كيف تتوقف عن إشغال تفكيرك بأمور لا تحتاج للإرهاق في العمل؟

6 دقيقة
تعزيز عملية التفكير
فريق هارفارد بزنس ريفيو/ أنبلاش

يعتمد معظم القادة بصورة مكثفة على منطقة رئيسية في الدماغ، هي قشرة الجبهة الأمامية المسؤولة عن الوظائف العليا مثل التركيز والتخطيط والضبط الذاتي واتخاذ القرارات. لكن قدرات هذه المنطقة محدودة؛ فهي تتعب بسرعة، وتواجه صعوبة في معالجة المعلومات الزائدة، وحساسة جداً للمشتتات …

على الرغم من انتشار أدوات الإنتاجية وأطر تقييم الأداء واستراتيجيات إدارة الوقت، لا يزال العديد من القادة يصابون بالإرهاق والإجهاد الذهني في نهاية يوم العمل. لكن عبء العمل ليس هو السبب دائماً، فمن خلال الأبحاث التي أجريتها لتأليف كتبي، وعملي مستشاراً متخصصاً في علم الأعصاب مع مؤسسات عالمية وجامعات مرموقة، اكتشفت أن المشكلة تكمن غالباً في كيفية استخدام القادة لأدمغتهم.

يعتمد معظم القادة بصورة مكثفة على منطقة رئيسية في الدماغ تدعى قشرة الجبهة الأمامية، وهي المسؤولة عن الوظائف العليا مثل التركيز والتخطيط والضبط الذاتي واتخاذ القرارات. لكن قدرات هذه المنطقة محدودة، فهي تتعب بسرعة وتواجه صعوبة في معالجة المعلومات الزائدة، وحساسة جداً للمشتتات والضغوط. في المؤسسات السريعة الخطى، يعاني الكثير من القادة استنفاد طاقتهم الذهنية وليس نقص الوقت.

لا يرجع ذلك إلى تقصير شخصي، بل إلى مشكلة في النظام نفسه، إذ صممنا بيئة العمل بطريقة تفرض أداء متواصلاً على منطقة في الدماغ لم تخلق للعمل دون توقف. فبيئة العمل الحالية تغرقنا دون وعي منا في دوامة من المشتتات المتلاحقة، والمهام المتقطعة، والضرورات المستعجلة. وفي حين يمكن لتقنيات فردية مثل تمارين التنفس أو تخصيص وقت للمهام أن تساعد، فإن قوة الإرادة وحدها لن تكون كافية لإصلاح هذا النظام.

لذلك، فإن تعزيز عملية التفكير يتطلب من القادة تجاوز الحلول الفردية والبدء بإعادة تصميم البيئات التي يعملون فيها، خاصة المساحات التي تحفز الانتباه وتوجه السلوك وتحث على التعاون. فكل بيئة عمل مليئة بمحفزات معرفية، سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة، وهي توجه تركيز الأفراد وتحدد أسلوبهم في التواصل واتخاذ القرارات، وإذا لم تصمم بعناية، فإنها غالباً ما تضعف الأداء الذي نسعى لتحقيقه.

أهمية التنوع المعرفي

لا يكمن الحل في زيادة التركيز أو المثابرة، بل في تعلم توظيف الدماغ بالكامل، بما في ذلك الشبكات الدماغية القوية لكن غير المستخدمة على النحو الأمثل، مثل شبكة الوضع الافتراضي التي تدعم ربط الأفكار والمعلومات والإبداع والتبصر، والشبكة البارزة التي تكتشف الأهمية النسبية والفروق العاطفية وتميز بين ما يبدو عاجلاً وما هو مهم حقاً. عندما يستخدم القادة هذه الأنظمة بطريقة مدروسة تزداد قدرتهم على الإبداع واتخاذ قرارات أفضل تحت الضغط ويرتفع مستوى انسجامهم العاطفي.

تأمل الآثار السلبية للبيئات المصممة لإنجاز المهام بسرعة على حساب الحفاظ على الطاقة الذهنية:

عندما ينتقل القادة من اجتماع لآخر دون مساحة للتفكير في المناقشات التي دارت وتلخيصها، لا يكون ذلك خياراً شخصياً في الغالب، بل نتيجة لنظام المواعيد وثقافة الاجتماعات والأدوات الرقمية التي تحض على التفاعل المستمر والحضور الدائم، ما يقمع عمل شبكة الوضع الافتراضي في الدماغ.

  • عندما يتحول اتخاذ القرار إلى عملية قائمة على البيانات فقط دون منح مساحة للتأمل، فإن هذا يعكس بيئة عمل تكافئ السرعة واليقين على حساب التفكير المتعمق. في مثل هذه الظروف، لا يستخدم القائد الشبكة البارزة في دماغه بما يكفي.
  • عندما يجري تخصيص وقت مرة واحدة كل ربع سنة للتفكير الاستراتيجي، فذلك لأن زخم المهام اليومية يطغى على المساحة الذهنية اللازمة له. فالمهام المستمرة لا تترك متسعاً لشبكات الدماغ المسؤولة عن التخطيط الطويل المدى والتفكير الإبداعي.
  • عندما تركز تقييمات الأداء على المؤشرات والقوائم والنتائج الفورية فقط، قد يغفل القائد عن التغيرات الدقيقة في حالته المزاجية وطاقته وسلوكه، وهي إشارات خفية لكنها بالغة الأهمية، لا تلتقطها لوحات التحكم، بل تحتاج إلى انتباه عميق وملاحظة دقيقة، إذ يتطلب التقاط هذه الإشارات وقتاً وحضوراً وذهناً غير مثقل بالأعباء.

لقد صممنا ثقافات قيادية ترهق الشبكات الدماغية المسؤولة عن المهام لأنها تضغط عليها باستمرار، في حين يجري تهميش النظم العصبية المسؤولة عن العمق الاستراتيجي وحل المشكلات الإبداعي والذكاء المرتبط بالعلاقات الشخصية.

وهذه معضلة حقيقية، لأن قشرة الجبهة الأمامية تتعب بسرعة، إذ تظهر التجارب أن كفاءتها تتراجع بصورة ملحوظة بعد الاستخدام المتواصل، خاصة تحت وطأة الضغوط أو المشتتات.

فالقادة الذين يواصلون العمل المكثف دون تنويع النشاط المعرفي تظهر عليهم علامات تبدو كأنها تقصير شخصي مثل ضيق الأفق، وقلة الصبر، وشرود الذهن في الاجتماعات، لكنه في الحقيقة إرهاق عصبي. ومن خلال التشغيل الواعي لشبكات الدماغ الأوسع، وإعادة تصميم البيئات المحيطة التي تحدد طرق تفكيرنا، يمكن للقادة استعادة وضوح الرؤية والمرونة والقدرة المستدامة على العطاء، وفيما يلي كيفية تحقيق ذلك.

تحقق من نوع التفكير، وليس الوقت المستغرق فيه فقط

لا تتساوى أنواع التفكير، إذ غالباً ما يخلط القادة بين الوقت الذي ينفقونه في العمل والقيمة المعرفية التي يحصلون عليها، بينما يهدر جزء كبير من طاقتهم الذهنية في التفاعل المستمر والتبديل بين المهام أو التصفح السطحي للمعلومات، لذا، يجب عليك تتبع نوع التفكير الذي تمارسه والتحقق من ملاءمته للمهمة المطلوبة.

جرب هذا التقييم المعرفي:

  • أي جزء من يومك خصصته للتركيز العميق، أو التصفح السطحي للمعلومات، أو التبديل بين المهام، أو حل المشكلات العاطفية؟
  •  متى شعرت أن حدة تفكيرك في ذروتها؟ وما الظروف التي عززت ذلك؟
  • أي المهام استنزفت طاقتك أكثر من اللازم؟ ولماذا؟

يعيد هذا النهج صياغة جدول أعمالك، لا بوصفه خطة للإنتاجية فحسب، بل باعتباره خريطة معرفية أيضاً تظهر توزيع طاقتك الذهنية. تظهر الأبحاث أن التبديل بين المهام يخلف "بقايا انتباه" تضعف التركيز، وتشير جمعية علم النفس الأميركية إلى أن التبديل بين المهام، ولو كان قصيراً، قد يستهلك حتى 40% من وقتك الفعال. والأكثر من ذلك، تعزز أنماط التفكير السطحي والمتكرر دوائر دماغية روتينية تتجاوز الوعي، مدفوعة بما يسميه علماء الأعصاب "الشبكة العصبية الوجدانية"، وهي نظام دماغي تلقائي تشوبه العواطف، ويؤثر في تصرفاتنا دون وعي منا.

