على مدى العقود القليلة الماضية، حققت الجهود الرامية إلى التنوع الإدراكي لفرق العمل والتنويع في جنس القوى العاملة وأعراقهم وأعمارهم تطوراً جلياً. ورغم أن الطريق لا يزال طويلاً، فإننا لمسنا هذا التطور بوضوح من خلال عملنا مستشارين للفرق التنفيذية في الشركات ومدربين لفرق أخرى. وفي هذه الفترة، أعددنا تمريناً تدريبياً على التنفيذ الاستراتيجي مع الإدارات التنفيذية، يتمحور حول إدارة الأوضاع الجديدة وغير المؤكدة والمعقدة. وتتطلب هذه العملية من المجموعة صياغة وتنفيذ استراتيجية لتحقيق نتيجة محددة، على مدار الساعة.
وتشير حكمة معروفة إلى أنه كلما تنوعت فرق العمل من حيث العمر، والعرق، والجنس، ازدادت احتمالية أن تكون أكثر إبداعاً وإنتاجية. لكننا بعد تطبيق التمرين السابق في جميع أنحاء العالم لأكثر من 100 مرة على مدى السنوات الـ 12 الماضية، لم نجد أي علاقة تربط تنوعاً كهذا بجودة الأداء. كما طبقنا هذا التدريب على مجموعات مكونة من 16 شخصاً بالمتوسط، تضم كبار المسؤولين التنفيذيين، وطلاب ماجستير في إدارة الأعمال، والمدراء العامين والعلماء، والمعلمين، والمراهقين، وكانت استنتاجاتنا ذاتها في كل مرة. إذ حققت بعض المجموعات نجاحاً استثنائياً، في حين كانت المجموعات الأخرى سيئة للغاية، بصرف النظر عن التنوع في الجنس والعرق والعمر.
اقرأ أيضاً: التناغم الزائد في الفريق قد يقتل الإبداع
لكن إن لم يكن التنوع وراء تباين الأداء، إذاً ما هو السبب؟ لمعرفة السبب الذي أدى ببعض المجموعات إلى النجاح ووصل ببعضها الآخر إلى الفشل والإحباط، بدأنا بالنظر إلى ما هو أبعد من اختلافات الجنس أو العرق أو العمر، وهو التنوع الإدراكي.
إذ عُرِّف التنوع الإدراكي على أنه اختلافات في المنظور أو في أساليب معالجة المعلومات. ولا تؤدي عوامل مثل الجنس أو العرق أو العمر إلى التنبؤ به. بل إننا هنا مهتمون بجانب معين من التنوع الإدراكي؛ وهو كيف يستطيع الأفراد التفكير والانخراط في مواقف جديدة، غير مؤكدة ومعقدة.
وطوّر بيتر روبرتسون، الطبيب النفسي ومستشار الأعمال، مايعرف باسم مكعب "آيم" (AEM)، الذي يقيّم اختلافات الطرق التي يقوم الناس من خلالها بالتغيّر، وهو أداة لقياس:
• معالجة المعرفة: مدى تفضيل الأفراد لتوحيد ونشر المعرفة الموجودة لديهم، أو توليد معارف جديدة، عند مواجهة المواقف الجديدة.
• المنظور: مدى تفضيل الأفراد لنشر خبراتهم الخاصة، أو تنظيم أفكار الآخرين وخبراتهم، عند مواجهة مواقف جديدة.
وبعد تطبيق تدريب التنفيذ الاستراتيجي أكثر من 100 مرة وملاحظة هذه الاختلافات الكبيرة في أداء الفِرق العاملة، قررنا استخدام مكعب "آيم" لقياس مستوى التنوع الإدراكي في المجموعات التي شاركت في التدريب. ويظهر التحليل الذي أجريناه على 6 فرق شاركوا بالتمرين وجود ارتباط كبير بين التنوع الإدراكي العالي والأداء العالي، كما هو مبين في الجدول أدناه:
لاحظنا أن الفِرق الثلاثة التي أنجزت التحدي في وقت مناسب (فرق A وB وC) كانت متنوعة من حيث عمليات المعرفة ومنظورها على حد سواء، كما يتضح من الانحراف المعياري الأكبر. بينما الفرق الثلاثة الأخرى التي استغرقت وقتاً أطول أو فشلت في إكمالها (فرق D وE وF) فقد كانت جميعها أقل تنوعاً، كما يشير انخفاض الانحراف المعياري.
بديهياً، يعتبر هذا التنوع منطقياً. إذ إن التصدي للتحديات الجديدة يتطلب توازناً بين تطبيق ما نعرف واكتشاف ما لا نعرف فيما إذا كان مفيداً. كما يتطلب التطبيق الشخصي للخبرة المتخصصة والقدرة على التوقف قليلاً والنظر إلى الصورة الأكبر.
اقرأ أيضاً: التحليلات كأداة لتوافق فرق المبيعات والتسويق
يمكن لمستوى عالٍ من التنوع الإدراكي توليد تعلّم وأداء متسارعين في مواجهة الحالات الجديدة غير المؤكدة والمعقدة، كما في حالة مشكلة التنفيذ التي وضعناها لمدرائنا التنفيذيين. واستناداً إلى هذه النتائج المفيدة، فإننا نواصل بحثنا مع عينة أكبر.
التنوع الإدراكي لفرق العمل
ولما كانت الميول الإدراكية مستقلة عن تعليمنا، وثقافتنا، وغيرها من عوامل التكيف الاجتماعي، فهنالك أمران دفعانا نحو إهمال التنوع الإدراكي.
أولا: عدم وضوح التنوع الإدراكي
لا يمكننا الكشف بسهولة عن التنوع الإدراكي من الخارج. ولا يمكن التنبؤ به أو إدارته.
إذ لا يقدم شخص ما من ثقافة مختلفة أو من جیل آخر أي دلیل علی الطريقة التي يعالج فيها المعلومات أو كيف يتعامل مع التغییر أو يستجيب له. وفي الحقيقة، إن هذا الاختلاف الداخلي يتطلب منا عملاً جاداً من أجل تسخيره وحصد فوائده.
عملنا ذات مرة مع شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا الحيوية. وعندما شارك أعضاء فريق البحث والتطوير في تدريب التنفيذ الاستراتيجي الذي نقوم به عادة، كان أدائهم سيئ جداً. حيث كان الفريق، متنوعاً من حيث الجنس والعمر والعرق، لكنه كان متجانساً في الطريقة التي يفضل بها التفاعل مع التغيير والتفكير فيه. وكان هؤلاء -الذين تم اجتذابهم إلى التكنولوجيا الحيوية لاستكشاف تخصصاتهم- من حملة شهادات الدكتوراة، لكن، وبسبب قلة التنوع في معارفهم، لم تكن لديهم البراعة في التعامل مع المهمة ولم يتمكنوا من إتمام التدريب.
كما عملنا مع مجموعة من استشاريي تكنولوجيا المعلومات على نفس التدريب. ولولا أننا ألغينا التدريب، لاضطررنا إلى إلغاء العشاء حينها. فقد توقفت جميع النشاطات، لأن كل شخص حاول العمل على حل المشكلة بمفرده. وعلى العكس من ذلك، فقد شاهدنا أشقاء من نفس الجنس والجيل والمدرسة، ممن يعتبرون من المجموعات المنخفضة التنوّع، لكنهم أظهروا درجة عالية من التنوع الإدراكي وقدرة على حل المهمة بسرعة. مؤخراً، قام فريقان من الرجال الأوروبيين ممن هم في منتصف العمر بتحدي بعضهم وجهاً لوجه. ففشل أحدهما بينما نجح الآخر، والسبب في ذلك يعود إلى امتلاك الفريق الناجح تنوعاً معرفياً أعلى بكثير من الفريق الآخر.
ثانياً: الحواجز الثقافية تقف أمام التنوع الإدراكي
تقيّد الحواجز الثقافية التي نخلقها –حتى وإن كانت من دون قصد- من درجة التنوع الإدراكي تلقائياً، ما يدفعنا لإهمال هذا النوع من التنوع. هنالك قول شائع "إننا نوظف الذين يشبهوننا". هذا التحيّز لا ينتهي عند التمييز الديموغرافي كالعرق أو الجنس، أو مع عملية التوظيف لهذه المسألة فحسب. بل ينجذب الزملاء نحو أولئك الذين يفكرون ويعبّرون عن أنفسهم بطريقة ممثالة لطريقتهم. ونتيجة لذلك، غالباً ما ينتهي الأمر باحتواء المؤسسات على فرق متشابهة التفكير. وعندما يحدث هذا، كما هو الحال في فريق البحث والتطوير في شركة التكنولوجيا الحيوية، ينتج لدينا ما يدعوه علماء النفس بالتحيز الوظيفي وبالتنوع الإدراكي المنخفض.
اقرأ أيضاً: التعاون بشكل جيد في الفرق العالمية الكبيرة
ويشكل التحيّز الوظيفي مشكلة لفرق العمل التي تواجه حالات جديدة غير مؤكدة ومعقدة لأنه -مع انخفاض التنوع الإدراكي- سيجعل للفريق قدرة محدودة على رؤية الأشياء بشكل مختلف، والانخراط بطرق مختلفة (على سبيل المثال، التجربة مقابل التحليل)، أو خلق خيارات جديدة. وبالمثل، عندما تبدأ المؤسسات برامج التغيير، فإنها غالباً ما تحدد دعاة أو قادة التغيير وتسعى وراءهم لدعم أنشطتها. إذ لدى هؤلاء الذين يتم اختيارهم طرقاً مماثلة للتغيير في كثير من الأحيان. ولهذا النقص في التنوع الإدراكي تأثيران. أولاً، يقلل من فرصة تعزيز الاقتراحات بمدخلات من أشخاص يفكّرون بشكل مختلف. وثانياً، فشل في تمثيل التنوع الإدراكي لجميع الموظفين، مما يقلل أثر المبادرات.
للتغلب على هذه التحديات، تأكد من أن عمليات التوظيف الخاصة بشركتك تحدد الفرق وتحرص على التنوع الإدراكي في أثناء التوظيف. وعندما تواجه وضعاً جديداً معقداً وغير مؤكد، حيث يوافقك الجميع على ما يجب القيام به، عندها حاول العثور على شخص يختلف مع البقية وقدّره.
إذا كنت تبحث عن التنوع الإدراكي، فهو موجود في كل مكان، ولكن الناس ترغب في الاندماج ضمن مجموعات، لذلك فهم حذرون من أن يكونوا مختلفين. عندما يكون لدينا ثقافة متجانسة قوية، كالثقافة الهندسية أو الثقافة التشغيلية أو الثقافة العلائقية، فإننا نحصر التنوع الإدراكي الطبيعي في مجموعات من خلال محاولة الضغط على الجميع ليكونوا متطابقين. وربما لا نكون على علم بأن ذلك يحدث حتى. يظهر الرسم البياني من جهة اليسار أدناه، وفقاً لمكعب "إيم" والتقدير الإدراكي الذاتي، تقييم مجموعة من 32 مديراً من منظمة تنفذ استراتيجية جديدة. ويبين الرسم البياني من جهة اليمين كيف كان يُنظر إلى نفس المدراء من خلال تقاريرهم المباشرة. بطريقة أقل تنوع بكثير.
فإذا كان التنوع الإدراكي لفرق العمل هو ما نحتاج إليه للنجاح في التعامل مع حالات جديدة غير مؤكدة ومعقدة، فإننا بحاجة أيضاً إلى تشجيع الناس على الكشف عن أنماطهم المختلفة من التفكير ونشرها. إننا بحاجة لجعل محاولة فعل الأشياء بطرق متعددة أمراً آمناً. وهذا يعني أنه على القادة أن يكونوا أفضل بكثير في بناء شعور الأمان النفسي لدى فرقهم. وتكثر الأحاديث عن القيادة الجديرة بالثقة (الحقيقية)، أي أن تكون نفسك. ولعل الأهم من ذلك، أن يركز القادة على تمكين الآخرين من أن يكونوا أنفسهم.
اقرأ أيضاً: أفضل فرق القيادة العليا تزدهر بالاختلاف