بقلم إلكسندر كايلة، وجيرمي هيرشبرغ، وستيفانو بيتي
يبدو أنّ التوتّر من حين إلى آخر أمرٌ لا مفرّ منه لدى الكثير من القادة، ولكنّ هذا لا يعني أنّه لا يمكن تجنّب الآثار السلبيّة للتوتّر من خلال شيء من الوعي وامتلاك المهارة اللازمة.
يعاني الكثيرون من تجارب سلبيّة شديدة بسبب التوتّر. ولنا مثالٌ في ستيفانو، الكاتب المشارك في هذا المقال. في عام 1998 بدأ ستيفانو العمل في وظيفة في الخارج وكان في الوقت ذاته ما يزال يتابع متطلبات درجة الماجستير في إدارة الأعمال. كان يعمل ويدرس لأربع عشرة ساعة كلّ يوم، طوال أيام الأسبوع ، مدفوعًا بتدفّق لا يتوقّف من هرمونات التوتّر. في نهاية ذلك العام تعرّض ستيفانو للإعياء ونوبات الصداع، وانتابته حالة من السأم والتبرّم، ولكنّه رغم ذلك تجاهل كلّ هذه الأعراض واستمرّ في العمل على ذلك النحو دون توقّف. وسرعان ما تفاقمت تلك الأعراض وانتهى الأمر بستيفانو بحالةٍ من الإنهاك التامّ، وبدأ يعاني من الدوار وتسارع نبضات القلب كما فقد القدرة على التركيز وأصابته نوبات من الهلع، عدا عن الخمول والأرق والكآبة. عندها قرّر ستيفانو أن يأخذ استراحة لستّة أشهر كاملة من أجل أن يستعيد عافيته الذهنية والبدنيّة ويعيد بناءها من جديد كي يتمكّن من العودة إلى العمل.
يتعرّض الناس للآثار المزمنة للتوتّر بأشكال عديدة. ففي دراسة عالمية حديثة أجريت على 740 من القادة تبيّن أنّ 84% منهم قد تعرضوا للتوتّر بشكل مستمر. وليس غريبًا أن يذكُر أكثرُ من نصف هؤلاء القادة أنّ التوتّر قد أثر سلبًا على فعاليتهم في العمل وتواصلهم مع الآخرين مما أضر بنتائج أعمالهم. أمّا البقية من القادة – 45% تقريبًا- فقد كانت لهم حكاية مختلفة. لقد كان للتوتّر في حياة هؤلاء أثر إيجابيّ، أو على الأقل تجنبوا آثاره السلبية، كما أنّ أكثر من 25 بالمئة منهم ذكروا أنّ التوتّر قد ساعدهم بالفعل على زيادة فعاليتهم.
فما الذي ساعدهم على تحقيق هذه النتائج؟ وما الأشياء التي قام بها هؤلاء القادة وغابت عن ستيفانو؟ لقد تعدّدت الإجابات التي حصلنا عليها من القادة الذين عملنا معهم طيلة العقود الماضية، وسنركّز في هذه المقالة على جانبين: الوعي بالنقطة الحرجة، وإزاحة التوتّر.
الوعي بالنقطة الحرجة
تتطلب إدارة التوتّر مستوىً من الوعي الذاتيّ تمامًا كما هي الحال مع القدرات القياديّة الأخرى. لكلّ واحد منّا "نقطة حرجة" حيث يتحوّل التوتّر المعتدل والمحتمل عندها إلى توتّر مزمنٍ يودي بنا بسبب التدفق المتواصل لهرمونات التوتّر إلى نقطة الانهيار. أمّا القادة الذين يتقنون التحكم بالتوتّر فإنهم يكونون قادرين على تحديد المؤشرات التي تخبرهم بأنّهم يقتربون من تلك النقطة الحرجة، ويمتلكون الوعي اللازم ليأخذوا خطوة إلى الوراء بعيدًا عن حافّة الانهيار.
يمكن تقسيم علامات التوتّر المزمن إلى ثلاث فئات أساسية: الجسديّة، والذهنية/العاطفيّة، والسلوكية. وفي ما يلي بعض الأعراض الشائعة التي قال القادة في الدراسة إنّهم لا يشكون منها إلا في حالة التوتّر المزمن، أو أنّها تشتدّ في تلك الحالة.
الأعراض التي يعاني منها القادة في حالة التوتّر المزمن:
الجسدية: الأوجاع والآلام، الدوار، مشاكل في المعدة، مشاكل جلدية، نوبات صرع، تسارع خفقان القلب، ارتفاع ضغط الدم، صعوبات التنفس، الارتعاش/الارتجاف، الشد على الفك وصك الأسنان.
