التنبؤ الفائق: كيف تحسّن قدرة شركتك على التنبؤ

15 دقيقة
تخيّلوا أن بإمكانكم إحداث تحسين ملحوظ في قدرة شركتكم على التنبؤ، ولكن كي تفعلوا ذلك عليكم أن تكشفوا عن عدم موثوقية توقعاتها وعدم موثوقية واضعي هذه التوقعات. هذا بالضبط ما فعلته أجهزة الاستخبارات الأميركية، وحقّقت بفضله نتائج مثيرة.

في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2002، أصدر مجلس الاستخبارات الوطنية في الولايات المتّحدة الأميركية رأيه الرسمي الذي قال فيه إنّ العراق يمتلك أسلحة كيماوية وبيولوجية وينشط في إنتاج أسلحة الدمار الشامل. وقد ثَبُتَ فيما بعد بأنّ هذا الحكم كان خطأ فادحاً. وقد شعرت هذه المؤسسة البيروقراطية التي تبلغ موازنتها 50 مليار دولار بالصدمة جرّاء فشلها الاستخباري في هذه القضية، فقرّرت البحث في كيفية تحسين أدائها مستقبلاً، مدركة بأنّ هذه العملية قد تكشف عن عيوب مؤسسية فاضحة.

وقد تضمن برنامجها البحثي مسابقة للتنبؤ على نطاق واسع ولسنوات عدة. وقد حملت المسابقة التي شارك في قيادتها أحد مؤلفي هذا المقال وهو (فيليب تيتلوك) اسم "مشروع البصيرة النافذة" (The Good Judgment Project). وقد أسفرت سلسلة المسابقات هذه، والتي وضعت آلاف الهواة في مواجهة محللين محنّكين في مجال الاستخبارات، عن ثلاث نتائج مفاجئة: أولاً، إن أصحاب الخبرة العامة الموهوبون يتفوقون في التكهن غالباً على المتخصصين. ثانياً، يمكن للبرامج التدريبية المصاغة بدقّة وعناية أن تسهم في تعزيز القدرة على التوقع. ثالثاً، يمكن للفرق ذات الإدارة الجيدة أن تتفوّق في الأداء على الأفراد. ولهذه الاستنتاجات انعكاسات هامّة على الطريقة التي تتوقع بها المؤسسات والشركات النتائج غير المؤكدة، مثل كيفية تجاوب منافس معيّن مع إطلاق منتج ما، أو حجم الإيرادات التي ستولّدها حملة ترويجية معيّنة، أو ما إذا كان الموظفون المستقبليون سيجيدون العمل أم لا.

إن المقاربة التي سوف نصفها في هذه المقالة، والمتعلّقة بكيفية بناء قدرات المؤسسة في مجال وضع التوقعات وتحسين هذه القدرة باستمرار، ليست كتاب طبخ يقدّم وصفات مجرّبة للنجاح. فالعديد من المبادئ المطروحة هنا تُعتبرُ جديدة نسبياً، ولم تُطبَّق في عالم الأعمال إلا منذ فترة قريبة. بيد أنّ أبحاثنا تُظهِر بأنّها يمكن أن تساعد القادة في اكتشاف أفضل القدرات التنبؤية الموجودة في مؤسساتهم، وتعزيز هذه القدرات حيثما وُجدت.

ابحث عن النقطة المثلى

لقد أثبتت الدراسات فشل الشركات والأفراد في الحكم على احتمال وقوع أحداث غير مؤكّدة؛ والخطأ في إطلاق الأحكام يمكن أن يكون له بالطبع نتائج وخيمة. فقد تنبأ ستيف بالمر عام 2007 بأنّه "ليس هناك أي فرصة لحصول هاتف آيفون على حصّة سوقية كبيرة"، الأمر الذي لم يترك لمايكروسوفت أي مجال لدراسة السيناريوهات البديلة. غير أنّ تحسين قدرة الشركة على التنبؤ، مهما  كان هذا التحسين طفيفاً، يمكن أن يمنحها ميزة تنافسية. فالشركة التي تصحّ تنبؤاتها ثلاث مرات من أصل خمس سوف تحظى بميزة تنافسية متزايدة باستمرار تجعلها تبزّ أي شركة منافسة تصحّ تنبؤاتها مرتين فقط من أصل خمس.

قبل أن نناقش كيف يمكن لمؤسسة ما أن تبني قدرتها التنبؤية التي تحقق لها ميزة التفوق، لنلقِ نظرة على القدرات التنبؤية الأكثر قابلية  للتحسين، وتلك التي لا تستحق التركيز عليها؛ ويمكننا تجاهل التوقعات التي تُعتبرُ إمّا مباشرة وواضحة تماماً أو شبه مستحيلة. لنأخذ مثلاً القضايا التي يمكن توقعها بشكل كبير: فأنت تعلم أين سيكون عقربا ساعتك بعد خمس ساعات من الآن؛ كما يمكن لشركات التأمين على الحياة أن تحدّد أقساطها بشكل موثوق على أساس الجداول المحدّثة لمعدلات الوفيات. أمّا بالنسبة للقضايا التي يمكن التنبؤ بها بدقّة عالية باستخدام أدوات الاقتصاد القياسي وبحوث العمليات (operations-research)، فليس هناك من ميزة يمكن اكتسابها من خلال تطوير مهارات التوّقع الذاتي في هذه المجالات، فالبيانات تتحدث بصوت عالٍ وواضح.

أمّا في الجانب الآخر من الطيف، فنجد القضايا المعقّدة، وغير المفهومة، والتي يصعب تحديدها كمياً، مثل أنماط السحب في السماء في يوم محدد، أو متى ستخرج من أحد أقبية وادي السيليكون تكنولوجيا جديدة تحدث تغييراً كبيراً. وهنا أيضاً ليس ثمة فائدة تذكر في استثمار الموارد لإضفاء تحسين منهجي على بناء الأحكام، فالمشاكل أصعب من أن يتم التغلب عليها.

إنّ النقطة المثلى التي يجب على الشركات أن تركّز عليها هي التنبؤات التي يمكن استخدام  البيانات والمنطق والتحليل في بنائها، والتي يلعب الحُكم المتمرّس والاستجواب الدقيق دورين رئيسيين في ذلك البناء أيضاً. يحتاج التنبؤ باحتمال نجاح دواء معيّن تجارياً، أثناء فترة الاختبارات السريرية، إلى خبرة علمية إضافة إلى الخبرة التجارية. كما يعتمد الأشخاص الذين يقيّمون صفقات الاستحواذ المحتملة على نماذج رسمية تقوم على منح نقاط لمختلف العناصر، لكن ينبغي عليهم في الوقت ذاته قياس العناصر غير الملموسة مثل التناغم الثقافي بين المؤسستين المندمجتين، ودرجة الانسجام بين قادتيهما، ومدى احتمال التحقق الفعلي لتآزر الجهود المتوقع بينهما.

دعونا نعرض تجربة بنك في المملكة المتّحدة كان قد خسر مبالغ كبيرة من المال في مطلع تسعينيات القرن الماضي نتيجة إقراضه شركات الكيبل التلفزيوني الأمريكية التي كانت آنذاك في أوج الطلب عليها قبل أن يأفل نجمها. وقد أجرت المديرة المسؤولة عن الإقراض في البنك تدقيقاً في هذه الأخطاء المفترضة التي ارتكبت خلال عملية الإقراض، وحلّلت أنواع القروض المقدّمة، وخصائص العملاء وموظفي القروض المعنيين، وأنظمة الحوافز المطبّقة، وغير ذلك من العوامل. وقد أعطت علامات لكل عامل متعلق بالقروض المتعثّرة، ثمّ أجرت تحليلاً لترى أيّاً منها كان أقدر على تفسير التفاوت في المبالغ التي خسرها البنك. ففي حالات الخسارات الهائلة، اكتشفت وجود مشاكل في عملية دراسة طلبات القروض نجم عنها إقراض زبائن ذوي وضع مالي سيء أو ليس لهم مع البنك علاقة سابقة. وقد تمكّن البنك من إدخال تحسينات مستهدفة أسهمت في تعزيز أدائه والتقليل من خسائره إلى الحدّ الأدنى.

وبناءً على أبحاثنا وخبرتنا في مجال الاستشارات، فقد حدّدنا مجموعة من الممارسات التي يمكن للقادة تطبيقها لتحسين قدرة شركاتهم على التنبؤ في أنواع القضايا القابلة للتنبؤ. تركّز توصياتنا على كيفية تحسين قدرة الأفراد على التوقع، واستخدام فريق لتعزيز الدقة، وتتبّع الأداء في مجال وضع التوقعات، وتقديم الرأي بشكل سريع. ويجدر ذكر أن المقاربات العامة التي نَصِفُها هنا يجب أن تُعدّل بالطبع حسب وضع كل مؤسسة، وأن تتطوّر وترتقي بعد أن تكون الشركة قد تعلّمت ما الذي ينجح فيها وضمن أيّ ظروف.

التدريب على بناء البصيرة النافذة

إن معظم عمليات التنبؤ في الشركات، سواء تعلّقت بموازنات المشاريع، أو المبيعات المتوقعة، أو أداء الأشخاص الذين يحتمل توظيفهم في الشركة، أو عمليات الاستحواذ، ليست نتيجة حسابات عقلية مجرّدة، بل إنها تتأثر بفهم المتنبّئ للمبادئ الإحصائية الأساسية، وقابليته للانحياز المعرفي، ورغبته في التأثير في أفكار الآخرين، ومخاوفه في ما يتعلق بسمعته. والواقع أن التنبؤات غالباً ما تكون غامضة عن عمد بغية ترك أكبر هامش للمناورة إذا ما تبيّن خطؤها. لكنّ الخبر السارّ يكمن في أنّ التدريب على التفكير المنطقي، والتخلّص من الانحياز الشخصي، قد أثبت مصداقيته وقدرته على تعزيز كفاءة الشركة في التوقع. وقد أظهر "مشروع البصيرة النافذة" (The Good Judgment Project) أن ما لا يزيد عن ساعة واحدة من التدريب يمكن أن يسهم في تحسين القدرة على التوقع بنسبة 14% تقريباً على مدى عام. (راجع الفقرة التي تحمل عنوان "كيف يمكن للتدريب والفِرق أن تحسّن عملية التوقّع").

تعلُّم الأساسيات

إنّ الأخطاء الأساسية في المحاكمة المنطقية (مثل الاعتقاد بأنّ القطعة النقدية المعدنيّة التي استقرّت على أحد وجوهها ثلاث مرّات متتالية يرجّح أن تستقر على الوجه الآخر عندما تقذف للمرّة الرابعة) تترك نتائج سلبية على دقّة التنبؤات. لذلك من الضروري جدّاً أن ترسي الشركات الأساس للمبادئ الأساسية للتوقع: فقد أسهمت تدريبات "مشروع البصيرة النافذة" التي شملت بعض مفاهيم علم الاحتمالات مثل "الانحدار إلى المتوسط الحسابي" (Regression to the Mean) و"التعديل البايزي" (Bayesian revision) (أي تطوير تقييم أحد الاحتمالات في ضوء ورود بيانات جديدة) مثلاً، في تعزيز الدقة لدى المشاركين بشكل كبير. كما يجب على الشركات أن تشترط على واضعي التوقعات أن يضمّنوها تعريفاً دقيقاً للشيء الذي يجب توقّعه (مثل احتمال أن تتمكّن موظفة مستقبلية في الشركة من تحقيق أهداف المبيعات المحدّدة لها) والإطار الزمني المحدد (سنة واحدة، على سبيل المثال). ويجب التعبير عن التنبؤ أو التوقّع بحدّ ذاته على شكل احتمال رقمي بحيث يمكن إعطاؤه لاحقاً علامة تقويمية على درجة دقته. وهذا يعني أن يجزم المتنبّئ بأنه "واثق بنسبة 80%" وليس "واثقاً إلى حد ما" بأنّ الموظفة سوف تحقّق الأهداف المحدّدة.

فهم الانحياز المعرفي (Cognitive Bias)

من المعروف أنّ الانحيازات المعرفية تؤدّي إلى انحراف في الحكم على الأشياء، وبعضها يؤثر بصورة مؤذية خصوصاً على التنبؤ. فهذه الانحيازات تقود الناس إلى السير وراء الحشد، وإلى البحث عن معلومات تؤكّد وجهات نظرهم، والسعي الحثيث لإثبات أنّهم على حق. وليس من السهل تخليص الإنسان من انحيازه المعرفي عند الحكم على الأمور، لكن "مشروع البصيرة النافذة" حقّق بعض النجاحات في زيادة إدراك المشاركين للانحياز المعرفي الذي يهدّد صحّة التوقع. فعلى سبيل المثال، قام المشرفون على المشروع بتدريب المبتدئين على الانتباه إلى "الانحياز التأكيدي" (ويسمى أيضاً "الانحياز الذاتي") الذي يمكن أن يخلق حالة من الثقة الزائفة، وعلى إيلاء الاهتمام المستحق للبراهين التي تشكّك في ما توصلوا إليه من نتائج. وقد ذكّر المشرفون المتدرّبين بضرورة عدم النظر إلى المشاكل منفردة واتّباع ما أسماه الحائز على جائزة نوبل دانيال كانيمان "الرؤية من الخارج"، والتي تتجاوز ما يعتري "الرؤية من الداخل" من تحيزات. فعلى سبيل المثال، نُصح المتدربون الذين طُلب منهم توقّع المدّة الزمنية التي سيستغرقها إنجاز مشروع معيّن بأن يسألوا أولاً عن المدة التي يستغرقها إنجاز مشاريع مشابهة لكي يتجنّبوا خطأ تقليل الزمن اللازم.

كما يمكن للتدريب أن يساعد الناس على فهم العوامل النفسية التي تقود إلى تقدير الاحتمالات بصورة منحازة، مثل الميل إلى الاعتماد على الحدس الخاطئ عوضاً عن التحليل المتأنّي. إذ إن الحدس الإحصائي قابل للوقوع في فخ الأوهام والخرافة بسهولة كبيرة. فمحللو البورصات وأسواق الأسهم قد يرون في البيانات أنماطاً ليس لها أي أساس إحصائي، كما أنّ عشاق الرياضة غالباً ما يعتبرون مجموعة الرميات الحرّة السريعة والمتتالية في مباراة لكرة السلة دليلاً على قدرة استثنائية جديدة، بينما هم في الحقيقة يشهدون وهماً ناجماً عن تغيرات سريعة التقلّب في عيّنة صغيرة الحجم.

وثمّة تقنية أخرى لجعل الناس يدركون التحيّزات النفسية التي تتسبّب بحصول انحراف في التقدير وهي إخضاعهم "لاختبارات الثقة" التي يُطلب فيها من المشاركين تحديد نطاق من التقديرات الخاصة بأسئلة تتعلّق باهتمامات عامّة (مثل: "كم كان عمر مارتن لوثر كينغ عندما توفّي؟") أو أسئلة تخصّ الشركة بالتحديد (مثل: "ما حجم الضرائب التي دفعتها شركتنا العام الماضي؟"). تتمثّل مهمّة المتنبئ بتقديم أفضل تقدير ممكن ضمن نطاق معين، وتحديد درجة ثقته بهذا التقدير؛ فعلى سبيل المثال، قد يخمّن أحدهم وبثقة تصل إلى 90% بأن ّ الدكتور كينغ كان بين 40 و55 عاماً عندما اغتيل (كان في الواقع 39). وليس الهدف هنا هو قياس مدى معرفة الشخص في مجال معيّن، وإنّما كم يحسن معرفة ما لا يعرفه. فكما قال ويل روجرز يوماً متهكماً: "ليس ما لا نعرفه هو ما يوقعنا في المشاكل وإنّما ما نعتقد أننا نعرفه رغم أننا لا نعرفه فعلاً". وغالباً ما يكتشف المشاركون بأنّ النصف أو أكثر من النطاقات التي تبلغ ثقتهم بتقديراتهم ضمنها 90%، لا تحتوي الإجابة الصحيحة.

ومرّة أخرى نقول بأنّه ليس هناك علاج واحد لجميع الحالات يساعد في تحاشي هذه الأخطاء المنهجية، بل يجب على الشركات أن تصمّم برامجها التدريبية بحسب ظروفها. فعلى سبيل المثال، تمتلك مجموعة ساسكويهانا إنترناشيونال غروب (Susquehanna International Group)، وهي عبارة عن شركة تداولات عالمية خاصّة وغير مدرجة في البورصة، مقاربتها الخاصة التي صاغتها بنفسها. وكانت الشركة التي تجري عمليات تداول بأكثر من مليار دولار سنوياً قد تأسست على أيدي مجموعة من لاعبي الورق عام 1987. تشترط الشركة على الموظفين الجدد أن يقوموا بلعب الورق خلال ساعات الدوام الرسمي؛ وأثناء اللعب يتعرّف المتدرّبون على الفخاخ الذهنية، والتأثيرات العاطفية، مثل التفكير بالتمني (Wishful Thinking)، ونظرية اللعبة السلوكية (Behavioral Game Theory)، وكذلك نظرية الخيارات (Options Theory)، والمراجحة (Arbitrage)، وأنظمة أسواق العملات الأجنبية والتداول. كما تشجع تمارين ألعاب الورق المتدرّبين على تقدير قيمة التفكير وفق مبدأ الاحتمالات، والتركيز على عدم تماثل المعلومات (ما هي الأشياء التي يعلمها الخصم وقد لا أعلمها أنا)، وتعلّمهم متى يفتحون أوراقهم الخاسرة، وكيف يعتبرون بأن النجاح ليس فوزاً في كل جولة بل تحقيقاً لأفضل نتيجة ممكنة من الأوراق التي تُعطى لللاعب.

يتعيّن على الشركات أن تطبّق برامج تدريبية مصمّمة بحسب ظروفها الخاصّة على أن تركّز على نطاقات أضيق في مجال التنبؤ والتوقّع، مثل المبيعات والأبحاث والتطوير، أو على المجالات التي شهدت في الماضي أداءً ضعيفاً. وإذا كان فريق المبيعات لديكم عرضة للغطرسة، فيمكن معالجة هذا التحيز بأسلوب منهجي. ويُعتبرُ تطوير هذا النوع من البرامج وإدارته أصعب بالمقارنة مع البرامج العامّة، ولكن لما كانت برامج تستهدف شريحة معيّنة، فهي تعطي غالباً نتائج أفضل.

بناء النمط الصحيح من الفِرق

تُعتبرُ عملية تجميع المعنيين بوضع التوقعات ضمن فرق طريقة فعّالة لتحسين هذه التوقعات. ففي "مشروع البصيرة النافذة" جرى اختيار مئات المتنبئين بطريقة عشوائية وطُلِب منهم العمل بمفردهم، في حين جرى اختيار مئات آخرين ليتعاونوا معاً ضمن فرق. في كلّ سنة من السنوات الأربع التي أقيمت فيها المسابقات ضمن إطار "نشاط مشاريع الأبحاث الاستخبارية المتطوّرة" كان أداء المتنبئين الذين عملوا ضمن مجموعات أفضل من أداء نظرائهم ممن عملوا بمفردهم. وبطبيعة الحال فإنّ تحقيق نتائج جيدة يتطلب وجودة إدارة ماهرة للفرق، كما يستدعي وجود صفات متميّزة لدى هذه الفرق.

التركيبة

إنّ المتنبئين أصحاب الأداء الأفضل في مسابقات "مشروع البصيرة النافذة" يتحدثون عادة بمنتهى الصراحة عن مصدر نجاحهم، وهم ممتنون لأنّهم ربما يكونون قد أصابوا في أحد التنبؤات على الرغم من تحليلاتهم (وليس نتيجة لها). فهم يتّسمون بالحذر، والتواضع، والانفتاح، وامتلاك المهارات التحليلية ناهيك عن أنّهم يجيدون التعامل مع الأرقام. (راجع الفقرة التي تحمل عنوان: "من هم المتنبؤن الفائقون؟"). وعند تكوين هذه الفرق الجماعية، يتعيّن على الشركات أن تبحث عن الأشخاص الذين يجيدون التوقع بفطرتهم، والذين يظهرون الحذر من الانحياز ويتمتعون بموهبة التفكير السليم، ويحترمون البيانات. ومن الأهمية بمكان أيضاً أن يكون هناك تنوّع فكري ضمن الفرق المعنيّة بالتوقّع؛ فواحد من الأعضاء على الأقل يجب أن يمتلك خبرة واسعة في المجال المقصود (مثل وجود شخص متخصص في الأمور المالية ضمن الفريق المكلف بوضع الموازنة)، لكنّ وجود الأشخاص غير الخبراء يُعتبرُ أمراً أساسياً أيضاً، وبالتحديد الأشخاص الذين لا يتورّعون عن مجابهة الخبراء المفترضين. ولا ينبغي أبداً التقليل من شأن هؤلاء الأشخاص الذين يمتلكون معارف عامة؛ فضمن مسابقات "مشروع البصيرة النافذة" تفوق متنبئون مدنيون غير خبراء في غالب الأحيان على محللين خبراء ومدربين  في جهاز الاستخبارات واستطاعوا التغلب عليهم في اللعبة التي من المفترض أنهم يتقنونها.

التباين والتقييم والتقارب

سواء كان الفريق يضع توقعاً يتعلق بحدث وحيد (مثل احتمال دخول الولايات المتّحدة الأمريكية في حالة ركود بعد عامين من الآن)، أو يضع توقعات متكررة (مثل خطر حصول ركود في كل عام ضمن مجموعة من الدول)، فإن الفريق الناجح بحاجة إلى إدارة ثلاث مراحل بطريقة جيدة: مرحلة التباين حيث يجري فيها استكشاف القضية والافتراضات والمقاربات المستخدمة من زوايا متعددة للعثورعلى الإجابة؛ ومرحلة التقييم التي تمنح بعض الوقت للاختلاف في الرأي بطريقة بنّاءة؛ ومرحلة التلاقي عندما يتّفق الفريق على توقّع معيّن. وفي كلّ مرحلة من هذه المراحل، يكون التعلّم والتقدّم في أوجهما عندما تكون الأسئلة مركّزة وتتوفر تغذية راجعة دائمة.

إن مرحلتي التباين والتقييم أساسيتان جداً؛ فإذا تم المرور عليهما بشكل سطحي ومتعجل أو جرى تجاهلهما، سيُصاب الفريق بما يُسمّى "الرؤية النفقية" (Tunnel Vision)، أي التركيز الضيّق للغاية والتورط بسرعة بإجابة خاطئة، مما يؤثّر على جودة التوقعات. ويمكن للمعايير الصحيحة أن تساعد في الحيلولة دون وقوع ذلك، بما فيها التركيز على جمع معلومات جديدة واختبار الفرضيات المتعلقة بالتوقعات. كما يجب على الفرق أن تركّز على تحييد أحد الأخطاء الشائعة في عملية التوقّع الذي يسمّى "الإرتساء" وهو انحياز العقل إلى الانطباعات الأولى والمعلومات البدئية. فقد يقود أحد التقديرات المبكرة – والذي قد يكون خاطئاً أو غير دقيق أصلاً – إلى انحراف في الآراء اللاحقة التي تقوم بالإرتساء على هذا التقدير لفترة طويلة. وغالباً ما يحصل ذلك بطريقة لاواعية لأنّ الأرقام المتاحة بسهولة تصلح لأن تكون نقاطاً بدئية جيّدة. (حتى الأرقام الاعتباطية تؤدي لدى استخدامها  في التقدير الأولي إلى ترسيخ أحكام الناس النهائية).

وقد أجرى أحد المؤلفين بول شوميكير تجربة مع طلاب ماجستير إدارة الأعمال في جامعة شيكاغو، أظهرت تأثير عمليات الاستكشاف المتباينة على المسار الذي يقود إلى التوقع النهائي. ففي إحدى التجارب، طُلبَ من المشاركين في التجربة الذين وضعوا في مجموعة الضبط (وهي مجموعة يستخدمها الباحثون في دراسة ما دون أن تتلقى أي توجيه وتستخدم كأساس للمقارنة) تقدير عدد الميداليات التي ستفوز بها الولايات المتّحدة الأمريكية مقارنة بدولة أخرى تحتل المراتب العليا خلال الألعاب الأولمبية الصيفية القادمة، وتحديد هوامش تقديراتهم التي تبلغ  ثقتهم في صحتها نسبة 90%. وطُلِب من المجموعة الأخرى تحديد مختلف الأسباب التي قد تجعل نسبة الميداليات أدنى أو أعلى بالمقارنة مع السنوات السابقة أولاً ومن ثم وضع تقديراتهم. وقد أخذت هذه المجموعة بالتأكيد بعين الاعتبار الهجمات الإرهابية ومقاطعة بعض الدول للأولمبياد، بالإضافة إلى عوامل أخرى قد تؤثّر على النتيجة، من المرض إلى التدريب الأفضل إلى المنشطات التي تسهم في تحسين الأداء. ونتيجةً لهذا التفكير المتباين كانت هوامش هذه المجموعة أوسع بكثير من هوامش مجموعة الضبط، وغالباً بأكثر من النصف. وبشكل عام، فإنّ الهوامش الأوسع تعكس توقعات موزونة بعناية أكبر؛ في حين تشير النطاقات الضيّقة عادة إلى توقعات تستند إلى ثقة مفرطة، وهي غالباً ما تكون أقل دقّة.

الثقة

تتبّع الأداء وتقديم الرأي فيه

يُظهرُ عملنا مع "مشروع البصيرة النافذة" ومع مجموعة واسعة من الشركات بأن تتبع نتائج التوقع وتقديم التقييم والمراجعة في الوقت المناسب أمران أساسيان لتحسين الأداء في مجال التوقع والتنبؤ.

ولنأخذ على سبيل المثال المتنبئين الجويين الذين يتميّزون في عملهم على الرغم من كثرة الانتقاد الموجه إليهم. فعندما يقولون بأنّ هناك احتمالاً بنسبة 30% لهطول المطر، فإنّ المعدّل الوسطي يشير إلى أنّ الأمطار تهطل في تلك الأيام في 30% من الحالات. أحد العوامل الأساسية التي تساعدهم في تقديم هذا الأداء المتفوق هو أنّهم يتلقون باستمرار، وفي الوقت المناسب، ردرود فعل لا لبس فيها حول دقّة تقديراتهم، وهي تربط غالباً بمراجعات الأداء التي يخضعون لها. كما أنّ لاعبي البريدج، والمدققين الداخليين، والخبراء الجيولوجيين في مجال النفط ينجحون نجاحاً باهراً أيضاً في توقعاتهم، ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى ردود الفعل القوية على عملهم وحوافز تحسين الأداء. ويُعتبرُ أنقى مقياس لمدى دقّة التوقعات وتتبّعها مع مرور الوقت هو مقياس برير (Brier score). فهو يسمح للشركات بإجراء مقارنات مباشرة وموثوقة إحصائياً بين المتنبئين عبر سلسلة من التوقعات. وبمرور الوقت، تكشف علامات المقياس أولئك الذين تفوقوا، سواء كانوا أفراداً، أو أعضاء في فريق، أو فريقاً بأكمله يتنافس مع غيره.  (راجعوا الفقرة التي تحمل عنوان: "مقياس برير يكشف عن أفضل المتنبئين وأسوئهم في شركتكم"). لكنّ مجرد معرفة علامة الفريق في هذا المقياس ليس لها كبير أثر في تحسين الأداء، بل يجب أيضاً تتبّع العملية التي استخدمها الفريق. فمن المهم إجراء مراجعة وتدقيق لمعرفة الأسباب وراء هذه النتائج، سيئة كانت أم جيدة، بحيث يمكنكم أن تتعلّموا منها الدروس وتستخلصوا العبر. فقد تكشف بعض عمليات التدقيق بأنّ خطوات معيّنة في العملية قد قادت إلى تنبؤ جيّد أو سيء؛ وقد تظهر عمليات أخرى بأنّ أحد التوقعات كان صحيحاً على الرغم من استناده إلى تبرير غير منطقي (أي أنّه تحقق بالمصادفة)× أو أنّ أحد التوقعات كان خاطئاً بسبب ظروف غير اعتيادية لا بسبب خطأ في التحليل. فقد يضع أحد متاجر التجزئة، على سبيل المثال، توقعات دقيقة للغاية عن عدد الزوار الذين سيزورون المتجر في يوم معيّن، ولكن إذا حصل تحققت نظرية البجعة السوداء، أي حصل واحد من تلك الأمور صعبة التوقع وناردة  الحدوث– كالتهديد بوجود قنبلة مثلاً– وتسبّب بإغلاق المتجر، فإنّ التوقعات الخاصّة بذلك اليوم سوف تكون خاطئة للغاية. وسوف تشير مقياس برير إلى أداء سيء، لكنّ التدقيق في العملية سيُظهِر بأن سوء الحظ، وليس سوء التوقع، هو السبب في هذه العلامة المتدنية.

التوقع

كما يُعتبرُ تقويم الديناميكيات التي تحكم التفاعل بين صفوف أفراد المجموعة جزءاً أساسياً من عملية التدقيق. فلا يمكن لأي قدر من البيانات الجيّدة، أو اتّباع قواعد التوقع الصحيحة بحذافيرها، أن يتغلّبا على أي خلل في ديناميكية العلاقة بين أعضاء الفريق. ولنأخذ على سبيل المثال النقاشات التي دارت بين وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) وبين شركة المقاولات الهندسية مورتون ثيوكول (Morton Thiokol) قبيل إطلاق مكوك الفضاء "تشالنجر" الذي انتهى بانفجاره في الجو عام 1986. فقد  نصح مهندسو شركة ثيوكول في بادئ الأمر بعدم إطلاق المكوك، وعبّروا عن خشيتهم من أن يؤثّر انخفاض درجات الحرارة على الحلقات المطاطية التي تُحكِم تثبيت الوصلات في المكوك. وكانوا قد تنبّؤوا بوجود احتمال أعلى بكثير من المعتاد بفشل العملية بسبب درجات الحرارة المنخفضة. ولكن ثيوكول غيّرت في النهاية موقفها، وكان ذلك أمراً مأساوياً.

لقد كان التحليل الذي أجراه المهندسون جيّداً؛ لكن العملية التنظيمية كان يشوبها الخلل. فقد كشفت عملية إعادة بناء أحداث ذلك اليوم، استناداً إلى جلسات الاستماع التي عقدت في الكونغرس الأميركي الظروف المتداخلة التي أثّرت سلباً على التوقع، وهي: ضغط الوقت، والقيادة التوجيهية المستبدّة، والفشل في استكشاف الآراء البديلة بالكامل، وإسكات الأصوات المعارضة، والإحساس بالعصمة عن الخطأ (فبعد كل اعتبار كانت الرحلات الأربع والعشرون السابقة قد سارت على ما يُرام).

وبغية تجنب تكرار هذه الكوارث – وبهدف تكرار حالات النجاح أيضاً – ينبغي على الشركات أن تجمع بطريقة منهجية تقارير فورية عن الطريقة التي تتّخذ بها الفرق الكبيرة لديها قراراتها، وأن تحتفظ بالسجلات التي تبيّن الافتراضات التي وضعها الفريق، والبيانات التي استخدمها، والخبراء الذين تشاور معهم، والأحداث الخارجية، وهلم جراً. ويمكن استعمال أفلام الفيديو التي تصوّر الاجتماعات، أو نصوص محاضرها، لتحليل العملية؛ كما أنّ الطلب من المتنبئين تسجيل عمليتهم يمكن أن يوفّر آراءً هامة. ولنتذكّر مجموعة ساسكويهانا إنترناشيونال غروب التي تُدرِّب الموظفين الذين يقومون بالتداول لديها على لعب الورق. إذ يُطلب من هؤلاء المتداولين قبل القيام بأي عملية تداول أن يقوموا بتوثيق الأسباب التي دفعتهم إلى الدخول في تلك العملية أو الخروج منها. كما يُطلب منهم أن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة الرئيسية التالية : ما هي المعلومات التي قد تكون موجودة لدى الآخرين وليست موجودة لديّ وقد تؤثّر على عملية التداول؟ وما هي الفخاخ المعرفية التي قد تؤثّر على صوابية حكمي على الأمور في هذه الصفقة؟ ولماذا أعتقد بأنّ هذه الصفقة ستكون لصالح الشركة؟ كما تؤكّد مجموعة ساسكويهانا إنترناشيونال غروب أيضاً على أهمية العملية من خلال عدم ربط المكافآت بنتائج العمليات الفردية فقط، بل بصحة عملية التحليل التي اتّبعها المتداول.

ويمكن لعمليات التدقيق المُدارة بطريقة صحيحة أن تكشف ما إذا كان المتنبئون قد اجتمعوا حول فكرة سيئة، أو صاغوا المشكلة بطريقة رديئة، أو تغاضوا عن معلومة هامة، أو فشلوا في إشراك أصحاب الآراء المعارضة في الفريق في النقاش (أو حتّى كمّوا أفواههم). وعلى المنوال ذاته، يمكنها أن تسلّط الضوء على خطوات العملية التي قادت إلى توقّعات جيدة، بحيث يمكن نقل تلك التجربة إلى الفرق الأخرى لتسفيد منها ومن دروسها في تحسين توقعاتها.

تُعتبر كلّ طريقة من الطرق التي وصفناها – التدريب، وبناء الفريق، وتتبّع الأداء، واكتشاف الأشخاص الموهوبين – أمراً أساسياً لوضع توقعات جيدة. ويجب أن تصمم هذه المقاربة بحسب وضع كل شركة من الشركات، وليس هناك أي شركة، على حدّ علمنا، قد تمكّنت من إتقان كافة تلك الطرق لوضع برنامج متكامل. ويشكّل ذلك فرصة عظيمة للشركات صاحبة الريادة، وتحديداً الشركات التي تمتلك ثقافة الابتكار المؤسسي والشركات التي تتبنّى عمليات التجريب التي تبنّتها أجهزة الاستخبارات التي أشرنا إليها أعلاه.

لكنّ الشركات لن تكون قادرة على الاستفادة من هذه الميزة ما لم يدعم القادة المحترمون هذا المسعى من خلال التعبير عن انفتاحهم على فكرة "التجربة والخطأ"، واستعدادهم لإثارة السخط من التغيير، وجاهزيتهم للكشف عمّا "نعتقد أننا نعرفه ولكننا في الحقيقية لا نعرفه" من أجل تعزيز قدرة الشركة على التنبؤ والتوقع وإعطائها ميزة تتفوق بها على الآخرين.

«مقياس برير» للكشف عن أفضل المتنبئين وأسوئهم في شركتكم

من المهم جدّاً أن يضع المتنبئون تقديرات دقيقة للاحتمالات، مثل إعطاء احتمال بنسبة 80% بأن تتمكّن شركتهم من أن تبيع ما بين 9.000 و11.000 وحدة من منتج جديد خلال الربع الأول من السنة. فبهذه الطريقة، يمكن تحليل التوقعات ومقارنتها باستعمال طريقة تسمّى مقياس برير، الذي يسمح للمدراء بترتيب المتنبئين بطريقة موثوقة على أساس المهارة. وتجري عملية احتساب علامات مقياس برير من خلال تربيع الفرق بين أحد الاحتمالات المتوقعة والمحصلة الفعلية والتي تعطى علامة (1) إذا حصل الحدث وعلامة (0) إذا لم يحصل. فعلى سبيل المثال، إذا أعطى أحد المتنبئين احتمالاً بنسبة 0.9 (أي مستوى ثقة 90%) بأن تتجاوز مبيعات الشركة الهدف، وإذا تمكّنت الشركة من تجاوزه فإن علامة مقياس برير التي يحصل عليها هذا التوقع هي: (0.9 – 1)2 أو 0.01.

أمّا إذا أخفقت الشركة في الوصول إلى الهدف، فإن العلامة تكون: (0.9 – 0)2 أو 0.81.

وكلّما كانت العلامة أقرب إلى الصفر، كلّما كان خطأ التوقع أقل، أي أن التوقّع أفضل.

يُظهِرُ مقياس برير بوضوح من يجيد التوقع ومن لا يجيده. وبما أنّ هذه الأداة تسمح بإجراء مقارنة مباشرة بين المتنبئين، فإنّها بذلك تشجّع على إجراء التحليل المتأنّي، وتساعد في الوقت ذاته على الكشف عن التنبؤات التي لا تستند إلى أساس منطقي وعن التنبؤات المنحازة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي