تُظهر الدراسات التي أجريت بخصوص العلاقة بين الوضعيات الجسدية والسلطة، أن تعديل الإنسان لوضعيته الجسدية وتعابير وجهه وصوته عن عمد، يمكن أن يساعده في التعبير عن أفكاره والأمور التي تشغل باله بأريحية أكبر وفي كسب المزيد من النفوذ، فما هو دور التواصل غير اللفظي في مكان العمل؟
يصح هذا الأمر بغض النظر عن اللقب الوظيفي لذلك الإنسان أو المنصب الذي يشغله. ببساطة، إذا عدّلت وضعيتك لتبدو وكأنك أعلى بدرجة أو درجتين من الناس الجالسين أمامك، فإنهم سيتصرفون معك بطريقة مختلفة، وغالباً لا يدرك هؤلاء الناس أنهم يتجاوبون معك بهذه الطريقة، ومع ذلك، فإن هذا الأمر يترك أثره الكامل عليهم مهما تكن طبيعة العلاقة التراتبية التي تجمعك بهم، وسواء أكان منصبك رسمياً أم غير رسمي.
تأثير لغة الجسد في مكان العمل
لا بل أكثر من ذلك، يمكن القول إن الإشارات السلطوية المنبعثة من الناس عن غير قصد لها تأثير مماثل أيضاً. فبعد 15 عاماً تقريباً من دراسة سبب امتناع الناس عن مواجهة المسؤولين والتصدّي لهم، اكتشفنا في حالة تلو الأخرى، أن القادة يرسلون إشارات توحي بمقولة "أنا المدير" دون أن يدركوا ذلك. وهذه الإشارات غير المباشرة تمنع الناس الآخرين من طرح أفكار جديدة عليهم. ورغم أن العديد من القادة يرغبون في التواصل بصدق وصراحة مع موظفيهم، ورغم أن بعض هؤلاء المدراء يبذلون جهوداً مضاعفة لإظهار مدى انفتاحهم وتقبلهم لآراء الآخرين، فإن حضورهم الطاغي كمدراء يتنافى مع نواياهم الطيبة. لكن الأمر ليس ميئوساً منه بالكامل. فإدراكك لإشاراتك السلطوية وإدخال تعديلات بسيطة عليها يمكن أن يجعلا الناس أكثر ارتياحاً في الاقتراب منك والتفاعل معك.
دعوني أعطيكم مثالاً عن هذه الآلية مما يجري في المستشفيات، وخاصة أن الناس يشعرون فيها بشيء من الضعف والهشاشة. استعرنا مكتب أحد الأطباء وأخذنا 3 صور لـ "مريض" و"طبيب" (كلاهما كانا ممثلين محترفين، حيث كان "الطبيب" يرتدي رداء الأطباء الأبيض ويحمل سماعة طبية). في الصورة الأولى، كان الشخصان يجلسان على نفس المستوى، حيث بدا الأمر وكأنه حديث معتاد يجري بين طبيب ومريض، وفي الصورة الثانية، كان كرسي الطبيب أعلى بمقدار 40 سنتيمتراً بحيث كان ينظر إلى المريض من الأعلى. أما في الصورة الثالثة، فقد كان المريض جالساً على طاولة الفحص، وينظر إلى الأسفل نحو الطبيب.
أما كل العناصر الأخرى في الصورة فظلت ثابتة دون تغيير. ثم عرضنا هذه الصور على مجموعة من المرضى بشكل عشوائي، حيث عرضنا صورة واحدة على كل مريض وطلبنا منه تخيل نفسه بأنه هو المريض في السيناريو التالي الذي طرحناه عليه: "بعد أن أجرى الطبيب فحصاً سريعاً لاستقصاء مشكلة في معدتك، يقول لك وكأنه يريد منك الانصراف بسرعة لأن قلقك غير مبرر ويباشر في إنهاء المقابلة. لكنك مقتنع أن هناك مشكلة لا تزال قائمة".
ثم أجاب المشاركون في التجربة عن سؤالين حول مدى رغبتهم في الاعتراض والحديث بصراحة مع الطبيب. عندما كان المريض على مستوى نظر الطبيب (كما في الصورة الأولى) أو أعلى من الطبيب (كما في الصورة الثالثة)، عبّر المشاركون عن حالة من الرهبة البسيطة. ولكن عندما جلس الطبيب على مستوى أعلى من المريض، عبّر المشاركون في تلك الحالة عن درجة عالية من الشعور بالرهبة، وبما يقارب درجة أعلى على سلم مؤلف من 7 درجات.
بطبيعة الحال، لا تقتصر الإشارات السلطوية على طريقة الوقوف أو الجلوس، بل تتجاوزها لتشمل عناصر أخرى أيضاً. فوضعك لذراعيك على جانبي جسمك (عوضاً عن مصالبة يديك أمام صدرك) وخفضك لصوتك وارتداؤك لملابس أقل رسمية وحتى الابتسام تجعل الناس يميلون إلى مشاركتك بأفكارهم. وهذا الأمر يصح على الإشارات السلوكية أيضاً، مثل الجلوس إلى نفس الموائد التي يجلس الناس إليها لتناول طعام الغداء، وعدم المبادرة لتكون أول من يقدّم وجهة نظره خلال الاجتماعات.
وتعتبر البيئة المكانية مهمة أيضاً. فإحدى المديرات اللواتي أجرينا مقابلة معها، وكانت تشغل منصب مديرة إحدى وكالات الخدمات الاجتماعية الحكومية، حصلت في بادئ الأمر على مكتب يضم جدراناً قاتمة جداً وأثاثاً خشبياً كبير الحجم. وقد اكتشفت بأن الغرفة كانت كئيبة وتدبّ الرعب في نفوس الموظفين خلال الاجتماعات. لذلك، لجأت سريعاً إلى تغيير لون دهان الجدران واشترت مائدة مستديرة صغيرة. وسرعان ما لاحظت تزايد أعداد الموظفين القادمين إلى مكتبها للتدقيق بسرعة في بعض القضايا والتفاصيل، ولطرح الأفكار بخصوص التحسينات المحتملة.
في بعض الأحيان، قد يكون خروجك من مكتبك بالكامل هو الطريقة الأنسب لخلق حالة من الثقة مع الناس، وجعلهم يشعرون بقدر أكبر من الاسترخاء بحيث يتشجعون بشكل أكبر لخوض نقاش صريح معك. فرئيس إحدى الشركات الائتمانية يقيم غداءً شهرياً يسميه "الغداء مع الرئيس" في المطاعم المحلية في المنطقة، مستفيداً من هذا النشاط الذي يجري خارج أروقة الشركة بوصفه فرصة للتعارف بشكل أكبر مع بعض الناس والإصغاء إليهم وهم يتحدثون عن تجاربهم في العمل. وفي إحدى شركات التأمين المدرجة في قائمة "فورتشن 500" (Fortune 500)، يزور كبار المدراء مراكز الاتصالات يوم الجمعة مساء (أي في آخر يوم عمل في الأسبوع) لتناول الشاي والبسكويت بشكل غير رسمي مع الموظفين الذين يقعون في مرتبة أدنى منهم بواقع درجتين إلى خمس درجات وظيفية. وهذا الأمر يجري عندما تكون كمية الاتصالات الواردة إلى المركز في حدودها الدنيا. فهذا هو الوقت الأنسب ليعبر المندوبون عن أفكارهم ومخاوفهم المتعلقة بالاتصالات التي وردت خلال الأسبوع المنتهي. كما أن الحديث يجري "في ملعبهم وبين جمهورهم" إذا جاز التعبير، وهذا الأمر يشعرهم بالارتياح ويمكنهم من الحديث بصراحة.
كما تبين هذه الأمثلة جميعها، فإن الإشارات السلطوية الصغيرة تبعث برسائل كبيرة، لذلك يجب التعامل مع هذه الإشارات بطريقة واعية ومتعمدة لتشجيع الناس على التعبير بانفتاح من أجل معرفة ما هو دور التواصل غير اللفظي في مكان العمل وتأثيره على الآخرين. وفي المقابل، فإنك ستحصل على أفكار أفضل من موظفيك، إلى تفاعلهم الأكبر معك وولائهم الأكبر لك.