لكن ما الذي يجلب الشعور بالرضا؟ يختلف الأمر من شخص لآخر، حتى في مكان العمل نفسه، وحتى في الدور الوظيفي نفسه. وإذا كنت تحاول الإجابة عن هذا السؤال الذي يتناول شعورك أو شعور موظفيك بالرضا، فإليك إطار عمل مفيداً من كتاب “إدارة المهنيين الجُدد” (Managing the New Careerists)، لمؤلفه أستاذ الإدارة السابق في جامعة بريغهام يونغ (BYU)، بروكلين دير. وعلى الرغم من أن المهنيين لم يعودوا جُدداً بالمعنى المتعارف عليه (فقد نُشر الكتاب منذ أكثر من 25 عاماً)، فإن دير يقدّم منظوراً تاريخياً مثيراً للاهتمام حول عالم العمل الذي يشهد تغيرات متلاحقة، كما يقدّم رؤى ثاقبة حول الطبيعة البشرية التي تتطور بوتيرة أبطأ كثيراً. وحدَّد 5 “توجهات مهنية” تميل إلى التغير بمرور الوقت اعتماداً على ظروف الحياة:

الرغبة في التقدم المهني

يركّز الأفراد الذين يستمدون حافزهم من الرغبة في التقدم المهني على الترقيات والعلاوات وصناعة الشراكات وزيادة صلاحياتهم. ويتميزون بميولهم التنافسية واستعدادهم التام لقضاء ساعات طويلة في مناقشة سياسات بيئة العمل والتفاوض بشأنها من أجل الفوز بهذه المكافآت. تجدر الإشارة إلى أن هذا هو النموذج الوظيفي السائد في الولايات المتحدة، ما يعني أنه من السهل على أولئك الذين يرغبون في تحقيق التقدم المهني أن يوضّحوا موقفهم لمدرائهم وزملائهم وأفراد أُسرهم. يُشار أيضاً إلى أن معظم مَنْ بدؤوا مسيرتهم المهنية منذ عهد قريب، أو كلهم تقريباً، يضعون هذا التوجه على رأس أولوياتهم. ويبدأ الموظفون عادةً استكشاف التوجهات الأخرى بعد بلوغهم سن الثلاثين، أو حينما يكونون أكبر من هذه السن أو أصغر منها ببضع سنوات.

الرغبة في الشعور بالأمان

يتصف أولئك الذين يسعون إلى الاستقرار والقدرة على التنبؤ في بيئة عملهم بأنهم يمتلكون الحافز الذي يجعلهم على أهبة الاستعداد للتواؤم مع الآخرين والتمسك بمعايير المجموعة. ويتميزون بتحاشيهم للمخاطر وعدم اكتراثهم بالتقدم المهني مقارنة بالتحكم في مسيرتهم المهنية. إذا كان هذا الوصف قد أثار انزعاجك، فلا تجزع لأنك لست وحدك؛ فمن الصعب على المرء أن يعترف بأنه يريد هذا النوع من الأمان، لأنه سيبدو آنذاك كما لو كان إنساناً آلياً مسلوب العقل والإرادة، وهو ما لا يريده أحد، خاصة اليوم، نظراً لظهور مفهوم الموظف الحر في مختلف القطاعات، لكن الموظفين الذين يستمدون حافزهم من الشعور بالأمان يتميزون بالإخلاص واستعدادهم التام لبذل قصارى جهدهم إذا استلزم الموقف ذلك، وليس إذا حقّق لهم المجد فقط.

الرغبة في نيل الحرية

يصف دير الموظفين الذين يتبعون هذا التوجه بأنهم أشخاص “يصعب العمل معهم، ويستحيل العمل تحت إشرافهم، ويبدو الإشراف عليهم وإدارتهم أشبه بمحاولة الإمساك بثعابين الماء الزلقة، ولا يعدمون الوسيلة لفعل ما يريدون أو الحصول على ما يشاؤون”. ويتميز الأشخاص الذين يعتزون بالحرية بأنهم يريدون الاستقلالية والتوجيه الذاتي، ولا يطيقون الالتزام باللوائح والتقارير الدورية وغيرها من الإجراءات البيروقراطية، بخلاف زملائهم الموجودين في معسكر “الرغبة في الشعور بالأمان”. وعلى غرار الموظفين الذين يستمدون حافزهم من الرغبة في الوصول إلى التقدم المهني، فإن الرغبة في نيل الحرية تلقى قبولاً واسعاً وتحظى بالإعجاب، خاصةً في الولايات المتحدة. ومع ذلك، يجب على الأفراد الذين يستمدون حافزهم من الرغبة في نيل الحرية أداء واجباتهم قبل أن يتمكنوا من الحصول على الاستقلالية. حتى لو لم تكن الرغبة في التقدم المهني هي توجهك الأساسي في بداية مسيرتك المهنية، فإن البعض يرى ضرورة التصرف كما لو كنت كذلك في أثناء بناء سمعتك الشخصية. وبمجرد أن تعزز مركزك، يمكنك عندئذٍ تغيير المسار والسعي للحصول على مكافآت ذات مغزى أعمق.

الرغبة في الشعور بالانتشاء

هؤلاء هم الأشخاص الذين يهتمون بشدة بنشر خبراتهم وحل المشكلات وإبداع مبتكرات جديدة والشعور بالاندماج في البيئة المحيطة. يتميز المنتمون إلى هذه التوجّه بطموحاتهم الكبيرة، ويتصفون في بعض الأحيان بغرابة السلوك. وعلى عكس المهنيين العازمين على تحقيق التقدم المهني (الذين قد يضطلعون بمهام مملة ولكنها مهمة من أجل كسب تأييد العملاء أو المدراء)، فإن أولئك الذين يستمدون حافزهم أساساً من الشعور بالانتشاء ينجذبون نحو الأعمال التي توفر المزيد من الحوافز المعنوية، حتى لو كانت أعمالاً غير مرموقة أو مرتفعة المخاطر، كما أنهم على استعداد للتنازل عن قدر معين من الاستقلالية مقابل الحصول على وظيفة مثيرة وهادفة؛ فقد ينضمون إلى صفوف الجيش، مثلاً، وهو ما قد لا يفعله الشخص الذي يستمد حافزه من “الرغبة في نيل الحرية”.

الرغبة في تحقيق التوازن

هل كنت تومئ برأسك موافقاً كلما تحدثنا عن أحد هذه التوجهات، معتقداً أن كل توجه لا يخلو من الوجاهة وجدير بنيل الاستحسان؟ هذا يعني أنك تستمد حافزك من الرغبة في تحقيق التوازن. ويرغب الأشخاص المتأثرون بهذا التوجه في الاستمتاع بالنجاح المهني الموضوعي وتطوير الذات وتكوين علاقات وطيدة ويسعون جاهدين لتحقيق هذه الغايات المنشودة كلها بمرور الوقت. وهم غير مستعدين مطلقاً للتضحية بحياتهم الشخصية من أجل المتطلبات التي تفرضها عليهم حياتهم المهنية، لكنهم لا يتراخون أيضاً في أداء المهام الموكلة إليهم ما داموا يمتلكون الموارد اللازمة لأدائها حتى يوفروا وقتهم لحياتهم الشخصية في المنزل. بعبارة أخرى، يريدون قهر التحديات والشعور بالإنجاز، داخل مقر العمل وخارجه.

يقول دير إن الرغبة في تحقيق التوازن هي التوجه الأكثر شيوعاً، لكنه يشير إلى أن بعض الأفراد فقط هم الذين يستمدون حافزهم الحقيقي منه فيما يتراءى له. ويبدو أن الآخرين يحققون التوازن رغماً عنهم، ويعرفون ببساطة أنه يتعين عليهم تقديم تضحيات مهنية من أجل حياتهم الأسرية، أو تأجيل العلاقات أو الأهداف الشخصية حتى تُلبى أولويات مهنية معيّنة.

تجذب التوجهات المهنية الأفراد إلى الالتحاق بخطوط عمل معينة في أغلب الأحيان، ولكنها ليست في مثل بساطة القول بأن المبرمجين يستمدون حافزهم من شيء، ويستمد مندوبو المبيعات حافزهم من شيء آخر. فقد ينجذب الأفراد إلى القطاع نفسه أو الوظيفة نفسها لأسباب عديدة متباينة، وقد تتغير هذه الأسباب بمرور الوقت. حتى أكثر المهنيين طموحاً قد يعتبرون أن تحقيق التوازن والشعور بالأمان أهم من نيل الترقيات أو الإثارة الفكرية عند تعرُّضهم لأزمة صحية أو أسرية.

حاول استخدام إطار عمل دير بوصفه أداة للتخطيط المهني والإداري؛ لأن معرفة الجوانب التي يستمد منها موظفوك حافزهم تساعدك بكل تأكيد على إسناد المشروعات المناسبة للموظفين المناسبين وتطوير أدائهم في مجالات محددة، وبالتالي تنجح في استبقائهم.