في كتابي "ميزة السعادة" (The Happiness Advantage)، وصفت تجربتي مع قائد إحدى الشركات المدرجة على قائمة "فورتشن 100"، حينما قال لي "لسنا بحاجة إلى برنامج للسعادة، فنحن ندفع أجور الموظفين ليظلوا حريصين على العمل". وهذا يمثل بشكل مثير للدهشة رأياً شائعاً لدى العديد من القادة غير المثقفين، وهو افتراض قائم على اعتقاد مفاده أن الأجور تعني بالضرورة الاندماج في العمل. إلا أن إحدى دراسات التحليل التجميعي (Meta-Analysis) التي أجريت على العلاقة بين الأجور والرضا الوظيفي، تظهر العلاقة الضعيفة بين الاثنين، وأنه توجد الكثير من العوامل الأخرى التي تؤثر على معادلة الأداء الوظيفي أكثر من مجرد الدخل المادي. نحن ندرك أن التقدير والتحفيز الداخلي مهمان للغاية لنجاحنا، ولكن المفتاح الحقيقي هو العثور على وسائل لتشغيل هذه العوامل بفاعلية.
تعمل دراستان بحثيتان كنت جزءاً منهما على تشكيل فهمنا لتأثير استخدام المنصات الرقمية، مثل برامج التقدير الاجتماعي، لتحسين السعادة ونتائج الأعمال. باختصار، تشير هاتان الدراستان إلى أن برامج التقدير الرقمي الفعالة يمكن أن تساعد في توسيع نطاق الثناء والتقدير الداخلي، والحصول على عائد استثمار مرتفع؛ كما تؤدي إلى مستويات أعلى بكثير من أداء الموظف ومشاركته في العمل، وكذلك زيادة ولاء العملاء، كما تم قياسها من خلال صافي نقاط الترويج.
نشأت فكرة هذا البحث عندما تحدثت في مؤتمر "WorkHuman" عام 2015 إلى جانب آدم غرانت وأريانا هافينغتون وروب لوي، الذين على الرغم من أنهم خبراء في مجالات مختلفة فقد كانت لديهم نفس الرسالة في هذا المؤتمر: نحن بحاجة إلى إيجاد حلول فعالة وقابلة للتطبيق على نطاق واسع للوصول إلى قوى عاملة إيجابية ومنخرطة في العمل، وقد غادرت هذا المؤتمر ولديّ تساؤل واحد أثر في صياغة أعمالي خلال العام المنصرم: هل يمكن للثورة الرقمية أن تساعد في رفع مستويات السعادة، بدلاً من مجرد زيادة سرعة المعلومات وبالتالي رفع مستوى الضغوط والأعباء لدينا؟
لقد بدأت في دراسة أساليب تفعيل عملية الثناء والتقدير بشكل فعال للتأثير الناجح على نتائج الأعمال، وقد بدأت العمل من خلال الشراكة مع "غلوبوفورس" (Globoforce) وهو برنامج شهير للتقدير الاجتماعي، والذي عرض مشاركة كميات هائلة من الأبحاث الخاصة به بشكل سري وشامل فيما يخص العلاقات الترابطية مع نتائج الأعمال لدى بعض الشركاء المختارين. بدأت ثمار هذا العمل تتحقق، حيث يمكن أن تساعد في صياغة برامج أفضل للتقدير في العمل أو التحقق من صحة الأساليب الحالية.
إحدى الشركات التي قررنا أن تكون نقطة انطلاق جيدة للتركيز عليها كانت شركة طيران "جيت بلو" (JetBlue) والتي اختيرت من قبل جي دي باور "J. D. Power" باعتبارها الأعلى على مستوى رضا العملاء بين شركات الطيران منخفضة التكلفة لمدة 11 عاماً على التوالي، ويبدو أن جزءاً من نجاح الشركة يرجع إلى تركيزها على التقدير الاجتماعي، تمكنت شركة "غلوبوفورس" من تطوير برنامج اجتماعي للتقدير المباشر بين الزملاء داخل شركة "جيت بلو"، حيث يمكن لموظفي الشركة ترشيح أحد الأفراد نظراً لإسهاماته اليومية المميزة أو الجهد والعمل النموذجي الذي يقدمه. بالتالي تتم مشاركة قصة النجاح تلك على مستوى الشركة في صفحة المنشورات الداخلية "Newsfeed"، ويُمنح متلقي التقدير النقاط التي يمكنه أن يقرر كيفية إنفاقها، حيث يمكنه استبدال نقاط المكافآت فوراً مقابل وجبة عشاء، أو ادخارها لاستخدامها في العديد من الخيارات الأخرى اللامحدودة مثل العطلات أو الرحلات البحرية. يحتوي هذا البرنامج على العديد من العناصر المثيرة فعلاً للاهتمام:
* نظراً لأن المستلم يختار كيفية استخدام نقاط مكافأة التقدير، بالتالي يتولد ارتباط متزايد مع هذه المنصة، كما أن هذا النوع من التخصيص يتجنب أيضاً مشكلة حصول النباتيين مثلاً على عشاء من اللحم كمكافأة، أو أن يتلقى موظف أصم جهاز آي بود على سبيل المثال (وكلاهما بمثابة حالات حقيقية تمثل التنفيذ الخاطئ لعملية التقدير).
* يتمتع البرنامج بمرونة الاختيار، ما يمنح المتلقي القدرة على استرداد المكافأة مقابل شيء يمثل قيمة فعلية بالنسبة له.
* يتم مشاركة التقدير على المستوى الداخلي للمؤسسة، لذا لا يحصل المتلقي فقط على التهاني الإضافية من الآخرين الذين يشاهدون المنشور، بل أكثر من ذلك يطلع الموظفون الآخرون في الشركة على قصص للسلوكيات الإيجابية كنماذج يحتذى بها.
* ونظراً لأن التقدير يكون بشكل مباشر بين الزملاء، فإن المسألة كلها لا تبدو بمظهر التقييم الرسمي للأداء، بل تبدو أكثر بمثابة تعبير حقيقي وداخلي عن التقدير والامتنان.
* إن قرار استخدام التقدير كمكافأة فورية بدلاً من مجرد زيادة الأجور هو قرار رائع، لأن زيادات الأجور قد تخلق نقاط ارتباط نفسية تربط بين شعور الشخص بالسعادة ومستوى دخله، بينما يعتبر برنامج التقدير الاجتماعي بمثابة عملية مستمرة وغير متوقعة، كما أنها أصعب في تشكيل ارتباط نفسي حولها.
كشفت بيانات شركة "جيت بلو" أنه في مقابل كل 10% زيادة في عدد الأشخاص الذين يتم تقديرهم، شهدت "جيت بلو" زيادة بنسبة 3% في معدل الحفاظ على الموظفين وزيادة قدرها 2% في نسبة اندماج الموظفين في العمل.
يمكن أن يكون معدل دوران الموظفين واحداً من أعلى المشكلات تكلفة في أي شركة؛ حيث تظهر الدراسات أنّ تكلفة استبدال الموظفين تتراوح بين 20% إلى 150% من رواتبهم، وهذا يتوقف على كيفية حساب هذه التكلفة، بالتالي، فإن تغيراً بنسبة 3% من هذا الرقم يمكن أن يشكل عشرات الملايين من الدولارات بناء على حجم الشركة. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت بيانات شركة "جيت بلو" أيضاً أن الموظفين الأكثر اندماجاً في العمل من المرجح أن يكونوا قادرين على إبهار عملائهم بمعدل ثلاثة أضعاف الموظفين الآخرين، ومن المحتمل بمقدار الضِعف أن يكونوا مذكورين ضمن أفضل 10% من التعليقات الإيجابية التي عَبّر عنها العملاء. وبالتالي، فإن التقدير ليس مجرد عملية تهدف إلى الحفاظ على الموظفين؛ بل تحمل هذه العملية تأثيراً على رضا العملاء وولائهم أيضاً، علماً أن البيانات سابقة الذكر هي في الواقع أرقام متحفظة إلى حد كبير، حيث وجدت شركة "سيمانتك" (Symantec) زيادة بنسبة 14% في مستويات الاندماج في العمل الناتجة عن برنامج التقدير الاجتماعي المستخدم لديها.
فيما يتعلق بتحليل العائد على الاستثمار، يبدو واضحاً أن الأثر المالي لزيادة معدلات الحفاظ على الموظفين والاندماج في العمل وولاء العملاء يعتبر كبيراً. لدعم هذه النتيجة، دخلت "غلوبوفورس" في شراكة مع إحدى الشركات الرائدة في المجال ضمن قائمة "فورتشن 500" والتي أجرت تحليلاً مشابهاً لدراسة تأثير الزيادة في الأجر الأساسي مقابل زيادة التقدير، وأثر ذلك على معدلات اندماج الموظفين في العمل. وعند المقارنة ما بين الزيادة المحدودة في الرواتب وبين الاستثمار في التقدير، وجدوا أنه يمكن تحقيق ما يقرب من نصف زيادة اندماج الموظفين من خلال الاستثمار في التقدير، ومع ذلك سيتكلف ذلك 5% فقط من قيمة الاستثمار الذي كانوا سيقومون به في زيادة الأجور، ما يعني أن التقدير بإمكانه أن يؤدي إلى خلق نصف معدل زيادة الاندماج في العمل مقارنةً بتغيير الراتب، ولكنه سيكون أقل تكلفة بنسبة 95%.
دعني أذكر ما يلي بكل وضوح: لا ينبغي أن يكون التقدير بديلاً عن الزيادات في الأجور المستحقة؛ حيث بإمكان كليهما أن يسيرا جنباً إلى جنب وهو ما ينبغي أن يحدث. بالطبع أرغب في أن تتمكن كل شركة من زيادة أجر العامل العادي إذا قدم عملاً مميزاً، ولكن حيث أن الشركات لا تتمتع بطبيعة الحال بميزانيات مفتوحة والكثير منها ملتزم بتقديم تقاريره إلى المساهمين، فإن مسألة العائد على الاستثمار تعتبر مسألة هامة وحاسمة، وخاصة في عالمٍ لا يحظى فيه الموظفون بالتقدير الكافي أو الثناء الملائم لمجهوداتهم المهنية.
أعمل في الوقت الحالي مع زوجتي ميشيل غيلان وإمي بلانكسون من معهد "البحوث التطبيقية الإيجابية" (Institute for Applied Positive Research ) لاستكشاف الفترة التي تدوم فيها دفعة السعادة الناتجة عن زيادة الأجر لمرة واحدة، مقابل دفعات التحفيز الطبيعية المتكررة الناتجة عن أساليب التقدير الرقميّ. فرضيتنا هي أنه إذا قدمت الشركة زيادة في الأجور، فإن الزيادة في معدل الاندماج تكون قصيرة الأجل، حيث يصبح مستوى الدخل الجديد هو القاعدة النفسية الجديدة - الأمر الذي يستدعي زيادةً أخرى في وقت لاحق للحفاظ على نفس مستوى الاندماج لدى الموظف. وهو ما يتماشى مع الأبحاث الحالية حول الدوافع الخارجية/ الداخلية كما هو موضح في مقالة هارفارد بزنس ريفيو "هل يؤثر المال حقًا على الدوافع؟" ولكن نظراً لأن برنامج التقدير المباشر من خلال الزملاء مستمر، فلا يوجد مؤشر على وجود نقطة تكيّف يعود عندها مستوى الاندماج إلى نقطة الأساس من جديد.
مع استمرار الشركات في النموّ والتوسع والتقدم التكنولوجيّ، نجد أنفسنا منفصلين بشكل متزايد عن شبكات الدعم الاجتماعي لدينا سواءً في العمل أو في المنزل، كما زادت الثورة الرقمية من سرعة عملنا بشكل كبير، وتشير هذه الدراسة إلى أنّ التكنولوجيا قد تكون أيضاً أحد المفاتيح لربطنا معاً من جديد - من خلال تطوير نوع من التقدير الفعال، والطبيعيّ، والقائم على الزملاء، وهو ما يحتاجه الناس ويستحقونه أثناء سعيهم لقيادة فرق العمل من أجل تحقيق المزيد من النجاح، والمزيد من السعادة أيضاً كما نأمل.