تشكّل رؤية الإمارات 2071 التي أطلقها نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم، خطة استراتيجية طموحة وممتدة الأثر، تهدف إلى جعل دولة الإمارات من أبرز دول العالم بحلول مئويتها في عام 2071. وتعمل هذه الرؤية على إحداث تحولات جذرية في عدة قطاعات، والتركيز على الاقتصاد المعرفي، والابتكار، والاستدامة، مع الحفاظ على القيم الثقافية الأصيلة.
وفي هذا الإطار، تركز استراتيجية رؤية 2071، التي أُطلقت في العام 2017 على وضع الاقتصاد الثقافي والإبداعي في قلب مسار التنمية، بهدف تعزيز اقتصاد معرفي متنوع. وتهدف الرؤية إلى تشجيع الابتكار وريادة الأعمال في المجالات الإبداعية، من خلال الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية والصناعات المتقدمة، ما يسهم في دعم أساليب التعبير الإبداعي الحديث، وزيادة إنتاجية الشركات الوطنية في القطاعات الثقافية. كما تطمح الاستراتيجية إلى جعل الإمارات وجهة عالمية للثقافة والفنون، وجذب المواهب والجماهير الدولية، بما يعزز مكانتها بوصفها مركزاً محورياً للصناعات الثقافية والإبداعية.
ويعكس هذا التوجه التزام الإمارات بوضع الإبداع في صميم مشهدها الاقتصادي والثقافي، باعتباره ركيزة أساسية لتحقيق نمو مستدام وتعزيز الحضور الدولي للدولة. وتهدف الرؤية إلى بناء مجتمع متماسك ينطلق من هويته الوطنية ويسعى إلى الريادة في شتى المجالات. ومن موقعي بوصفي مديراً عاماً لشركة أبوظبي للترفيه والرئيس التنفيذي لشركة بداية للإعلام، لمست عن قرب الدور المحوري للثقافة والترفيه في دعم هذه الطموحات الوطنية، وتأسيس جيل من المبدعين والمبتكرين والقادة القادرين على تجسيد رؤية الإمارات المستقبلية.
الاستثمار في القطاعات الثقافية والإبداعية
في ظل التحولات العالمية المتسارعة، تشكّل الصناعات الثقافية والإبداعية اليوم قوة دافعة للنمو الاقتصادي والاجتماعي على مستوى العالم، إذ تُقدّر قيمتها بنحو 2.25 تريليون دولار، أي ما يعادل %10 من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وتقف دولة الإمارات العربية المتحدة في طليعة هذا التوجه، إذ رسخت مكانة الاقتصاد الإبداعي ليكون ركيزة أساسية ضمن خططها للتنويع الاقتصادي، ما يعزز دور الثقافة والإبداع بوصفهما عنصرين محوريين في جودة الحياة والحضور العالمي. وقد عبّر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن هذا التوجه قائلاً:
”الإمارات هي عاصمة اقتصادية عالمية، والإبداع جزء من اقتصادنا وجودة حياتنا ومحرك رئيسي لمستقبل دولتنا”.
وتعكس هذه الرؤية طموح الإمارات في بناء اقتصاد ثقافي متكامل، إذ تمتد جهودها عبر قطاعات متعددة تشمل السياحة، الفعاليات، الموسيقى، حقوق الملكية الفكرية، صناعة الألعاب المزدهرة. وتشكّل السياحة ركيزة أساسية في هذا التوجه، ومن المتوقع أن تسهم بما يقرب من 62.8 مليار دولار في الناتج المحلي بحلول عام 2028، ما يعكس نجاح الإمارات في تعزيز مكانتها بوصفها وجهة ثقافية وسياحية عالمية. وتستمر الدولة في ترسيخ حضورها الثقافي العالمي من خلال استثمارات ضخمة في الفعاليات الكبرى والمهرجانات، ما يعزز هويتها الثقافية ويوسع نطاق جمهورها الدولي.
وتواصل صناعة الألعاب الرقمية في الإمارات أيضاً تحقيق نمو ملحوظ، إذ من المتوقع أن تصل إيرادات القطاع إلى 50.6 مليون دولار في عام 2024، بمعدل نمو سنوي قدره %4، ليبلغ حجم السوق نحو 57.07 مليون دولار بحلول عام 2027. ومن المتوقع أيضاً أن تصل نسبة انتشار الألعاب الرقمية بين المستخدمين إلى 12.7% في عام 2027، مع تزايد اهتمام الإماراتيين بتجارب الواقع الافتراضي. وتمثّل هذه القطاعات المتنوعة مثالاً حياً على كيفية توظيف الإمارات للثقافة والإبداع لدعم النمو الاقتصادي وتعزيز التلاحم الاجتماعي.
يدعم هذه التوجهات الاستراتيجية عدد من المبادرات الوطنية، منها ”الاستراتيجية الوطنية للصناعات الثقافية والإبداعية” التي أُطلقت في عام 2021، والتي تهدف إلى رفع إسهام القطاع الثقافي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 5% بحلول عام 2031. وتتضمن هذه الاستراتيجية 40 مبادرة تهدف إلى تنمية المواهب المحلية وتطويرها وتعزيز بيئة العمل في الصناعات الإبداعية. وتأتي ”استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي” ضمن هذه الجهود، إذ تهدف إلى رفع إسهام هذه الصناعات من 2.6% إلى 5% من الناتج المحلي بحلول عام 2025، مع مضاعفة عدد العاملين في القطاع ليصل إلى 140 ألف شخص، ما يعزز مكانة الإمارات بوصفها مركزاً عالمياً للإبداع والثقافة.
وفي الوقت الذي تسعى فيه دولة الإمارات إلى بناء اقتصادها الإبداعي، تلعب التكنولوجيا دوراً مهماً في تحويل القطاع الثقافي. وتسهم الاستثمارات في مجالات السرد الرقمي، والذكاء الاصطناعي، وإنتاج الوسائط الإعلامية في إعادة تشكيل كيفية إنتاج المحتوى وتوزيعه واستهلاكه. وتبرز أبوظبي على وجه الخصوص مركزاً للابتكار الرقمي، مستخدمةً التكنولوجيا لتعزيز الإنتاج الثقافي وجعله أكثر وصولاً إلى الجمهور.
يأتي هذا النمو في الاقتصاد الإبداعي متماشياً مع النجاحات الاقتصادية الواسعة التي حققتها الدولة مؤخراً، حيث سجّل الناتج المحلي غير النفطي في أبوظبي رقماً قياسياً بلغ 164.2 مليار درهم في الربع الثاني من عام 2024، بزيادة قدرها 6.6%. كما ارتفعت نسبة إسهام القطاع غير النفطي إلى %55.2 من اقتصاد الإمارة، وهي الأعلى منذ عام 2014، ما يعكس نجاح الإمارات في تنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على النفط، مع استمرار الدولة في مسيرتها نحو مستقبل مزدهر ومستدام.
الاستثمار الاستراتيجي في القطاعات الثقافية والإبداعية
في إطار سعيها لتحقيق أهداف النمو في الاقتصاد الإبداعي، التزمت أبوظبي باستثمار 22 مليار درهم (6 مليارات دولار أميركي) بين عامي 2021 و2026، بهدف تقليل الاعتماد الاقتصادي على النفط وخلق بيئة ثقافية حيوية ومتنوعة. تشرف دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي على هذا الاستثمار، وهو جزء أساسي من استراتيجية الإمارة الواسعة لجذب المواهب العالمية، وتشجيع الابتكار، وترسيخ مكانتها بوصفها قوة في الصناعات الإبداعية. وستُخصَّص هذه الميزانية الضخمة لدعم البنية التحتية الثقافية، وتعزيز التبادل الثقافي، وترسيخ مكانة أبوظبي مركزاً عالمياً في القطاع الإبداعي.
الإبداع والابتكار الثقافي دعامتان أساسيتان لرؤية الإمارات 2071
برؤية تتجاوز حدود النجاح الاقتصادي، تتجه الإمارات بخطى ثابتة نحو بناء مجتمع يزدهر فيه الإبداع وتتجذر فيه الثقافة، ضمن رحلتها لتحقيق رؤية 2071. ومن خلال استثمارات متواصلة في الثقافة والتعليم والتكنولوجيا، تُرسخ الإمارات إرثاً ثقافياً مستداماً لأجيال المستقبل، إذ تُشكّل هذه الاستثمارات قاعدةً متينةً لمجتمع يفخر بتراثه ويسير بثقة نحو الابتكار.
تنعكس هذه الرؤية من خلال منظومة متكاملة من المعالم الثقافية والإبداعية التي تُبرز الإمارات مركزاً إقليمياً وعالمياً، بدءاً من ”متحف اللوفر”، و”بيت الحرفيين”، و”مكتبة أبوظبي للأطفال”، وصولاً إلى المبادرات الكبرى مثل ”القمة الثقافية في أبوظبي”، و”معرض فن أبوظبي”، و”موسيقى أبوظبي الكلاسيكية”، و”معرض أبوظبي الدولي للكتاب”. وبهذا، أصبحت أبوظبي محوراً للإنتاج الثقافي ومصدراً إقليمياً متميزاً للمحتوى الإبداعي، ما يعزز المشهد الثقافي في الدولة ويؤسس لاقتصاد معرفي قوي ومستدام.
ومن اللافت أن قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية هو اليوم من أسرع القطاعات الاقتصادية نمواً عالمياً، إذ يحقق إيرادات سنوية تتجاوز 2.25 تريليون دولار أميركي، أي ما يمثّل %10 من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويوفر قرابة 30 مليون وظيفة تنافسية. وفي منطقة الشرق الأوسط، يشهد هذا القطاع نمواً سريعاً بفضل الإدراك المتزايد لأهميته الجوهرية بوصفه عنصراً محورياً في النمو الاقتصادي.
وانطلاقاً من رؤيتها لمستقبل مزدهر ومستدام، رصدت أبوظبي استثمارات ضخمة لتعزيز الصناعات الثقافية والإبداعية، إيماناً بدورها المحوري كمنصة تجمع بين الفنون والثقافة والأعمال والتكنولوجيا. فهذه الصناعات لا تمثّل مجرد روافد اقتصادية، بل هي قوة مؤثرة في تحقيق التنمية الاجتماعية وتنويع الاقتصاد، ما يعزز مكانة أبوظبي بوصفها مركزاً عالمياً للإبداع والمعرفة.
وبدعم من هذا الزخم الاستثماري، تواصل أبوظبي مسيرتها نحو بناء اقتصاد معرفي شامل، إذ تسهم هذه الصناعات في صياغة مجتمع مزدهر ومتطور، مستوحى من طموحات الإمارات في أن تكون نموذجاً يُحتذى به في التنمية المستدامة والمستقبل الواعد.