت أعشق الحياة بطريقة أو بأخرى. ربما يكون هذا الضعف السخيف أحد أحزاننا الأكثر غباء، فهل هناك أمر أكثر غباء من أن تكون متحمّساً للمضي قدماً وأنت تحمل العبء الذي سيتخلص منه المرء بكل سرور، وأن تحتقر الوجود وتتمسك به رغم ذلك، وأن نُلاطف الثعبان الذي يلتهمنا حتى يلتهم قلوبنا؟".
في النهاية، بينما قد يكون اختيار القادة على أساس مرونتهم – ومن لا يريد أن يحميه قائد صارم وقويّ؟ - أمراً باعثاً على الاطمئنان بالنسبة للفرق والمؤسسات والدول، فقد لا يكون هؤلاء القادة مفيدين للمجموعة بالضرورة، إذ يشبهون كثيراً الجراثيم أو الطفيليات التي تُمثّل إشكالية أكبر عندما تكون أكثر مقاومة.