لدى كل شركة "الثقافة" الخاصة بها، أي القيم والمعايير التي تحدد السلوك المناسب وغير المناسب للمؤسسة. فالثقافة ترشدك في عملك، والثقافة الصحيحة تمكِّن الشركات من استقطاب الموظفين شديدي الحماسة، والإبقاء عليهم، وتوحيدهم حول أهداف أو غايات أو قضايا مشتركة، بغرض تحقيق الأداء المستدام. فما مدى تقبل الثقافة المؤسسية للاختلاف في مؤسستك؟
إن الأمر الذي يبدو في أوله اصطفافاً اختيارياً، يُصبح في نهايته أحياناً شراً مستطيراً. إنّ من اليسير على الثقافات المؤسسية الصحيحة أن تتحول إلى ثقافات مؤسسية لا تقبل التنوع والاختلاف، سواء أراد القادة حصول ذلك أم لم يريدوا. وإنّ كثيراً من الشركات التي نُشيد بذكرها تسلك ذلك الخط الدقيق بين الأمرين، منها على سبيل المثال شركات آبل (Apple)، وتيسلا (Tesla)، وزابوس (Zappos)، وساوث ويست أيرلاينز (Southwest Airlines)، ونوردستروم إنك (Nordstrom)، وهارلي ديفيدسون (Harley Davidson). فتلك الشركات كلها قامت ببناء ما يشبه أتباع الطوائف الدينية بين عملائها، وهي تشجع باستمرار السلوكيات التي لا تقبل التنوع والاختلاف بين القوى العاملة لديها أيضاً.
المؤسسات التي لا تقبل التنوع والاختلاف
إنّ ما يميز المؤسسة التي لا تقبل التنوع والاختلاف هو درجة السيطرة الإدارية التي تمارَس على تفكير الموظفين وسلوكهم. ويبدأ الأمر مع التوظيف، إذ، يتم اختبار "أهلية" الموظفين. وبمجرد انضمامهم، يرى الموظفون الجدد أن إجراءات الالتحاق بالمؤسسة وأنظمة الحوافز تميل إلى تعزيز الحاجة إلى الاصطفاف في صف واحد. وهذا الأمر هو الذي يتحكم في طريقة التواصل بين الموظفين وتقييم بعضهم البعض واتخاذ القرارات، إضافة إلى التحكم في القرارات المتعلقة بالتعيين والترقية وإنهاء الخدمة. وفي مثل هذه البيئة، يسود التفكير الجماعي، وتُخمَد جمرة التميز الفردي.
تذهب بعض الشركات التي تشبه الطوائف الدينية إلى حدِّ أنْ تجعل مقر العمل بديلاً عن العائلة والمجتمع، فتعزل الموظفين (ربما عن غير قصد، وربما عن قصد)، عن تلك الشبكات الاجتماعية المساندة. كما تحثّ الموظفين على أن يجعلوا الوظيفة هي محور حياتهم، مما لا يُبقي إلا النَّذر اليسير من الوقت للفراغ والترفيه والإجازات.
كيف يمكنك أن تعرف متى تصبح الشركة شركةً ذات ثقافة لا تقبل التنوع والاختلاف؟ للغة دلالة عظيمة، فالمؤسسات التي لا تقبل التنوع والاختلاف تبتكر، بطبيعة الحال، مصطلحات فنية خاصة بها من أجل ترسيخ مشاعر الانتماء. ففي شركة "ديزني" (Disney) مثلاً، الموظفون هم "أعضاء فريق التمثيل" و"الزبائن" هم "الضيوف". وعندما تدخل الحديقة، فقد صرت "فوق خشبة المسرح". أما عندما تتعطل إحدى الآلات الترفيهية، فإنك تستخدم الشيفرة "101".
تعتبر الطقوس علامة تحذيرية أخرى وهي ليست مشكلةً على الدَّوام، ولكنْ أحياناً تُعدّ كذلك. منذ عدة سنوات خلت، وعندما كنت أعمل في شركة "آي بي إم" (IBM)، حصلت على كتاب رائع للأغاني صدر بتكليف من توماس واطسون الأب، أول رئيستنفيذي أسطوري للشركة، وكان الكتاب مُهدىً إليه ويحبه جداً. ولا يزال الهتاف الإجباري لمتاجر وول مارت (Walmart) الأميركية العملاقة للبيع بالتجزئة جزءاً من اتفاق العمل. ورغم أنّ هذه الطقوس قد تبدو عتيقة بعض الشيء بالنسبة إلى الأميركيين والأوروبيين، إلا أنها تظل سمةً بارزة للعديد من الشركات الآسيوية. فلا يزال موظفو شركة "ياماها موتور" (Yamaha Motor) يُنشدون أغنية الشركة التي كُتبت عام 1980. وفي شركة "هوريبا" (Horiba)، وهي شركة لصناعة الأدوات الدقيقة للقياس والتحليل، يَسعد الموظفون بغناء أغنية "الفرح والمرح"، بينما يمكِنك سماع المقطوعة الموسيقية "غراميات السكك الحديدية" أثناء فترة الغداء بشركة "جيه آر كيوشو" للسكك الحديدية (JR Kyushu).
عندما شهدتُ، مؤخراً، "الحفلة" الأسبوعية لإحدى شركات التكنولوجيا الأميركية الرائدة، وجدت القاعة مكتظةً بالجمهور الذي بدأ الجلسة بهتاف عرفتُ بعد ذلك أنه كان "الهتاف" الاستهلالي الموحَّد: فقد صرخ الموظفون باسم الشركة ثلاث مرات. بعدها قام الرئيس التنفيذي، الذي دعاني لهذا اللقاء، بتسليم جوائز الخدمة الأسبوعية وتلقَّى كل فائز تصفيقاً حادّاً يصم الآذان. شعرتُ كما لو أنني في إحدى اجتماعات إحياء الدين الإنجيلية. ثم أَعقب منحَ الجوائز حفلُ شواء، وحضر جميع الموظفين، وكلهم يرتدي (مثل الرئيس التنفيذي) ثياباً من اللونين الأسود والرمادي.
كان حماس الحاضرين مؤثّراً بلا ريب، ولكن خلال الأسبوع التالي، لمّا أجريت بعض المقابلات الشخصية مع عدد من الموظفين والمسؤولين التنفيذيين، أخذني العجب. فقد صار جليّاً أنّ الموظفين، بعد حثّهم على الكلام، لا يبدو أنهم يُبالون بالحياة خارج نطاق الشركة. فالكثير منهم كان إما مطلّقاً أو منفصلاً عن زوجته. وزعم أحد التنفيذيين أنه لا يذهب إلى بيته إلا لتبديل ثيابه فقط، وأردف قائلاً إنه ربما من المستحسن أن يظل في العمل مستخدماً المرافق الموجودة بمركز الصحة البدنية والعقلية. ففي مثل هذا السياق، تصطبغ الحفلات المبهجة التي تقيمها الشركات، كتلك الحفلة الأسبوعية، بصبغة الشر المستطير.
ينبغي أن تُرفع رايات الخطر (الحمراء) عندما تكثر الخطب الحماسية، والشعارات، والرطانة الخاصة بفئة معينة، والمدونات الصوتية، ومقاطع اليوتيوب، والأنشطة التحفيزية لبناء فريق العمل، والغناء. إذا أحس الموظفون في أي وقت بإمكانية إقصائهم بسبب طريقة تفكيرهم أو شعورهم، فإن المؤسسة قد دخلت، بهذا، إلى حيز الثقافة التي لا تقبل التنوع والاختلاف. وفي نهاية الأمر ستكون لهذا آثار ضارّة على العمل التجاري. إنّ تصلّب السلوك الذي لا يقبل التنوع والاختلاف وعدم مرونته يُخمدان جمرة الإبداع، ومن ثَمّ يُعرِّض مستقبل الشركة للخطر.
الثقافة القهرية في الشركة
لذا، إذا كنت أحد كبار المسؤولين التنفيذيين فعليك أن تكون دائماً يقِظاً للعلامات التي تُشير إلى أنّ ثقافتك أصبحت، من الناحية النفسية، ثقافةً قهرية. سَل نفسك: هل يؤمن الموظفون برؤية الشركة لأنهم يفهمونها ويتفقون معها، أم لأن هذا ما يُفترض بهم أن يفعلوه؟ هل تحثُّهم الشركة على التمتع بحياتهم الشخصية؟ والأهم من ذلك كله، هل تحض الشركة موظفيها على التميز الفردي والخروج عن الإجماع الذي يبعث على تحقيق الإنجازات؟
إنّ الاختبار الحقيقي للقيادة الجيدة هو قدرتها على إطلاق الإمكانات الكامنة لأتباعها، لإخراج أفضل ما عندهم، وليس لصنع ثقافة مؤسسية تستعبدهم.
ويستوجب هذا الأمر من المدراء على المستويات كلها أن يشجعوا التفكير النقدي، وأن يحترموا الرأي الصائب والتميز الفردي، وأن يبتوا الصدق والأصالة، وأن يستثمروا مواطن القوة والمعرفة الفذّة لدى موظفيهم. ومن المؤكَّد أن الاصطفاف مهم، فالثقافة العظيمة سوف تشمل التعلم من الماضي، وقبول القيم الأساسية، والعثور على الأشخاص الذين يتحدَّون ويُثنون على بعضهم البعض، والانخراط في تواصل مفتوح، والاستمتاع بالوقت، والعمل كفريق واحد. ولكنّ النقاش المفيد المتعلق بتقبل الثقافة المؤسسية للاختلاف له القدر نفسه من الأهمية أيضاً؛ إذ يمكِن للناس مناقشة قيمٍ ومعاييرَ معينة، وتختلف آراؤهم في ذلك. عندما تكفّ الثقافة عن تقبُّل التنوع والاختلاف، تصبح ثقافةً لا تقبل التنوع والاختلاف.
اقرأ أيضاً: