تدرك الشركات أن معدل دوران الموظفين مكلف ومزعزع للاستقرار. وتعي جيداً أن الإبقاء على أفضل وأنبغ الموظفين يساعدها في توفير المال فضلاً عن الحفاظ على المزايا التنافسية وحماية رأس المال الفكري، ولهذا يتم التأكيد على ضرورة التنبؤ باستقالة الموظف.
ومع ذلك، فإن معظم جهود استبقاء الموظفين تعتمد على أداتين بأثر رجعي. أولاً، تُجرى مقابلة للموظف عند الاستقالة من العمل لمعرفة سبب اختياره ترك العمل بشكل مفصل، على الرغم من أنه في هذه المرحلة، عادة ما يكون الوقت متأخراً جداً لاستبقاء الموظفين. ثانياً، تستخدم استطلاعات الرأي السنوية لتقييم ارتباط الموظفين بالمؤسسة. على أن تُقارَن نتائج استطلاعات الرأي هذه لاحقاً بحالات الأشخاص الذين غادروا المؤسسة بالفعل، على أمل أن تسفر هذه النتائج عن أي تنبؤات ذات صلة بالاستقالة. فالمشكلة تكمن في أن هذه البيانات لا تمنح المدراء صورة في الوقت اللازم، عمن يُحتمل أنه سيستقيل من العمل.
تطوير مؤشرات دوران الموظفين
وكانت أحدث الدراسات التي أجريناها قد ركزت على استخدام خوارزميات البيانات الكبيرة والتعلم الآلي في تطوير مؤشر دوران الموظفين، وهو مؤشر الوقت الفعلي لمن يُحتمل تفكيره في الاستقالة. فعملنا على تطوير هذه النماذج التنبؤية في البحث الأكاديمي على معدل دوران الموظفين، ومن ثم أجرينا سلسلة من الدراسات. أظهرت نتائج هذه الدراسات أنه من الممكن تطوير مؤشرات تتنبأ في الوقت اللازم باحتمالية أن يفكر الشخص في عرض خارجي إلى أن يترك الشركة في نهاية المطاف.
تشير البحوث السابقة إلى سببين رئيسَين وراء ترك الأشخاص وظائفهم، وهما: صدمات دوران الموظفين، وانخفاض الاندماج الوظيفي. فالصدمات التي تحدث في حالة دوران الموظفين هي أحداث تدفع الأشخاص على إعادة النظر فيما إذا كان يجب عليهم البقاء في المؤسسة أم لا. كانت بعض الصدمات إجراءات تنظيمية (على سبيل المثال، التغيير في القيادة، وإعلان عمليات الاندماج والاستحواذ)، وبعضها كانت شخصية (مثل تلقي عرض عمل خارجي، أو ولادة طفل). يحدث الاندماج الوظيفي عندما يرتبط الناس بالمؤسسة بشكل عميق. ذلك أنه عندما يكون للناس عدد قليل من الروابط الاجتماعية الجيدة في العمل أو في المجتمع، أو عندما لا يشعرون بأن عملهم يتناسب بشكل جيد مع اهتماماتهم ومهاراتهم وقيمهم، يصبح اندماجهم في العمل منخفضاً ويكونون أكثر عرضة لخطر الاستقالة.
عملنا مع إحدى شركات استكشاف المواهب لجمع عينة كبيرة من البيانات التنظيمية المتاحة للجمهور حول صدمات دوران محتملة، مثل التغييرات في تصنيف "غلاسدور" (Glassdoor)، أو تقييمات المحللين، وتغيُّر أسعار الأسهم، والمقالات الإخبارية، والإجراءات التنظيمية أو القانونية ضد الشركة. كما جمعنا عوامل شخصية مرتبطة بعملية الاندماج التي كانت في المجال العام، مثل عدد الوظائف السابقة، والذكرى السنوية للتوظيف والحصول على المنصب، والمهارات، والتعليم، ونوع الجنس، والموقع الجغرافي. وجمعنا أيضاً مؤشرات دوران الموظفين المحتملة لأكثر من 500 ألف فرد يعملون في الولايات المتحدة في مختلف المؤسسات والقطاعات الصناعية.
استناداً إلى تقييمنا لعوامل دوران الموظفين تلك، استخدمنا التعلم الآلي لتصنيف كل فرد على أنه: غير محتمل لتقبل فرص العمل الجديدة، أو أقل احتمالاً، أو أكثر احتمالاً، أو الأكثر ترجيحاً لتقبل هذه الفرص. حصل كل فرد في العينة على نتيجة مؤشر دوران الموظفين (TPI)، ثم أجرينا دراستين لنرى إلى أي مدى توقعت هذه النتيجة انفتاحهم على الفرص الخارجية واحتمالية الاستقالة.
أولاً، أردنا أن نرى مدى توقع مؤشر دوران الموظفين للانفتاح على رسائل التوظيف. فأرسلنا دعوات بالبريد الإلكتروني إلى عينة أقل من 2,000 موظف، وتحديدهم بواسطة الخوارزمية الخاصة على أساس نوع الاستجابة لدعوة عرض الوظائف المتاحة المصممة وفقاً لمهاراتهم واهتماماتهم المحددة، على أساس أن الموظف: غير محتمل لهذه الدعوات، أو أقل احتمالاً، أو أكثر احتمالاً أو محتمل بشدة لها. من بين هؤلاء، تلقى 1,473 موظفاً رسالة البريد الإلكتروني تلك؛ واطلع 161 منهم على الدعوة، واستجاب 40 منهم للدعوة بالدخول على الرابط. وكان أولئك الذين صُنّفوا على أنهم "الأكثر ترجيحاً" لكونهم متقبلين للعرض قد فتحوا دعوة البرد الإلكتروني بأكثر من ضعفي معدل الأشخاص الذين صنفوا على أنهم الأقل احتمالاً (5.0% مقابل 2.4%). بالإضافة إلى ذلك، من بين الذين فتحوا البريد الإلكتروني، فإن أولئك الذين صنّفوا على أنهم "الأكثر ترجيحاً" لكونهم أكثر احتمالاً لقبول عرض الوظائف، كانوا أكثر احتمالاً للدخول على رابط الدعوة. يُشير هذا إلى أن نتيجة معدل دوران الموظفين يمكن أن تحدد الموظفين الأكثر عرضة للاستقالة. وتشير هذه النتيجة أيضاً إلى أن الشركات يمكن أن تستهدف بشكل استراتيجي المواهب العليا التي قد تكون أكثر انفتاحاً على عرض خارجي - تذكر أن هذا كله جاء من البيانات المتاحة للجمهور.
ثانياً، لإلقاء نظرة على قدرة نتيجة مؤشر دوران الموظفين على التنبؤ بحجم دوران الموظفين الفعلي، استخدمنا بقية العينة المكونة من 500 ألف فرد. خلال فترة زمنية مدتها ثلاثة أشهر، كان الأشخاص الذين صُنِّفوا على أنهم "الأكثر ترجيحاً" لتقبلهم فرص عمل جديدة، كانوا أكثر احتمالاً بنسبة 63% لتغيير وظائفهم، مقارنة بأولئك الذين صُنّفوا على أنهم "من غير المحتمل" أن يكونوا متقبلين لتغيير وظائفهم. أمّا أولئك الذين صُنِّفوا على أنهم "أكثر احتمالاً" لتقبلهم فرص عمل جديدة فكانوا أكثر احتمالاً بنسبة 40% لتقديم الاستقالة.
يوضح عملنا في هذا المجال أنه باستخدام البيانات الضخمة، يمكن للشركات تتبع ميل مؤشرات دوران الموظفين وتحديد الموظفين الذين من المتوقع استقالتهم بنسبة مرتفعة. ربما يسمح هذا التوقع الاستباقي للقادة بالتدخل أملاً في زيادة احتمالات استبقاء المواهب الفذّة. علاوة على ذلك، تتمتع المؤسسات بأفضلية كبيرة عن الباحثين الخارجيين في تطوير مؤشر دوران الموظفين الخاص بها باستخدام البيانات الداخلية. ذلك أنه يمكن للمؤسسات أن تتوقع الصدمات الإدارية مثل الدعاوى القضائية أو الإجراءات التنظيمية. بالإضافة إلى البيانات المتاحة للجمهور، يمكن للشركات الوصول إلى بيانات صدمة دوران أخرى، مثل احتفالات الذكرى السنوية للعمل، والشهادات التعليمية الجديدة، وإعلانات أعياد الميلاد أو الزفاف، وذلك على الرغم من ضرورة الحرص على عدم انتهاك خصوصية الموظف باستغلال هذه البيانات. ويمكن للشركات تتبع العوامل التي تشير إلى الاندماج الوظيفي، مثل المشاركة في فرص التطوير الوظيفي، أو مبادرات التحسين الإداري، أو برامج التعرف على الأقران.
ستحتاج الشركات، التي تلتزم باتخاذ القرارات المستندة إلى البيانات، إلى الاستثمار في جمع المؤشرات المناسبة لمخاطر دوران الموظفين بعناية وتحليلها. ثم يمكن لقادتها إشراك الموظفين المهمين بشكل استباقي في الخطر الناجم عن الاستقالة من خلال إجراء مقابلات شخصية معهم، لفهم أفضل الوسائل التي يمكن للشركة من خلالها أن تزيد احتمالات بقائهم فيها مثل التنبؤ باستقالة الموظف.
اقرأ أيضا: