جودة الحياة الرقمية: كيف يمكن أن تسهم التكنولوجيا في الرفاه الاجتماعي؟

5 دقيقة
الرفاه الاجتماعي
مصمم الصورة: (هارفارد بزنس ريفيو، أسامة حرح)

ملخص: لا شك في أن مسألة الازدهار الرقمي تشغل مجتمعات العالم بأسره. لكنها تحظى باهتمامٍ فريد في المملكة العربية السعودية وذلك لعدة عوامل، منها:

  • نسبة انتشار الإنترنت في المملكة ضمن الأعلى عالمياً، فبحسب تقرير "إنترنت السعودية" الذي تنشره سنوياً هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية، فإن 99% من السكان في المملكة يستخدمون الإنترنت استخداماً منتظماً (بمن فيهم الأطفال واليافعون)، و52% منهم يقضون 7 ساعات وأكثر في زوايا الإنترنت، أغلبها في مواقع التواصل الاجتماعي. 
  • إن المملكة من الدول اليافعة ديموغرافياً، فمتوسط العمر لا يتجاوز 29 سنة، وفقاً لتقرير "تعداد السعودية" الأخير.

لم تعد التقنية إشارةً إلى الترف والرفاه. هي جزءٌ جوهري في حياة إنسان العصر الحديث. بل للكثيرين، العالم الرقمي هو الحياة، فهم يعيشون ويعملون في هذه الفقاعة الرقمية، حتى أصبحت شخصياتهم هناك هي أساس هُويتهم.

هذا الحضور الطاغي للتقنية، وتغلغل آثارها في كل مفاصل الحياة، يؤذن بشروعِ فصلٍ جديد في حياة البشرية. فمنذ بدء التاريخ، كان تواصُل الإنسان محدوداً، ومجتمعه رهين الحدود الجغرافيّة، وإدراكه مُقيّداً بالمُتاح ضمن هذه الحدود. لكن الثورة التقنية حطّمت كل الأسوار وأحالَت العالم إلى شكلٍ جديد لا نعرف ماهيّـته ولا أعرافه ولا تقاليده. وكأننا دخلنا إلى كوكبٍ آخر بكل ما يحمل من فرص الخير ومكامن الشر. من هنا جاءت الحاجة الماسّة إلى سبر أغوار هذا الكوكب لنكتشف تضاريسه ولنتعرّف على طرائق الحياة الطيبة فيه نحو "الازدهار الرقمي". هذا المصطلح الذي أتانا من المستقبل يُشير إلى تنظيم تفاعل الإنسان مع التقنية لتحقيق الرفاه والعافية.

لا شك في أن مسألة الازدهار الرقمي تشغل مجتمعات العالم بأسره. لكنها تحظى باهتمامٍ فريد في المملكة العربية السعودية وذلك لعدة عوامل، منها:

1. نسبة انتشار الإنترنت في المملكة ضمن الأعلى عالمياً، فبحسب تقرير "إنترنت السعودية" الذي تنشره سنوياً هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية، فإن 99% من السكان في المملكة يستخدمون الإنترنت استخداماً منتظماً (بمن فيهم الأطفال واليافعون)، و52% منهم يقضون 7 ساعات وأكثر في زوايا الإنترنت، أغلبها في مواقع التواصل الاجتماعي.

2. إن المملكة من الدول اليافعة ديموغرافياً، فمتوسط العمر لا يتجاوز 29 سنة، وفقاً لتقرير "تعداد السعودية" الأخير.

هذا المزيج بين الانتشار التقني والديموغرافيا اليافعة يحمِل في طيّاته فرصاً عظيمة وكذلك تهديداتٍ كبرى. فنحن نعرف من الأبحاث العلمية -خاصةً تلك الموجودة في العلوم العصبية والإدراكية والنفسية- أن مرحلتي الطفولة والمراهقة هما مرحلتان نمائيتان حرجتان، وأن التقنية قد تتشابك مع النمو الطبيعي الذي اعتاده الإنسان، وهذا ما دعا الجرّاح العام في الولايات المتحدة الأميركية إلى إطلاق تقريرٍ كامل حول تأثير شبكات التواصل على الصحة النفسية للمراهقين، وذلك بعد تعاظم الأدلة العلمية وتعاضدها حول الآثار السلبية لشبكات التواصل على تكوين الإنسان، وبالتحديد الأجيال اليافعة.

من هذا المُنطلق اكتسبَ الازدهار الرقمي أهميته الكبرى لدى صنّاع القرار في المملكة العربية السعودية، وعلى عدّة جبهات، منها: عن طريق المؤسسات الرسمية من جهة، والمنظمات غير الربحية من جهةٍ أخرى. فالكل هنا يعمل باتجاهٍ واحد، صوبَ رؤية 2030.

المؤسسات الرسمية

إن رؤية 2030 تستند إلى 3 ركائز تعمل كلها على نحو متوازٍ تكاملي يأخذ بالمواطن والمقيم والزائر إلى الرفاه المنشود. إحدى هذه الركائز: المجتمع الحيوي. ومنه تنطلق عدة أهداف على عدة مستويات. ما يعنينا اليوم في هذه المقالة هو الهدف السامي الذي يتسابق الجميع إلى تحقيقه وهو "تمكين حياة عامرة بالصحة". هذا الهدف أصبح البوصلة التي يبحرُ تجاهها كل من ينشغل بتحسين حياة الإنسان وصحته. بالطبع، تعريف "الصحة" هنا يتجاوز معاني كل من الطبابة والجسد. "الصحة" في رؤية 2030 هي مفهومٌ شمولي كما تعرّفها منظمة الصحة العالمية، بأنها "حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرد انعدام المرض أو العجز".

من هذا الأساس، تبنّت هيئة الحكومة الرقمية استراتيجيةً شاملة، أبرزُ برامجها هو "تعزيز الرفاه الاجتماعي" عبر المنظومة الرقمية في المملكة. ومن أهداف الهيئة كذلك هو "تعزيز قدرات ومهارات ودعم الثقافة الرقمية" في المجتمع. هذا التوجه الاستراتيجي ينضوي تحته العديد من البرامج والمبادرات التي تأمُل أن تُمكّنَ المجتمع من التعامل الأمثل مع الغول التقني وذلك في رحلة الوصول إلى الازدهار الرقمي.

لا يمكننا بمكان أن نتناول دور المؤسسات الحكومية في هذا الموضوع دون التطرّق إلى برنامج "تنمية القدرات البشرية" وبرنامج "جودة الحياة"، وهما ضمن البرامج العُليا التي تعمل على مستوى مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية التابع لمجلس الوزراء السعودي. فأما برنامج "تنمية القدرات البشرية" فهاجسه هو "ضمان جاهزية المواطنين في جميع مراحل الحياة"، وتنمية قدرات المواطن من النواحي القيَمية والتعليمية والعملية. وعطفاً على ذلك، فإنّ من مستهدفات هذا البرنامج الطَّموح أن تتبوأ المملكة العربية السعودية موقعاً ريادياً في مؤشر رأس المال البشري على مستوى العالم. وبطبيعة الحال، فإنّ للتقنية دوراً جوهرياً هنا، فهي الرافعة الأولى نحو التعليم والابتكار وريادة الأعمال وغيرها من مؤشرات رأس المال البشري. ولهذا فإن البرنامج حقل خصب للكثير من المبادرات التي من شأنها تعزيز الازدهار الرقمي محلياً.

وأما البرنامج الآخر فله كذلك من اسمه نصيب: برنامج "جودة الحياة"، الذي يعمل على نحو دؤوب لخلق "مجتمعٍ حيوي يعيش فيه الجميعُ حياةً كريمةً سعيدةً". إحدى الآمال المعقودة على هذا البرنامج "تعزيز مشاركة الفرد والمجتمع في الأنشطة الفنية والثقافية والرياضية، والتمتع بحياة صحية مفعمة بالنشاط"، وهذا أشبه بالمضاد الحيوي أمام كثافة العالم الرقمي والانشغال المفرط فيه الذي يُحيل المرء إلى كائن سلبي متقوقع خلف شاشته. برنامج "جودة الحياة" هو الترياق الذي يحتاج إليه المجتمع وهو البديل الذي يتطلّع إليه الناس، ليوازنوا عبر مبادراته استهلاكهم التقني.

كانت هذه الخطوط العريضة لدور المؤسسات الرسمية نحو بلوغ الازدهار الرقمي، وللحكاية بقية، فالقطاع غير الربحي ليس بأقل حماسةٍ ولا أضعف رغبة في هذه الرحلة.

مؤسسة الأميرة العنود الخيرية

لعلّ ما يجري داخل أروقة مؤسسة الأميرة العنود الخيرية هو أكبر مثال على الدور التكاملي الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني. فهذه المؤسسة العريقة ومقرها الرياض، أسّست مركزاً ريادياً باسم "سَكينة" لنشر فلسفة ممارسات الازدهار الرقمي وثقافتها بين الأسر السعودية. أقودُ هذا الفريق العتيد مستشاراً لتفعيل برنامجين رئيسين:

1. برنامج سفراء الازدهار الرقمي، الذي يستهدف تدريب العشرات من المعلمين والأخصائيين في علم نفس التقنية وكيفية التعامل الأمثل معها، ومن ثم نقل هذه المعرفة إلى الأهالي بصورة سلِسة وفعّالة عبر سلسلة من ورش العمل المجتمعية في أنحاء المملكة كافة.

2. مشروع المدارس الآمنة رقمياً، الذي يطمح إلى وضع معايير موحّدة لجميع المدارس لتصبح بيئةً محفزةً وداعمةً للازدهار الرقمي.

إن المراد لهذه البرامج أن تكون تمكينية في جوهرها؛ أي أنها تتجاوز خطوات نشر الوعي والتثقيف لتصل إلى خطوات المهارات والتطبيق الفعلي في الميدان، سواء كان هذا الميدان المنزل أو المدرسة أو الأحياء.

مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) - أرامكو

بتصميمه المعماري الآسر، يقف هذا المركز شامخاً في شرق المملكة، ليكون منارةً للثقافة والعلوم. من هنا، ينطلق أكبر مشروعٍ علمي لتحقيق "الاتزان الرقمي" في العالم، الذي يشمل أكثر من 35 دولة تحت شعار "حتى لا تأخذنا الشاشات بعيداً". هذا المشروع الضخم يقوم على "الأبحاث العلمية المكثفة لفهم واقع التقنية اليوم وكيف أصبحت تؤثر على حياتنا، من خلال تقديم المعرفة كبرامج وأدوات توعوية، مع رؤية لخلق عالم نتحكم فيه بأجهزتنا وليس العكس". تحقيقاً لهذه الرؤية النبيلة، أصبحت مدينة الظهران ورشة عمل كبرى ليس لصناعة النفط والغاز فقط، بل لصناعة نهضة رقمية تتجسّد في قمّة "سينك"، التي تستضيف العلماء والباحثين والتقنيين والساسة من حول العالم لتناول مستجدات التقنية وتقاطعاتها مع الإنسان.

إن هذا المشروع ليس حماسة عابرة من مسؤول أو اهتماماً زائفاً زائلاً فقط، بل يُعبّر عن رغبة مؤسساتية عميقة والتزام أصيل من (إثراء) لصنع الفارق والأثر في حياة شعوب العالم كافة.

لا أحد في سواء عقله يُعادي التقنية بمجملها، فهي عالمنا الجديد وهي منجمُ الفرص والإمكانات والآفاق. لكنها كأي مغامرة بشرية جديدة، تأتي ويأتي معها مواطن ضعف وخلل وتهديد، والحصيف من كسب منها واحتمى منها. بحجم هذه الصناعة، تأتي مسؤولية الحكومات والمنظمات لتمكين مجتمعاتها نحو الازدهار الرقمي. وهذا، تماماً، ما تصبو إليه برامج رؤية 2030 وبقية المؤسسات المعطاءة في المملكة العربية السعودية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي