يصيبنا فقدان الوظيفة بصدمة كبيرة، إذ نفقد مصدر الرزق، والقدرة على إعالة أنفسنا وأسرنا غالباً. لكن الأثر العاطفي قد يتعدى الضغوط المالية. فبالنسبة لكثير منا، يشكل العمل مصدراً للمعاني والعلاقات التي نثمنها، وعندما نفقد العمل غالباً ما نفقدها معه، ما يثير مشاعر الخزي والغضب والحزن على ترك أشخاص ومشاريع وأماكن منحناها كثيراً من أنفسنا. لكن ربما كان أكبر أثر لفقدان الوظيفة يقع على الهوية أو الإحساس بالذات، فالعمل يحتل جزءاً كبيراً من ساعات النهار إلى جانب أنه يمثل شعور المرء بهويته، خصوصاً عندما يكون العمل الذي يحب، أو عملاً بنته حياة مهنية امتدت على مدى أعوام كثيرة. ويمكن أن يؤدي فقدان هذه الهوية إلى تدميرنا.
وحتى في أيام الرخاء، يعتبر فقدان الوظيفة أحد الأحداث التي تتسبب بأشد الضغوط النفسية في الحياة، ويأتي بعد حالات الوفاة والصعوبات في العلاقة الزوجية والإصابة الشخصية بفارق ضئيل. وعدا عن انتشار حالات فقدان الوظائف، فإن ترافقها مع انتشار جائحة "كوفيد-19" والركود يؤثر بشدة على إحساس الإنسان بهويته، وذلك لأن بعض القطاعات لن تتعافى إطلاقاً، في حين ستعود قطاعات أخرى بأشكال جديدة. يبدو أن التباعد الاجتماعي سيستمر لأشهر عديدة بشكل أو بآخر، لذا فإن كثيراً من الموظفين الذين تم استبعادهم من العمل لن يتمكنوا من العودة إلى وظائفهم نفسها. وذلك ينطبق أيضاً على الموظفين في القطاعات التي لم تتأثر بغموض المستقبل، والجداول الزمنية المشوشة واقتصاد ما بعد الأزمة الذي سيجعل العثور على عمل جديد أمراً صعباً.
ولكن ثمة سبيل للمضي قدماً. ففي بحث أجريته على مدى 10 أعوام على موظفين أجبروا على ترك وظائف يحبونها ويهتمون بها بحق، سمعت منهم عن ردود أفعالهم العاطفية، ورأيت كثيراً ممن استطاعوا العثور على سبيل للنهوض مجدداً.
تحدث كثيرون ممن أجريت معهم مقابلات عن معاناتهم من أزمة هوية. فلنأخذ ثريا على سبيل المثال، وهي لاعبة كرة سلة تعرضت لإصابة أثرت على توازنها. قالت: "إنها خسارة بلا شك، لأنها جزء من هويتي... أحد الأمور التي عانيت منها هي عدم معرفة هويتي من دون قدرتي على أداء رياضتي المفضلة. من أنا؟ هل هذه هي الهوية التي أرغب فيها؟ هل يمكنني أن أكون شخصاً مهماً من دون القيام بما اعتدت القيام به؟ فقد تعودت على أن يكون هذا العمل جزءاً من حياتي". (تم تغيير أسماء المشاركين في البحث) أما مصطفى، فهو طيار في إحدى شركات الطيران التجارية أجبره توتره الشديد على التوقف عن التحليق، ووجد أنه يفتقد بشدة لجوانب عمله التي لم يكن يدري أنه يهتم بها. قال متأملاً: "لم أسع إطلاقاً لاكتساب الاحترام بسبب هذه الوظيفة، ولم أتعلق قط بالمركز أو المكانة. لكن الآن ومن دواعي السخرية، أشعر أني أفتقد هويتي تلك بعد أن توقفت عن هذا العمل".
وعلى الرغم من ذلك، فقد توصلت في بحثي إلى أن معظم الموظفين الذين يجبرون على مغادرة وظائفهم يتمكنون فعلاً من إنشاء مستقبل مفعم بالمعنى ومن الشعور برضا أكبر مما شعروا به من قبل. ويحدث ذلك عندما يتصالحون مع هوياتهم التي تعرضت للزعزعة ويبدؤون بالبحث عن فرص جديدة. وغالباً ما يؤدي ذلك إلى اكتشافهم جوانب من أنفسهم لم يعلموا بوجودها. ومع هذه الاكتشافات، تظهر طرق جديدة لفهم الشخص الذي سيتحولون إليه والعمل الذي سيمارسونه.
