نتناول كل يوم الطعام في المطاعم، ونبيت في الفنادق، ونتلقى الطرود، ونستخدم أجهزتنا الرقمية، على افتراض أن الشركات التي ندفع لها المال مقابل هذه الخدمات، مثل "هيلتون" و"أمازون" و"آبل" وغيرها، توظف بدورها الأشخاص الذين يوصلونها إلينا. ولكن هذا الافتراض غير صحيح، فغالباً ما يقوم المتعاقدون الخارجيون بخدمات التوصيل، وينظف موظفون مؤقتون من وكالات التوظيف غرف الفنادق.
أطلق على هذه الظاهرة اسم "مكان العمل المتصدع"، ويتكئ جزء كبير من نظامنا الاقتصادي الحالي على صدوعه، وهو يحرم موظفين كثر من الأجور العادلة، والمسار المهني، وبيئة العمل الآمنة. ويقدّر عدد الموظفين الذين يتقاضون أجوراً متدنية بحسب مكتب كبير الاقتصاديين في وزارة "العمل" الأميركية بحوالي 29 مليون موظف ضمن 10 قطاعات فقط، وكانوا هم الفئة الأشد تضرراً بتبعات هذا التصدع في فترة من الزمن، إلا أن هذه التبعات أثرت أيضاً على فئات حملة الشهادات الجامعية وأصحاب المهن التي كانت تعتبر يوماً محمية من تقلبات أسواق العمل المتخبطة.
لا ينحصر تعاملي مع هذا التغيير الجذري في نظامنا الاقتصادي بالبحث الأكاديمي الذي أجريه، فقد رأيت تبعاته السلبية مباشرة من خلال عملي في وزارة "العمل" في إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، إذ كنت رئيس قسم الأجور وساعات العمل فيها. وهذا القسم هو الوكالة المسؤولة عن تعزيز أهم معايير بلادنا الأساسية (الأجور الدنيا، والوقت الإضافي، وعمل الأطفال.. إلخ). وما تعلمته من عملي هذا يمكنه مساعدة صانعي السياسات وقادة الأعمال في فهم كيفية نشوء هذه الأزمة، وأسبابها، وفهم الخطوات التي يجب أن نتخذها جميعاً من أجل التوصل إلى اتفاق ناجح ينصف الجميع.
أولاً، لنلق نظرة سريعة على كيفية وصولنا إلى هذه الأزمة. على مدى العقود الأخيرة، واجهت الشركات الكبرى في نظامنا الاقتصادي ضغوطاً شديدة من أجل تحسين الأداء المالي للمستثمرين الخاصين والعامين. وكانت استجابتهم لهذه الضغوط تتمثل بالتركيز على الكفاءات الجوهرية في شركاتهم، أي الوظائف التي تقدم القيمة العظمى لزبائنهم ومستثمريهم، والتخلي عن الوظائف ذات الأهمية الأقل.
لقد بدأت الشركات عموماً الاستعانة بالموارد الخارجية لأداء بعض الأعمال، كدفع الأجور، وتجهيز المنشورات، والمحاسبة، والموارد البشرية. ولكن مع مرور الوقت، امتد ذلك ليشمل أعمالاً كالنظافة وصيانة المرفقات والأمن. وفي الكثير من الحالات تعمقت الاستعانة بالموارد الخارجية في الشركات أكثر لتطال الوظائف التي يمكن اعتبارها جوهر الشركة، كخدمات نظافة الغرف في الفنادق، وإعداد الوجبات في المطاعم، وتحميل البضائع وتفريغها في مراكز توزيع التجزئة، وطالت حتى الأعمال القانونية الأساسية في شركات المحاماة.
إن الوضع مطابق تماماً لصدع نشأ في صخرة صلبة، ثم أخذ يمتد ويتعمق فيها. فبمجرد التخلي عن وظائف كأعمال النظافة أو خدمة نظافة الغرف، تتأثر الشركات الفرعية التي تتولى هذه الأعمال غالباً من خلال نقلها إلى شركات أخرى أيضاً. على سبيل المثال، من الشائع أن تستعين الشركات في قطاعات الفنادق أو البقالة بشركات خارجية لأعمال التنظيف، التي بدورها توظف شركات أصغر من أجل تأمين عمال لمرافق أو نوبات عمل محددة.
ولأن كل مستوى من بنية مكان العمل المتصدع يحتاج عائداً مالياً لعمله، فإنه كلما تعمقنا أكثر، ازدادت ضآلة هوامش الأرباح المتبقية. وفي الوقت نفسه، كلما تحركنا باتجاه المستويات الأدنى، نجد أن العمل يشكل عموماً حصة أكبر من التكاليف الكلية، ويشكل إحدى التكاليف القليلة التي يمكن للأطراف الفرعية الأبعد عن الشركة المركزية، أو السفينة الأم إذا جاز التعبير، التحكم بها مباشرة. ويعني ذلك بروز الدوافع لخفض النفقات، ما يؤدي إلى مخالفة معاييرنا الجوهرية للعمل. وفي الوكالة التي عملت فيها سابقاً، شهدنا مخالفات مرتبطة بالتصدعات على هيئة عجز عن دفع الأجور المستحقة لعمال النظافة أو عمال تركيب الكابلات أو النجارين أو العاملين في إدارة المنازل أو عمال الرعاية المنزلية أو عمال التوزيع، وعادة ما تكون الخسائر مساوية لخسارة أجور ثلاثة أسابيع أو أربعة. وهو ما يساوي بالنسبة لعائلة تصارع لكسب عيشها قيمة شراء البقالة لأكثر من خمسة أسابيع أو قيمة إيجار شهر أو تكلفة رعاية الأطفال لخمسة أسابيع.
ولكن الانفصال عن الشركة المركزية لا يؤثر على الانصياع لمعايير العمل فحسب، وإنما يمكنه تخفيض الأجور وتحصيل المستحقات أيضاً. إذ تبين الأبحاث أنك عندما تكون موظفاً لدى شركة كبيرة ستحقق زيادة في الأجر والأرباح مع مرور الوقت بغض النظر عما إن كانت الشركة التي تعمل لديها منشأة نقابية أم لا، ولكن ستنخفض الأرباح بدرجة كبيرة عندما يكون العمل تعاقداً خارجياً للوظائف نفسها. وتتلاشى الفرص المتاحة "لتسلق السلم الوظيفي" لأن الشخص في غرفة البريد (أو على الأرجح عند مكتب خدمات تقنيات المعلومات) هو مقاول فرعي غير مقيد بمسار. وهذا لا يعني فقط تفاقم تدني الأجور وانخفاض تحصيل الاستحقاقات، وإنما يعني فرصاً متناقصة للحصول على التدريب من خلال الممارسة وعلى حماية شبكات الأمان الاجتماعية كتأمين البطالة وتعويض العمال والوصول إلى الشبكات الاجتماعية القيّمة ومسارات الترقية التصاعدية الأخرى. ومع أخذ كل ذلك بالحسبان نجد أن مكان العمل المتصدع يسهم في تفاقم عدم التساوي في الأجور.
وعلى كل حال، تبقى هناك مفارقة بالغة الأهمية للشركات التي تتخلى عن الكثير من الوظائف للمؤسسات الأخرى. بما أن الشركة المركزية توفر الشركات العاملة الفرعية وتعتمد عليها بتفاصيل متقنة كالتوقيت والمواصفات المحددة والجودة والسعر بالطبع من أجل خدماتها المتعاقد عليها، وهذا ما يحدث فعلاً حسبما أثبتته أبحاثي وخبرتي، ألا يجب على هذه الشركة المركزية تحمل بعض المسؤولية فيما يتعلق بالالتزام بالقوانين؟ ألا يجب عليها تأمين فرص لحصول "الموظفين المؤقتين" على ترقيات، نظراً لاحتمال استمرار عملهم لديها بدوام كامل لسنوات غالباً؟ أجبنا على ذلك في قسم الأجور وساعات العمل بنعم، يجب عليها ذلك. لأنه من غير الممكن أن تتملص من مسؤوليتك تجاه الموظفين ضمن مؤسستك وأنت تملي عليهم كيفية تنفيذ العمل في الوقت ذاته. وبالنتيجة، ركزنا جهودنا على معالجة الآثار المترتبة عن التصدع باتباع عدة طرق استناداً إلى القوانين التي نفذناها وما تلاها من أحكام قضائية.
لقد سعينا لضمان أن يعامل المتعاقدون الخارجيون المستقلون كما يجب وألّا يساء تصنيفهم ببساطة. وأجرينا تحقيقات عن الشركات التي كانت تسعى إلى تحقيق الميزة التنافسية عن طريق إساءة التصنيف، وغالباً ما كنا نلجأ إلى المحكمة ونفاوض الشركات على تسويات كبيرة لضمان أن تقوم مستقبلاً بالتصنيف الصحيح للموظفين. وعملنا مع الوكالات الحكومية المسؤولة عن تعويضات الموظفين وتأمينات البطالة وعائدات الضرائب، في الولايات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، من أجل محاربة إساءة التصنيف عن طريق مشاركة المعلومات حول الشركات والقطاعات التي يواجه موظفوها صعوبات فيها، وتنسيق تنفيذ القوانين على الشركات التي تسيء تصنيف موظفيها.
كما هدفنا إلى الحرص على أن تفهم جميع الأطراف المتأثرة بمكان العمل المتصدع أدوارها في ضمان الالتزام بالقانون. مثلاً، في كثير من الظروف استعنّا بالقانون ورأي القضاء الراسخ من أجل التأكيد على التوظيف المشترك وضمان أن تحمل كل من الشركات المركزية والفرعية مسؤولياتها تجاه موظفيها. وقمنا بالأمر ذاته أيضاً مع وكالات التوظيف والشركات التي تستأجرها وفي القطاعات سريعة النمو، كالتصديع الهيدروليكي، التي تنتشر فيها الممارسات المتصدعة بسرعة كبيرة. في هذه القطاعات وغيرها الكثير، سعينا لدفع الشركات التي حددت قدراً كبيراً من علاقات العمل من أجل ممارسة دورها في الالتزام بالقانون، كشركات بناء السفن التي تستأجر وكالات التوظيف وتجار التجزئة الذين يستعينون بشركات اللوجستيات من أجل إدارة مراكز التوزيع لديهم.
كما لاحظنا أيضاً أن العديد من الشركات التي تتمتع بنجاح كبير تتحمل مسؤولياتها فعلاً، وذلك عن طريق اختيار شركاء ضمن سلسلة التوريد، وشبكات التعاقد الخارجي، وأنظمة الامتياز التجاري (الفرانشايز) ممن يلتزمون بالقانون، وغالباً ما كانت تزيد من متطلباتها القانونية. يمكن أن تستفيد هذه الشركات من المرونة المتأتية من العلاقات المتصدعة، ولكنها أيضاً تعي مسؤولياتها كمركز الجاذبية في هذه العلاقات. وقد عقد قسم الأجور وساعات العمل شراكات عديدة مع شركات كبيرة نهضت وقبلت ممارسة دورها المهم في الاستعداد لكل ما يجري حولها، والمساعدة على الالتزام بالقانون، وتأمين فرص التدريب، وإعداد علاقات العمل التي تسمح لجميع الأطراف أن تجيد التصرف وتحسن معاملة موظفيها.
خذ مثلاً شركة "صب واي"، التي تنتمي إلى قطاع يتميز بانتشار عدم الالتزام بالقانون فيه على نطاق واسع، فقد شاركت في اتفاق طوعي مع قسم الأجور وساعات العمل من أجل زيادة الالتزام بالقانون ضمن نظامها المؤلف من 27 ألف ممنوح الامتياز التجاري (الفرانشايز). ويتضمن الاتفاق مزيجاً من التدريب، والانتشار، ومشاركة المعلومات، وحل المشكلات المشتركة من أجل مساعدة ممنوحي الامتيازات على فهم مسؤولياتهم والموظفين على فهم حقوقهم في ظل القانون. كما يؤمّن المعلومات لكلا الطرفين من أجل التعرف على الصعوبات التي تواجههما باستمرار في الالتزام بالقانون ومعالجتها، وبالأخص ممنوحي الامتياز الذين يعانون من صعوبات كبيرة وشاقة. وكذلك عملنا مع شركات في قطاع الزراعة، بعضها نشأ عن إجراءات تطبيق القانون والنزاعات، من أجل العثور على شركاء في سلسلة الموارد ممن يلتزمون بالقانون والاحتفاظ بهم.
توضح هذه الأمثلة إمكانية وجود مصالح مشتركة في الالتزام بالقانون بين الشركة والحكومة. ولكننا في عالمنا المتصدع هذا نبقى بحاجة مستمرة إلى تيقظ الوكالات الحكومية كي لا تسمح بتقويض السلوك السليم الذي تمارسه تلك الأطراف على أيدي المنافسين الذين اختاروا عدم المشاركة فيه.
وهذا يعيدني إلى الموظفين الذين أهملتهم عملية التعافي الاقتصادي الطويلة، وكانوا مهملين قبلها. إذا كانت إدارة ترامب مهتمة حقاً بهؤلاء الموظفين وتأمل أن تساعدهم، فيجب عليها أن تتوجه لمعالجة القوى التي تتسبب بالتصدعات، والتي أسهمت في نشوء عدم المساواة التي نعيشها اليوم. وعلى الرغم من أننا لن نتمكن من العودة إلى الوراء في التاريخ الاقتصادي، بإمكاننا البحث عن سبل لموازنة فوائد ترتيبات العمل الجديدة مع مصالح ملايين الموظفين والعاملين الذين يحققون قيمة هائلة كل يوم للشركات الكبيرة ومستثمريها وزبائنها. وإلا سيتراجع جزء كبير من القوى العاملة وسيبقى متأخراً عن الركب كثيراً. ويمكننا البدء عن طريق الاعتراف الصادق بالصدع الذي نشأ أمام أعيننا وتحت أقدام الموظفين المعرضين للخطر قبل أن يصبح الشق المتنامي هوّة يستحيل جسرها.