خطط لأسبوعك بحيث يتوافق العمل العميق مع فترات الذروة الذهنية لديك. اجمع المهام المتشابهة معاً، وتجنب ترتيب المهام التي تتطلب قرارات مصيرية في الصباح بعد ليلة نوم مضطربة. وإذا كنت تطلب من فريقك أداء أعمال تتطلب تركيزاً عميقاً، فاحرص على دعمهم بالإجراءات نفسها بدلاً من تنبيههم عبر تطبيق سلاك كل 12 دقيقة.

اجعل الاستراحة الذهنية عرفاً ثقافياً مرئياً

لا يقتصر دور القادة على إدارة الوقت، بل هم النموذج الحي لما يعتبر مقبولاً في بيئة العمل. ترسي غالبية أماكن العمل حالياً ثقافة خاطئة بأن الراحة اختيارية، في حين تكافئ التفاعل المستمر. وهذا يدفع إلى الإرهاق المزمن، ويعطل الشبكة الافتراضية في الدماغ المسؤولة عن حل المشكلات الإبداعي، والتخطيط المستقبلي ودمج الرؤى.

فالدماغ البشري لم يخلق للإنتاج المعرفي المتواصل، ومن دون راحة، سيسيطر عليه التعب.

لجعل فترات الراحة مرئية ومقبولة:

  • خصص 10-15 دقيقة بعد الاجتماعات المكثفة، وسمها رسمياً فترة استراحة إلزامية.
  • اجعل فترات الراحة بين المهام ظاهرة للجميع في جدول مواعيدك.
  • وفر أنصاف أيام خالية من الاجتماعات للفرق كافة، ليس لتعزيز الإنتاجية فحسب، بل لحماية الكفاءة العصبية للموظفين.

إذا لم يجعل القادة هذه الممارسات سلوكاً طبيعياً فلن يشعر الآخرون بأنه مسموح لهم اتباعها. فأنت لا تدير دماغك فحسب، بل ترسم الطريقة التي يدير بها أعضاء المؤسسة كافة أدمغتهم.

استخدم الشبكة البارزة بدلاً من الشبكة الوجدانية

كثيراً ما يلجأ القادة تلقائياً إلى السرعة واليقين والحدس عند اتخاذ القرارات المصيرية. لكن تحت الضغط، قد تتغلب الشبكة الوجدانية العاطفية السريعة في الدماغ على الشبكة البارزة المصممة أساساً لتقييم ما يستحق الاهتمام حقاً.

لإعادة تفعيل الشبكة البارزة، على القادة أخذ وقفة وإعادة النظر في أفكارهم، ومن ثم معاودة التفكير في القرار من زاوية مختلفة.

جرب هذا التمرين قبل اتخاذ القرارات المهمة:

  • غير البيئة المحيطة: انتقل إلى مكان آخر أو غير الإطلالة التي تجلس قبالتها، أو ابتعد عن المثيرات البصرية من حولك.
  • اسأل نفسك: "ما المؤشر الذي يمكن أن يكون قد فاتني بسبب انغماسي الشديد في الموقف؟"
  • اخرج من نمط تفكيرك المعتاد: ارسم مخططاً للموقف وناقش الأفكار مع آخرين، أو استخدم الاستعارات. هذه الأساليب غير التقليدية تستخرج رؤى قد تخفى عنك خلال المهام الروتينية.

هذا التحول اللحظي يمكن العقل من الوصول ليس فقط إلى المنطق، بل إلى إدراك الأهمية النسبية من خلال دمج السياق والأنماط والنبرة العاطفية. فالقادة لا يحتاجون إلى مزيد من البيانات، بل إلى نظرة أوسع ورؤية أشمل.

نظم الفريق بطريقة تدعم عمل الدماغ على نحو متكامل

نادراً ما يكون الإرهاق الذهني ناجماً عن تقصير فردي، بل ينجم في الغالب عن خلل في تصميم النظام. فمعظم أنظمة الفرق مصممة للخدمات اللوجستية، وليس لتعزيز الأداء الذهني. تخلط الاجتماعات بين التنفيذ والاستكشاف، وتطغى المستجدات على الرؤى، وتحشر فترات الراحة في استراحات الغداء. يمكن للقادة تغيير ذلك ليس من خلال بذل جهد أكبر في العمل، بل بتنظيم الفريق بأسلوب ذكي يدعم أنواعاً مختلفة من التفكير.