لا شك أن الانتقال من الصدمة والحزن على فقدان الوظيفة إلى الأمل بالفرص الجديدة يحتاج بعض الوقت والجهد والعزيمة. وعلى الرغم من أن الجائحة العالمية تتسبب بتحديات إضافية كتجميد التوظيف والعزل عن شبكات الدعم وحمل عبء مسؤوليات إضافية لتقديم الرعاية، فإنها توفر الوقت والحرية اللازمين للبدء بعملية التغيير الإيجابي والنمو.
وفي بحثي، توصلت إلى أن من استطاعوا إنشاء مستقبل جديد لأنفسهم انتقلوا عبر حزنهم ونموهم خلال ثلاث مراحل:
1. تنظيم المشاعر
من الصعب أن نفكر بوضوح عندما تغمرنا العواطف، وبوجود كثير من الأشياء التي تثير انفعالنا العاطفي. سواء كنت لا تطيق صبراً للعودة إلى عملك أو تواجه المجهول المرهق بسبب تغيير العمل، فإن تنظيم وضعك العاطفي هو خطوة أولى مهمة. وهذا يعني إدارة عواطفك كي تصبح أقل حدة، لكن من دون الوصول إلى درجة انعدام الإحساس.
يمكنك القيام بذلك عن طريق التحدث مع شخص يقدم لك الدعم، أو ممارسة اليقظة الذهنية أو القيام ببعض تمارين التنفس البطيء أو ممارسة تمارين جسدية. جميع هذه النشاطات قادرة على تخفيض مستويات الكورتيزول والأدرينالين التي تفرز في الدماغ عندما يعمل الجسم في مواجهة الخطر، وهو ما يحدث لدى كثير منا في هذه الفترة.
أما إذا كنت ممن يتعاملون مع الأخبار السيئة بلا مبالاة ويستمرون بشغل أنفسهم، قد يكون من المفيد أن تمنح نفسك فرصة للشعور بوضعك الجديد، وذلك يشمل الإقرار بالمشاعر التي تخفيها في داخلك. فالمشاعر التي نتجاهلها تستمر بتحريكنا من دون وعي منا.
2. ابدأ بفهم معنى ما حدث
عندما تصبح في موقع منظم عاطفياً أكثر، ستتمكن من معرفة ما حدث وسببه وما يعنيه بالنسبة لك. ويطلق علماء النفس على ذلك اسم عملية الفهم. تساعدك هذه العملية على استعادة شيء من السيطرة في وضعك الجديد، وخصوصاً إذا كان ما تتعرض له يحدث ضمن سياق أزمة أكبر.
يبين بحثي وجود أنواع محددة من الفهم تؤدي إلى مستقبل إيجابي ونمو شخصي أكبر، في حين تبقي أنواع أخرى الإنسان عالقاً في مكانه. وعندما يركز الإنسان على أخطائه والأمور التي سارت على نحو سيئ، ينشئ نسخة ناقصة عن هويته، وقد يواجه صعوبة في رؤية ما يتعدى هذه النسخة.
مثلاً، كان حسام عازفاً محترفاً على على آلة البيانو واضطر للتخلي عن حياته المهنية بعد تعرض ذراعه لإصابة لم تشف. وعلى الرغم من حبه لعمله، فإنه لم يتمكن من الاستمرار فيه بنفس الطريقة. غير أن موسيقاه كانت تتمتع بأهمية كبيرة بالنسبة له وكانت محورية بالنسبة لهويته لدرجة أعاقته عن التفكير بأي عمل آخر. حاول أن يعمل في التدريس، لكنه كان يتمنى دائماً لو تمكن من الاستمرار بالعزف. بقي انتباه حسام مركزاً على ما خسره، وأضاع فرصة فهم ما حدث وأسباب ذلك. واستمر في البحث عن علاجات ممكنة لإصابته والتساؤل عن سبب تعرضه لهذا الأمر المدمر على مدى أعوام. شعر أن هذه الإصابة قد حرمته من الحياة التي كان يجب أن يعيشها، ولم يتمكن من تصور مستقبل إيجابي.
