كثيراً ما يشتكي كبار المدراء التنفيذيين من معضلة التفكير الاستراتيجي في الإدارة ويقولون: "أنا أنفق كل وقتي في إدارة مسائل تافهة وإجرائية، وليس لدي الوقت الكافي لأتفرغ للقضايا الأكبر". ولكن حين أتوجه لأحد عملائي من هؤلاء المدراء وأسأله قائلاً: "لو أفرغت جدول أعمالك ليوم كامل لتكريس نفسك لمزيد من الأعمال "الاستراتيجية" فهل تعرف حقاً ما الذي ستفعله؟" عادة ما يكون الجواب أنهم لا يملكون أي فكرة عما سيفعلونه، وكل ما أتلقاه منهم هو هزة للكتف ونظرة شاردة.
يفترض البعض أن التفكير الإستراتيجي يعني تباحث "الأفكار الكبيرة" أو قراءة الأبحاث الأكاديمية حول توجهات عالم الأعمال. بينما يرى الآخرون أن مشاهدة محاضرات "TED" أو تلك المحاضرات التي يقدمها المتخصصون بعلم المستقبليات ستعزّز قدرتهم على التفكير الاستراتيجي.
لكن كيف يمكن الاستفادة من التفكير الاستراتيجي أصلاً إذا لم تكن لدينا صورة واضحة عن ماهيته؟
أجرينا دراسة طولية امتدت لعشر سنوات تابعنا فيها أكثر من 2,700 مدير تنفيذي جديد في مناصبهم، وتبين أن 67% منهم واجهوا صعوبات في التخلي عن مهام كانوا يؤدونها في مناصبهم السابقة. وقال أكثر من نصفهم (58%) إنه كان يُفترض بهم أن يعرفوا تفاصيل عن أعمال ومشاريع كانوا يظنون أنها من مسؤولية أشخاص من مستوى إداري أدنى، كما شعر أكثر من النصف منهم بأنهم يتخذون القرارات نيابة عنهم. يشير هذا إلى أن مسألة غياب القيادة الاستراتيجية مرتبطة حقاً بالتفكير.
اقرأ أيضاً: كيف تظهر مهاراتك في التفكير الاستراتيجي؟
وجد ريتش هورواث، المدير التنفيذي لمؤسسة "التفكير الاستراتيجي"، في بحث أجراه، أن 44% من المدراء قد يقضون معظم أوقاتهم يجادلون في بيئات عمل تعزز التفاعل مع العمليات وتثبّط ملكةَ التفكير التأملي. أشار جميع المدراء تقريباً (96%) إلى أنهم لم يجدوا وقتاً لممارسة التفكير الاستراتيجي، أيضاً لانشغالهم في إدارة الأزمات. ويظهر أن كلا الأمرين عرَضان من ورائهما قضية كبيرة. فقد اكتشفت بفضل خبرتي في مساعدة المدراء التنفيذيين في تحقيق النجاح في كبرى الشركات أن أفضل محتوى للتفكير الاستراتيجي المتميز يأتي من العمل نفسه.
كيفية تعزيز التفكير الاستراتيجي في الإدارة
فيما يلي 3 طرق عملية اتبعتها لمساعدة المدراء التنفيذيين في إجراء التحول اللازم على أدوارهم، ولامتلاك التركيز الاستراتيجي المناسب والمطلوب في مناصبهم الجديدة.
حدد المتطلبات الاستراتيجية في عملك
تعاملت مرة مع مديرة تنفيذية للعمليات عُيّنت في هذا المنصب الجديد في الشركة للإشراف على عمليات الدمج بين شركتي خدمات لوجستية بعد النجاح في الاستحواذ عليهما. ولأن هذه السيدة قد ترفعت عبر مناصب مختلفة في شركة مماثلة، فقد قضت معظم وقتها في معالجة المخاطر التشغيلية والتعامل مع شكاوى العملاء. كانت مهاراتها العالية في حل المشاكل كفيلة بجعل الشركة تعتمد عليها في اتخاذ القرارات السريعة لحل القضايا. سألتها مرة: "ماذا يريد الرئيس التنفيذي ومجلس الإدارة منك تحقيقه في هذا المنصب؟" أجابت بلا تردد: "أن أتخلص من التكاليف المضاعفة التي يسببها العمل الزائد غير الضروري وأجعل الشركة تعتمد على منصة تقنية واحدة لإدارة سلسلة التزويد". لقد كانت إجابتها المختصرة والواضحة مفاجئة لها حتى، وسرعان ما أدركت بعد ذلك مقدار بُعدها عن أداء المهام التي من شأنها تحقيق النتيجة المرجوة منها. بعد ذلك قسمنا مهمتها إلى 4 جوانب للتركيز عليها في الشركة، وأعدنا ترتيب فريقها بحيث يشتمل على مدراء من الشركتين السابقتين، وتأكدنا من أن جميع اجتماعاتها وقراراتها مرتبطة بالمهمة الموكلة إليها.
الأمر المزعج هو غموض العلاقة عند الكثير من المدراء التنفيذيين بين الدور المنوط بهم والمساهمة التي يجدر بهم تقديمها على المستوى الاستراتيجي. يقول الأستاذ ديفيد كوليس من كلية "هارفارد للأعمال"، وأنا أقتبس هنا من دراسة هوراث الذي أشرنا إليه سابقاً: "ثمة سر عجيب صغير سأقوله لكم: لا يملك معظم المدراء التنفيذيين القدرة على توضيح هدفهم بوضوح، ولا عن نطاق الدور الخاص بهم، ولا عن الإضافة التي يقدمونها لعملهم. وإن كان هؤلاء عاجزون عن ذلك فما بالك بالآخرين!". يشير هوراث أيضاً إلى بحث أجراه روجر مارتن وجد فيه أن 43% من المدراء لا يستطيعون تقديم فكرة واضحة عن استراتيجيتهم. وحري بالمدراء التنفيذيين الذين يفتقرون إلى استراتيجية واضحة السعي ل تحديد دورهم وأثره على مسيرة الشركة. ولعل التخلص من بعض العادات السلبية التي تمنعهم من استيعاب دورهم هو التحدي الأكبر الذي يجب التغلب عليه للوصول إلى التفكير الاستراتيجي.
اكتشف الأنماط للتركيز في استثمار المصادر
لا بد بعد تحديد طبيعة الدور الاستراتيجي للمدير، العمل على جمع المصادر للتركيز على أداء هذا الدور. يجد العديد من المدراء التنفيذيين الجدد أن الحجم الكبير من المصادر الذي بات تحت تصرفهم قد يترتب عليه آثار أكبر من أي شيء تعاملوا معه من قبل. يكون توجيه الميزانيات والأقسام لتحقيق هدف موحد أصعب عندما تكون ضخمة، خاصة، عندما يسود اتخاذ القرار المبني على ردود الفعل. وعادة ما تدفع المآزق المباشرة المدراء التنفيذيين لإرهاق موظفيهم وتبديد الأموال.
وهذا من الأعراض الشائعة التي تصيب المؤسّسة عند غياب النظرة الاستراتيجية. فعند غياب القاعدة السليمة من الحقائق والتصورات التي تساعد في وضع الأولويات، تصبح الأولوية للمشاكل الطارئة التي تثير الجلبة والفوضى. أما المدراء التنفيذيون أصحاب التفكير الستراتيجي المتميز، فيحسنون استخدام البيانات لتوليد تصورات جديدة عن كيفية تحقيق النجاح على مستوى الشركة والمجال الذي يعملون فيه. إن تفحص أنماط الأداء من وقت لآخر- من خلال معالجة البيانات المالية والتشغيلية وبيانات العملاء والشركات المنافسة- سيساعد في التوصل إلى نظرة كاشفة للفرص والمخاطر المستقبلية.
اقرأ أيضاً: 4 طرق لتحسين مهاراتك في التفكير الاستراتيجي
قد ترتبط كلمة "استبصار" بالتوصل للأفكار الخارقة أو بلحظات "الكشف" التي تتجلى للشخص فيها بعض الأفكار. إلا أن دراسة الأنماط الأساسية ضمن البيانات المتوفرة كفيل بتوفير رؤى بسيطة قادرة على تحديد ما يجعل الشركة تتميز عن سواها. وفي حالة المديرة التنفيذية في شركة سلسلة التزويد التي أسلفنا الحديث عنها، فإنها قد اكتشفت أنماطاً في البيانات المتوفرة لديها ساعدتها على تحديد أكثر الجوانب تنافسية في الشركة وتعزيزها، وأهمها تقديم المنتجات للزبائن بدقة ودون أي تأخير، وذلك بدل الاكتفاء بالاعتماد على خفض التكاليف العامة. كما حيدت الأنشطة التي لم تضف أي قيمة فعلية في الشركة وكان يمكن التخلي عنها، وانصبت جهودها في خفض النفقات على هذا الجانب. لقد كانت هذه المديرة قادرة على التقليل الكبير من النفقات مع الاستمرار في تحسين تجربة الزبائن.
يساعد هذا المستوى من التركيز المدير على امتلاك الثقة عند تخصيص الموارد المالية أو البشرية لتحقيق هدف معين، لأنه يعلم أن العمل يسير على الجانب الصحيح وأنه لا يتعامل فقط مع أفكار طارئة أو تفاصيل اجانبية تشتت من الجهود.
وسّع هامش الاختلاف لتعزيز التزام الموظّفين
يرتبط التفكير الاستراتيجي بالذكاء الاجتماعي بقدر ما يرتبط بالذكاء الفكري، فلا يمكن للمدير التنفيذي الاعتماد على عبقريته الاستراتيجية وحدها، بل يحتاج لمن حوله لترجمة الرؤى الإستراتيجية إلى خيارات يترتب عليها نتائج ملموسة. وليلتزم الموظفون بتنفيذ توجيهات المدير الاستراتيجية، يجب عليهم فهمها والاقتناع بها.
قد يبدو هذا الأمر سهلاً في الظاهر، ولكنه ليس كذلك مطلقاً. فقد أظهرت إحدى الدراسات أن 14% من الموظفين قد فهموا استراتيجية الشركة التي يعملون فيها، وشعر 24% فقط أن الاستراتيجية في الشركة ترتبط بمسؤولياتهم الفردية. ويفترض الكثير من المدراء التنفيذيين أن التفسيرات التي يقدمها مراراً وتكراراً في عروضه التقديمية تزيد من فهم الاستراتيجية بين الموظفين ومستوى اقتناعهم بها.
لكن الأمر بخلاف ذلك، يزداد مستوى التزام الموظف عندما يكون هو المتكلم أيضاً لا المدير فقط. عملت في إحدى المرات مع مدير تنفيذي اعتاد على عرض أفكاره الاستراتيجية على فريق عمله والطلب منهم بوضوح أن يتجادلوا حولها ليثبتوا صحة أفكاره أو خطأها. وفي نهاية جلسة النقاش تتكشف الافتراضات المغلوطة ويحل مكانها الفهم المشترك، والأفكار التي أسهم الجميع في تطويرها، وتصبح ملكية النجاح مشاعاً بين فريق العمل بأكمله.
لا يجب أن يظل التفكير الاستراتيجي السليم لغزاً لا يعرف كهنه سوى عدد محدود من الأشخاص في الشركة. كما لا يمكن التشبث بحجة عدم توفر الوقت الكافي لذلك، يجب أن يتوقف المدراء التنفيذيين عن الانشغال بالمسائل اليومية وأن يفعلوا ما يلزم لكي يتماشى عملهم مع استراتيجية الشركة. ويحتاج المدير التنفيذي إلى التسلح بالرؤى التي تساعده على تحديد أفضل طريقة لتوجيه المصادر المتوفرة لديه. كما يلزمه بناء بيئة داعمة وذلك عبر إتاحة المجال للفريق المعني بالتنفيذ بالاختلاف مع أفكاره الاستراتيجية ودعوتهم لاقتراح التحسينات عليها. هذه الخطوات الثلاثة سترفع من سوية المدراء التنفيذيين ليصلوا إلى العمل الاستراتيجي المناسب للمستقبل، وإفساح المجال لموظفيهم لإدارة الأنشطة التشغيلية اليومية من أجل التفكير الاستراتيجي في الإدارة.