الذهنية/العاطفية: القلق/نوبات القلق، الفتور/الخمول، التشوش/الاضطراب، المزاج الكئيب أو المنقبض، الإعياء، النسيان/اضطراب الذاكرة، ضعف التركيز، نوبات الهلع، الصعوبة في اتخاذ القرارات.
السلوكية: تناقص الاهتمام بالنظافة الشخصية أو المظهر، ازدياد تناول الكحول أو التدخين، اضطرابات النوم، السأم والتململ، العدوانية، الميل إلى البكاء، اضطراب الشهية.
- ملاحظة: لهذه الأعراض أسباب أخرى كثيرة سوى التوتر المزمن، كما أنّ التوتر المزمن يفاقم الأعراض أو الاضطرابات الصحية التي يعاني منها الشخص.
في حين أن كلّ واحد من هذه الأعراض قد ينعكس سلباً على كفاءة القيادة، فإنها جميعها تعود بشكل مباشر أو غير مباشر إلى ردّات فعلنا الغريزيّة التي طوّرها الإنسان ليحمي نفسه. فعندما نواجه تهديدًا ما، حقيقيًا كان أو متخيلًا، فإنّ جسمنا يتحرّك ليجعلنا على استعداد لاتخاذ واحد من ثلاث ردّات فعلٍ ممكنة: الضرب، أو الهرب أو الثبوت في نفس المكان. فعلى سبيل المثال يقوم القلب الذي يخفق بسرعة بإرسال دفقة من الدم إلى العضلات الأساسية كي يقوم الإنسان بالضرب أو الركل أو الهرب. وحين تحصل ردّات الفعل البدائية وغير الواعية، فإن الوظائف الإدراكية الأعلى تضعف، إذ إنّ هرمونات التوتّر أن تؤثر بشكل كبير على ملَكات التركيز والتخطيط واتخاذ القرارات في قشرة الدماغ الأماميّة.
ولكنّ هذه الآليات الغريزية للبقاء لا تتناسب مع ظروف الحياة المعاصرة، فالنجاح على الصعيد المهنيّ والشخصيّ يتطلب القدرة على التجاوب المرن فكريًا وعاطفيًا واجتماعيًا وتجنّب ردّات الفعل الجسديّة المعتمدة على الغريزة. كما أنّ التحدّيات التي تواجهنا عادة ما تستمر لفترات طويلة من الزمن، مما يؤدي إلى تفعيل مزمن لنظام البقاء الذي تطوّر ليعمل في الحالات الطارئة وحسب.
هذا التفعيل الغريزي قادر على دفع الشخص إلى تلك النقطة الحرجة، فلكلّ واحد منا حدود للتحمّل، وحين نتجاوزها فإننا نكون عرضة لمجموعة من الاضطرابات المترابطة جسديًا، وذهنيًا وعاطفيًا، وسلوكيًا، وهي اضطرابات قد تسوء كلما ارتفعت مستويات التوتر. ومن الضروريّ للغاية أن نمتلك الوعي كي نلاحظ هذه الأعراض بالإضافة إلى ضرورة التحلي بالشجاعة لاتخاذ قرارات صعبة كفيلة بالحدّ من التوتّر الذي أصابنا. يقول أحد القادة: "في هذا العالم الذي يدعونا دومًا لتجاوز حدودنا تكمن الشجاعة في أعلى صورها في أن نعرف حدودنا هذه وأن لا نسمح لحورية البحر بإغرائنا بالاستمرار في المسير." لو أنّ ستيفانو قبل 17 عامًا التفت إلى تلك الأعراض الجسدية والعاطفية التي ظهرت عليه لتمكّن من السيطرة عليها قبل أن تتفاقم ولتجنّب تلك المعاناة الكبيرة التي مرّ بها.
إزاحة التوتّر
لا شكّ في أنّ التزامك بالتخفيف من التوتّر لن يكون مجديًا إلا إذا كنت تعرف كيف تفعل ذلك. لقد كُتب الكثيرُ عن إستراتيجيات إدارة التوتّر، فهنالك تقنية إعادة التأطير الإدراكي، ووسم المشاعر، والتدريبات الخاصة بالذهن والجسد وأساليب إدارة الوقت وتمارين اللياقة والتغييرات الغذائية، وغير ذلك. ونحن ننصح القادة باتباع أي تقنية يرون أنّها الأنسب لهم، ولكننا نركّز هنا على واحدة من التقنيات التي من شأنها أن تدعم كافة التقنيات والإستراتيجيات الأخرى: التنفس القصدي.
التنفس عملية إراديّة وغير إرادية في آن واحد. لا يحتاج الإنسان إلى تحديد عملية التنفس كمّا وكيفًا (لحسن الحظ!)، ولكنّنا نستطيع تغيير طريقة تنفسنا إن قررنا ذلك بوعي، وهذا يمنحنا المقدرة على تعليق ردّات الفعل التلقائية الخاصة بالتوتّر وتطوير مستوى توازن أعلى في جهازنا العصبيّ الذاتي.
للجهاز العصبي الذاتي قسمان: الجهاز العصبي الودي (المحرّك الطبيعي للبشر) والجهاز العصبي نظير الودّي. وعند تفعيل هذين القسمين بالتبادل وبنسق ثابت فإننا نكون قادرين على الوصول إلى حالة تدعى الاتّساق (Coherence). تمتاز هذه الحالة بالثبات على الصعيد العاطفي والقابلية العالية على التحكم بالقشرة الأمامية للدماغ، مما يزيد من الصفاء الذهني والتركيز ، وهذا ما نحن بحاجة إليه للتعامل مع تحدّيات القيادة بشكل أكثر فعالية. أمّا التوتّر فيتّسم بالتفعيل القويّ للجهاز العصبي الودّي مع تغافل نظير الودّي، مما يجعلنا نستمرّ بالحركة والجهد بلا توقّف.
وهنا تظهر أهمّية التحكم بالتنفس: فحين نستنشق الهواء يزداد خفقان القلب، ويتباطؤ عند الزفير، فيتلقّى الدماغ مباشرة معلومات عن نبض القلب، ممّا قد يساعد في تنظيم الجهاز العصبي الذاتي. لذلك فإننا حين نمارس نسقًا منتظمًا من الشهيق والزفير، فإننا نقوم بتطوير حالة من التوازن بين القسم الودي ونظير الودي من جهازنا العصبي.
ننصح باستخدام هذه الطريقة ذات الخطوات الثلاثة لممارسة التنفس القصدي:
- تذكّر أن تتنفّس: حين تصاب بالتوتّر فإنّه من المفيد أن يكون حولك إشارة تذكّرك بأن تأخذ نفسًا.
- ابدأ التنفس القصدي: خذ نفسًا قويًا وطويلًا وعميقًا من الهواء وكرّر هذه الحركة مرتين، وحاول أن تلاحظ الإحساس الجسدي الذي يرافق هذا التدريب.
- مارس التنفّس الطنّان. بعد أن تكرر التنفس القصدي، انتقل إلى ما يدعى التنفّس الطنّان، حيث تستغرق عملية الشهيق والزفير في كلّ مرة عشر ثوان، مع تكرار ذلك 6 مرّات في الدقيقة. يساعد التنفس الطنّان في الوصول إلى حالة الاتّساق (Coherence). وسيكون من المفيد أن تتعلم القيام بهذه العملية أثناء المشي، إذ يمكن أن يساعد نسق خطواتك على توجيه عملية التنفس، وستجد بعد وهلة أنّ النسق بين السير والتنفس يحدث بشكل تلقائي ولن تحتاج بعدها إلى التوقيت. واصل ممارسة هذه العملية إلى أن تشعر بتحوّل في حالتك الذهنية وتصل إلى إحساس بأنّك تسيطر على ردّات فعلك.
إن الدخول في حالة الاتّساق مفيدٌ في معظم المواقف سواء تلك المتعلقة بالتوتّر المرتفع أو لا، وكلّما مارست هذه الخطوات الثلاثة ستجد سهولة أكبر في الانتقال إلى التنفس القصدي حين تحتاج إلى ذلك.
لقد كان للتنفس القصديّ دور بالغ الأهمية في تعافي ستيفانو، إذ ساعده على تنظيم جهازه العصبيّ، وسهّل عليه مواصلة الممارسات الصحّية الأخرى، كالحرص على التغذية الجيدة وتحسين جودة النوم وممارسة اليوغا والتمارين الرياضية والتمارين الخاصة بالصحة الذهنية والعاطفية. وبعد فترة قصيرة اكتسب ستيفانو المزيد من الطاقة، وتخلص من تسارع النبض وصار نسق قلبه أكثر اتساقًا. كما أنّه خرج من حالة الاكتئاب والضجر والتبرّم وصار أكثر هدوءًا واسترخاءً، بالإضافة إلى حالته الصحّية الممتازة. ومثل أي واحد منّا، فإنّه يواجه من حين إلى آخر بعض الموتّرات التي قد تدفعه لتجاوز حدوده، ولكنّه الآن يمتلك ما يكفي من الوعي والمعرفة والمهارة للعودة بنفسه إلى حالة التوازن.
*المصدر: Mayo Clinic - American Institute of Stress