جرب هذه الاستراتيجيات:

  • صنف الاجتماعات إلى "اجتماعات تركيز" (لاتخاذ القرارات)، أو"اجتماعات تأمل" (للاستفادة من الدروس)، أو "اجتماعات تواصل" (لمواءمة التوجهات)، وتجنب الخلط بينها.
  • طبق نظام "30-30": 30 دقيقة عمل، تليها 30 ثانية لتدوين الفكرة الرئيسية أو الخطوة التالية، فهذا يعزز التذكر ويساعد على إنهاء المهمة.
  •  خصص فترة أسبوعية ثابتة "دون مدخلات جديدة" للفريق بأكمله، بحيث تكون فرصة لتلخيص المعلومات الحالية بدلاً من استهلاك معلومات جديدة.

تنقل هذه التحولات الفريق من الإجهاد الذهني المستمر إلى إيقاع متناغم يظهر فيه الإبداع والمرونة والتعاون.

اعمل على تبسيط النظام

لا يستطيع فريقك أداء مهامه إذا كانت أدمغتهم تعاني الفوضى المستمرة. فاليوم، يجبر الموظف العادي على التوفيق بين مهامه الأساسية وعدد لا يحصى من المطالب: اتصالات داخلية، ودعوات لمنصات التعلم، وتحديثات للتنوع والمساواة والشمول، ومبادرات للصحة النفسية، وحملات ثقافية، وتغييرات في السياسات، وأنظمة جديدة، وهي كلها جهود تنظيمية حسنة النية لكنها نادراً ما تكون جزءاً من استراتيجية معرفية منسقة. والنتيجة؟ يتشتت انتباههم، وتثقل ذاكرتهم العاملة، وحتى أصحاب الأداء العالي يفقدون القدرة على تحديد الأولويات.

جرب هذه الاستراتيجيات لتبسيط النظام وتمكين الآخرين من الأداء بصورة سليمة:

  • راجع المدخلات في فريقك: كم عدد المنصات والطلبات والرسائل التي يديرونها في وقت واحد؟
  • ضع قاعدة تنص على أن تتماشى المبادرات الداخلية مع الأولويات التجارية وحدد الجهد الذهني المطلوب لها؛ أي مقدار الانتباه وحجم القرارات الواجب اتخاذها والجهد الابتكاري اللازم والوقت الذي يستغرقه العمل لتحقيق النتيجة المنشودة. وستحدد بهذه الطريقة ما يتطلبه النجاح من الأفراد.
  • خصص مساحات للتركيز وحافظ عليها: حدد الوظائف الأساسية التي تحفز الأداء، مثل تطوير المنتجات، أو إبرام الصفقات، أو تنفيذ المشاريع، أو إدارة الفرق، وخصص وقتاً لها. عملياً، قد يتجلى ذلك في تحرير الفترة الصباحية لبعض الأيام من الاجتماعات أو تحديد يوم في الأسبوع للابتكار.

هذه ليست قيادة هشة، بل تبسيطاً استراتيجياً. فعندما تبسط بيئة العمل يقل التوتر وتتحرر طاقة أفراد فريقك للعمل الذي وظفوا من أجله حقاً.

مستقبل القيادة يكمن في التصميم المعرفي

لم تعد القيادة مجرد سلوكيات، بل أصبحت علماً عصبياً. في عالم يفيض بالمحفزات، لن ينجح القادة الذين يحاولون التفكير بسرعة أكبر، بل الذين يصممون بيئات عصبية أفضل، ويعملون مع الدماغ لا ضده.

إذا أرادت المؤسسات تعزيز التفكير والابتكار والمرونة ضمن فرقها، عليها أن تتوقف عن إرهاق أضعف أنظمة الدماغ، وتصمم بيئات عمل تطلق إمكاناته الكاملة. فالأداء الاستثنائي لا يعتمد فقط على من توظفه، بل على البيئة التي تخلقها.

 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي