تخيل أنك تعرف أسلوباً تفاوضياً يمكن أن يزيد مكاسبك بنسبة 20%، ويستغرق التحضير له أقل من 3 دقائق، ولا يستغرق تنفيذه سوى بضع ثوانٍ. هذا الأسلوب الفعال ليس لغزاً ولا استراتيجية معقدة ابتكرها خبراء التخطيط سراً، إنه أسلوب يعتمد على طرح الأسئلة المفتوحة فقط. ومن المثير للدهشة أن أبحاثنا كشفت أن الأسئلة المفتوحة تشكل أقل من 10% من حوارات معظم المفاوضين، وهي مشكلة لأي شخص يأمل في التفاوض بفعالية.
يرى خبراء التفاوض أن سر النجاح يكمن في تحقيق التوازن بين الاستفسار (طرح الأسئلة) والمحاججة (الإقناع). لكن حتى الآن، من المستحيل تقريباً تحديد المزيج المثالي باستخدام بيانات موثّقة. يقربنا بحثنا من فهم سر التفاوض الناجح بفضل التطورات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغة الطبيعية.
من خلال تحليل أكثر من 60,000 مقطع حواري من مئات جلسات التفاوض، اكتشفنا حقيقة يمكن أن نصفها بالسهل الممتنع، وهي أنه كلما زاد عدد الأسئلة المفتوحة التي يطرحها المفاوض، زادت المكاسب المالية التي يحققها. اكتشفنا أيضاً اختلافات مثيرة للاهتمام في فعالية أنواع معينة من الأسئلة. على سبيل المثال، هل يختلف السؤال "لماذا هذا الموعد النهائي مهم بالنسبة لك؟" من الناحية النفسية وهل هو أفضل من السؤال "ما مدى أهمية هذا الموعد النهائي بالنسبة لك" أو "كيف يؤثر هذا الموعد النهائي في عملك؟". تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أن صياغة أسئلتك يمكن أن تؤثر بشدة في الردود التي تتلقاها والنتائج التي تحققها.
نستعرض في هذا المقال كيف يؤدي طرح الأسئلة المفتوحة إلى تغيير نتائج مفاوضاتك، سواء كنت تتفاوض على صفقة عمل أو زيادة في الراتب، أم تحاول إقناع طفل صغير بإنهاء طعامه، فإن فهم قوة طرح الأسئلة يمنحك ميزة كبيرة.
الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لفهم السلوكيات الدقيقة في التفاوض
طوّر فريقنا خوارزميات لتحليل مئات الساعات من تسجيلات المفاوضات التي أجراها خريجو ماجستير إدارة الأعمال ومسؤولون تنفيذيون من جميع أنحاء العالم. فحصنا بدقة سلوكيات التواصل للكشف عن عوامل النجاح على طاولة المفاوضات.
من بين العوامل التي أخذناها في الحسبان -مثل من قدم العرض أولاً، وكم مرة ابتسم المفاوض، وسرعة حديثه، وعدد مرات مقاطعته للطرف الآخر، وتصرفه بحزم أو بأدب أو بلطف- كان أكبر مؤشر على نجاح المفاوض هو عدد الأسئلة المفتوحة التي طرحها. ومن اللافت للنظر أنه لا يوجد حد أعلى لفوائد طرح الأسئلة، فكلما زادت الأسئلة المفتوحة زادت المكاسب. والأكثر إثارة للدهشة أن معظم المفاوضين لم يطرحوا أسئلة كافية، إذ احتوى أقل من 10% من المقاطع التي تضم نقطة تحول في مجرى الحديث على سؤال مفتوح، وذلك خطأ استراتيجي مكلف.
وعند التعمق في فائدة الأسئلة، وجدنا أن الأسئلة المفتوحة تحفّز ردوداً أطول بالضعف تقريباً، ومعلومات أكثر بمرتين مقارنة بالأسئلة المغلقة أو الجمل العادية. وهذه الزيادة في المعلومات منحت المفاوضين فهماً أفضل لمواقف نظرائهم ومصالحهم والقيود التي يواجهونها، ما أدى إلى تقديم مقترحات أكثر فعالية، وفي نهاية المطاف إلى نتائج أفضل. والجدير بالذكر أن طرح الأسئلة المغلقة لم يؤدِّ إلى تحقيق مكاسب أفضل.
ولإثبات النتائج التي توصلنا إليها، أجرينا تجربة منضبطة أدى المشاركون فيها دور صاحب عمل أو مدير عقار للتفاوض على شروط عقد إيجار تجاري لحيز مكتبي في لندن. حددنا للمفاوضين أهدافاً سرية وجرت مكافأتهم بناءً على مدى نجاحهم في تحقيقها. إذ كان مطلوباً ممن يؤدي دور صاحب العمل الحصول على 4 مواقف للسيارات وشبكة الألياف الضوئية لخدمة الإنترنت والانتقال إلى العقار بعد 3 أشهر. بينما كان مطلوباً ممن يؤدي دور مدير العقار أن يُقنع المستأجر (صاحب العمل) بشغل العقار بعد أسبوع مع الإبقاء على كبلات الإنترنت القديمة الحالية، وعدم توفير مواقف للسيارات.
وزعنا المشاركين الذين يؤدون دور صاحب العمل عشوائياً على مجموعتين، أعدوا في الأولى 3 أسئلة مفتوحة، وفي الأخرى (مجموعة التحكم) أعدوا 3 عبارات عادية. ولم يكن المشاركون الذين يؤدون دور مدير العقار مدركين أن مفاوضيهم سيطرحون عليهم أسئلة.
لاحظنا اختلافات عميقة في النتائج بناءً على طريقة المفاوضين في صياغة أسئلتهم. لنلق نظرة على محادثتين مختلفتين من المشاركين في التجربة:
في المحادثة الأولى، استخدمت جودي التي تؤدي دور صاحب العمل بمهارة أسئلة مفتوحة لمعرفة مركز اهتمام كمال، الذي يؤدي دور مدير العقار. بدأت بسؤاله: "أي من القضايا الثلاث هي الأهم بالنسبة لك؟ وقد كشف ذلك على الفور أن كمالاً كان يركز اهتمامه على موعد شغل العقار القريب. استغلت جودي هذه المعلومة واقترحت مقايضة، تفيد بأنها ستفكر في الانتقال إليه في أقرب وقت ممكن إذا منحها 4 مواقف للسيارات.
عرض كمال، الحريص على إتمام الصفقة، 3 مواقف للسيارات. وبدلاً من المساومة، انتقلت جودي إلى سؤال آخر: "ما خدمة الإنترنت التي تنوي تقديمها؟" دفع ذلك كمالاً إلى تحسين الصفقة بعرض استبدال كابلات الإنترنت القديمة بكابلات الألياف الضوئية، وهو ما يعد مكسباً لجودي. ومع ذلك، أصر كمال على تقديم 3 مواقف فقط. وبدلاً من الرد مباشرة، طرحت جودي سؤالاً آخر: "ما أهمية تاريخ الانتقال إلى العقار بالنسبة لك؟" وهذا ما دفع كمالاً إلى التشديد على أولوية موعد الانتقال بالنسبة له. بعد أن استشعرت جودي اللحظة المناسبة، قدمت عرضها الأخير، وقالت إنها ستوافق على الانتقال الأسبوع المقبل مقابل الحصول على إنترنت من الدرجة الأولى ومواقف السيارات الأربعة. وقد أدى ذلك إلى نجاح الصفقة، وتلبية جميع أهدافها تقريباً (وتلبية احتياجات كمال أيضاً).
في المقابل، دعنا نتتبع محادثة بين أحمد، الذي يؤدي دور صاحب العمل، وفادي، الذي يؤدي دور مدير العقار. بدأ أحمد بسؤال مغلق: " أريد الانتقال بعد 3 أشهر، هل لديك مكان متاح للتأجير؟" سمح ذلك لفادي، مدير العقار، بإعطاء إجابة قصيرة ومقتضبة ("نعم") ثم تولى السيطرة على المحادثة. عرض فادي موقفاً واحداً للسيارات وكبلات الإنترنت القديمة الحالية إذا التزم بالجدول الزمني المحدد بثلاثة أشهر، أو موقفين إذا كان بإمكان أحمد الانتقال في وقت أقرب.
وبدلاً من المتابعة بنفس الموضوع، تابع أحمد بسؤال مغلق آخر: "هل هناك إمكانية لتركيب ألياف ضوئية للاتصال بالإنترنت مستقبلاً؟" وهذا ما دفع فادي للقبول ولكن مع توفير موقفي سيارات فقط في حال انتقل أحمد الأسبوع المقبل. وعندها ردّ أحمد بسؤال مغلق آخر: "هل توافق على الانتقال إلى العقار بعد شهر واحد؟" فعاد فادي إلى عرض كبلات الإنترنت القديمة وموقف واحد فقط للسيارات.
لم يستنتج أحمد من أسئلته المغلقة سوى القليل من المعلومات عن أولويات فادي، فقدم مقترحات غير مستندة إلى معلومات كافية. في النهاية، لم يحصل كل من أحمد وفادي على أي شيء تقريباً مما أراداه، ما يسلط الضوء على أن غياب الأسئلة الجيدة يفضي إلى نتائج سيئة لجميع الأطراف.
توضح هذه الأمثلة النتائج الأوسع نطاقاً التي توصلنا إليها، إذ حقق المفاوضون في مجموعة الأسئلة المفتوحة مكاسب شخصية أعلى بنسبة تزيد على 20% من مكاسب مفاوضي مجموعة التحكم. والأهم من ذلك أن هذه المكاسب لم تأتِ على حساب الطرف الآخر، بل أفضت إلى اتفاقات أفضل اكتشف فيها الطرفان حلولاً مفيدة مشتركة.
أنواع مختلفة من الأسئلة المفتوحة
من الأفضل أن تبدأ بطرح المزيد من الأسئلة المفتوحة، ولكن ليست كل الأسئلة المفتوحة متماثلة. يمكن لنوع السؤال المفتوح الذي تطرحه أن يحدد أسلوب الجواب ومحتواه، وكذلك نجاح المفاوضات عموماً. لدراسة أنواع الأسئلة عملياً، لنلق نظرة على حالتي ليلى وسمر، وهما صاحبتا عمل في تجربة التفاوض التي أجريناها، حيث تتفاوض كل منهما على تاريخ الانتقال مع مدير عقار مختلف.
سألت ليلى: "لماذا تريدني أن أنتقل الأسبوع المقبل؟" أجابها مدير العقار: "لدي مستأجرون آخرون يجب أن أتعامل معهم، وإذا تأخرت، فسوف يربك ذلك جدول مواعيدي بأكمله. لقد بذلت قصارى جهدي لأحصل لك على المكان المطلوب، ولكن الموعد غير قابل للتفاوض". كشف سؤال ليلى عن الأهمية القصوى لموعد الانتقال بالنسبة لمالك العقار (العبارات المائلة)، لكن الرد حمل أيضاً بعض الاستياء (العبارات بالخط العريض).
ومن ناحية أخرى، سألت سمر: "كيف سيساعدك الانتقال في الأسبوع المقبل في عملك؟ فأجابها مدير العقار: "سيكون الانتقال في الأسبوع القادم أمراً رائعاً بالنسبة لنا، فهو يحافظ على خطة التأجير الخاصة بنا في الموعد المحدد ويساعدني على التنسيق على نحو أفضل مع المستأجرين الآخرين". وفي حين أنه لم يكن من الواضح أن تاريخ الانتقال هو أكثر ما يشغل بال المالك، كانت اللهجة أكثر هدوءاً وتعاوناً.
كما هو موضح في هذه الأمثلة، قمنا بتحليل أجوبة أكثر من 4,500 سؤال مفتوح من المفاوضين وردود الفعل التي أثارتها. استخرجت نماذجنا اللغوية المعلومات المهمة (بخط مائل) والنبرة العاطفية (بخط عريض) من الردود. ووجدنا أن طرح أسئلة "لماذا" يؤدي في كثير من الأحيان إلى الحصول على أجوبة أطول وأكثر تفصيلاً، ما يكشف عن معلومات مفيدة لكنه يؤدي أيضاً إلى المزيد من المشاعر السلبية. وفي المقابل، كانت أسئلة "كيف" تميل إلى توليد مشاعر إيجابية لكن إجاباتها أقل تفصيلاً. تقع الأسئلة التي تبدأ بـ "ماذا" في المنتصف، وتوفر توازناً بين جمع المعلومات والحفاظ على لهجة محايدة أو إيجابية.
نصائح للمفاوضين
يقدم بحثنا دليلاً مقنعاً على أن قدرة المفاوضين على تحقيق نتائج ستكون أفضل بكثير عندما يضعون المزيد من الأسئلة المفتوحة في حوارهم التفاوضي. إليك بعض النصائح العملية للاستفادة من هذه الاستراتيجية:
1. حضّر الأسئلة المفتوحة مسبقاً.
قبل الدخول في المفاوضات، خصص بعض الوقت لكتابة ما بين 3 و5 أسئلة مفتوحة يمكنك طرحها للكشف عن معلومات قيّمة حول احتياجات الطرف الآخر والقيود التي يواجهها. من الأمثلة على الأسئلة الفعّالة: "لمَ هذه القضية مهمة بالنسبة لك؟" و"ما هو التحدي الأكبر الذي تواجهه؟" و"ما الذي يهمك في هذه القضية؟" و"كيف يمكننا المضي قدماً؟".
2. حوّل الأسئلة المغلقة إلى أسئلة مفتوحة.
حوّل أسئلتك المغلقة المعتادة إلى أسئلة مفتوحة فعالة. على سبيل المثال، بدلاً من أن تسأل "هل هذا هو عرضك النهائي؟" حاول أن تسأل "ما هي العوامل التي تؤثر في عرضك النهائي؟" وبدلاً من أن تسأل: "هل تحتاج إلى إنجاز هذه المهمة بحلول يوم الجمعة؟" اسأل: "لماذا تحتاج إلى إنجازها بهذه السرعة؟ ثم استخدم الإجابات الأكثر إفادة لصياغة مقترحات مقنعة.
3. وازن بين الاستفسار وبناء العلاقات.
من الممكن أن تكتشف بأسلوب متقن اهتمامات من تفاوضه والقيود التي يواجهها، ولكن من غير المرجح أن تحصل على امتيازات إضافية إن لم يرتاح لك. احرص على أن توازن بين أسئلة "لماذا" و"ماذا" و"كيف" بطريقة استراتيجية خلال المحادثة لجمع معلومات متعمقة وبناء علاقة جيدة والحفاظ عليها.
التفاوض مهارة قيادية أساسية نستخدمها في حياتنا اليومية، فهي تؤثر في كل مناحي حياتنا مثل الأسعار التي ندفعها والرواتب التي نتقاضاها، وحتى عندما نختار من يُقلّ أطفالنا إلى المدرسة. غالباً ما يغفل الناس استراتيجية بسيطة لتحقيق نتائج أفضل، وهي طرح المزيد من الأسئلة المفتوحة، إذ إنها استراتيجية سهلة للغاية لا تحتاج إلا لبضع دقائق فقط للتفكير في الأسئلة التي ستطرحها قبل بدء التفاوض.
تشير الأبحاث السابقة إلى أننا نخجل من طرح الأسئلة خوفاً من الظهور بمظهر العاجز أو لأننا نبالغ في تقدير قدراتنا الإقناعية. لا شك في أن الحزم ضروري على طاولة المفاوضات، ومع ذلك، يكشف بحثنا الدقيق في محادثات التفاوض عن خلل كبير في الطرق الطبيعية التي يسعى الناس من خلالها للتأثير والتعلم، إذ يقضي معظمنا وقته في عرض مواقفه والدفاع عنها دون أن يسأل بما فيه الكفاية عن الطرف الآخر ليعرف ما يريده ولماذا يريده.
من خلال إعداد مزيج من أسئلة "لماذا" و"ماذا" و"كيف" في مفاوضاتنا، يمكننا الكشف عن معلومات قيّمة وبناء علاقات أقوى وتحقيق نتائج أفضل. لذا، في المرة القادمة التي تجلس فيها على طاولة المفاوضات، تذكر: قلل عروضك وزد أسئلتك. قد تندهش من مقدار ما ستتعلمه وما ستكسبه نتيجة لذلك.