بقيت عملية الفهم عند حسام عالقة عند أسئلة مستمرة تبحث عن تفسير لما حدث والتفكير على نحو مضاد للواقع بالأمور التي كان من الممكن أن تكون على نحو مختلف. كان يسأل نفسه أسئلة مثل: لماذا أنا؟ من المخطئ فيما حدث؟ ما الذي كان يجب أن أفعله أو ألا أفعله؟ كيف كانت حياتي ستكون لو لم يحدث ذلك؟ كيف يمكنني العودة إلى عملي القديم؟
يبين بحثي أيضاً أنه عندما يركز الإنسان على طريقة إعادة تشكيل العناصر التي كانت في التجارب السابقة وتوسيعها، يتمكن من بناء قاعدة للنمو بدلاً من محاصرة نفسه في الماضي. تمكن المشاركون في دراستي من القيام بعملية الفهم بطريقة سلطت الضوء على قيمة مهاراتهم وسماتهم الشخصية الملائمة لوظائف جديدة. كان ذلك أسهل بالنسبة لمن كانوا يبحثون عن أدوار مشابهة للأدوار الأخيرة التي كانوا يشغلونها، لكن ليس بالضرورة باتباع نفس سلسلة الخطوات السابقة. وعندما تمكنوا من إعادة صياغة ميزاتهم الشخصية والمهنية على أنها أدلة على فرصهم في الحصول على حياة مهنية مختلفة تماماً، ظهرت لهم فرص جديدة. على سبيل المثال، كان غيث صاحب الأسلوب الدمث ماهراً في بناء العلاقات، وانتقل من العمل في تنظيم الفعاليات إلى العمل كوكيل عقاري. ولارا، التي أدركت شغفها بأمور الصحة والجسم، تمكنت من الانتقال من العمل في مجال التدريب على الحياة إلى إدارة سلسلة دولية من المنتجعات الصحية الفاخرة.
3. جرب واندمج بالتدريج
عملية الفهم ليست مجرد طريقة تفكير. اكتشف كل من غيث ولارا مساريهما المهنيين الجديدين عن طريق إجراء سلسلة من التجارب الصغيرة، التي لم تكن متعمدة غالباً، وتمكنا عن طريقها من إنشاء حياة عمل جديدة بالتدريج. شملت هذه التجارب مساعدة أحد الأصدقاء أو تطوير هواية سابقة أو حضور خطاب ملهم أو الموافقة على وظيفة مؤقتة. ومع الاستمرار بالتفكير بهذه التجارب التي خاضاها من خلال الأنشطة الجديدة، أصبحا يعتبران انتقالهما الذي أرغما عليه "حافزاً" لتغيير كانا بحاجة إليه منذ زمن طويل، أو "هبة" فتحت لهما أبواب عالم جديد. بالإضافة إلى أن كلاً منهما شعر بأن هويته قد أثريت بدرجة كبيرة وازدادت قوة وتوسعت من خلال التجارب الصعبة التي مر كل منهما بها.
كان غيث ولارا يربطان العمل والهوية القديمين بالتفكير بما سيحصل تالياً في أغلب الأوقات. فطرحا على نفسيهما أسئلة مثل: هل ثمة أمر أضفته إلى تلك الوظيفة قد يكون مفيداً في المستقبل؟ ما هي الجوانب التي لم أستطع استخدامها من نفسي؟ ما هي الجوانب التي أود تطويرها في نفسي؟ كم بلغت درجة استمتاعي بالوظيفة؟ وإلى أي مدى كانت ملائمة لمطالبي واهتماماتي الأخرى؟ ما الذي أود أن يكون مختلفاً في وظيفتي القادمة؟
أخيراً، لسنا بحاجة إلى أزمة تدفعنا لتغيير وظائفنا أو مساراتنا المهنية أو نمط حياتنا. ومع ذلك، فبالنسبة لكثير من الأشخاص، يتمثل أحد أهم التحديات التي تواجه التغيير في تخصيص الوقت والمساحة الذهنية للتفكير فيه ومن ثم امتلاك الشجاعة للقيام بأول خطوة. ما يجعل فقدان الوظيفة مؤلماً جداً هو أنه أمر يرغمنا على التغيير. لذا، استجمع شجاعتك إذا استبعدت من عملك في هذه الفترة الصعبة غير المسبوقة، فقد تكون هذه فرصة غير متوقعة لإعادة النظر فيما تريده وفي هويتك، والبدء ببناء مسارك باتجاه وظيفة مفعمة بالحياة أكثر من التي خسرتها. وعن طريق التفكير بوضعك واتخاذ الخطوات بهدف رؤية ما سيوصلك إليه، ستتمكن من بناء رواية لحياتك المهنية ولنفسك تشكل انطلاقة لخطواتك التالية.