من الطبيعي أن نلجأ إلى التفاوض في حياتنا اليومية، سواء كنا نقوم بعملية شراء، أو نعمل على مشروع مشترك، أو نناقش الترقية التالية مع الإدارة. في الواقع، ينطوي كل تفاعل نقوم به أساساً على عملية تفاوض، مثل إقناع الآخرين بالموافقة على النتيجة التي نريدها. ولكن ما هي سلبيات اللطف في التفاوض؟ وما هي أفضل طريقة لإقناع الآخرين؟ هل يجب أن نكون أكثر لطفاً أم أكثر صرامة؟ أكثر وداً أم أكثر تحفظاً؟ قد توفر أبحاثنا الحديثة الإجابة عن ذلك.
اللطف في عملية التفاوض
أكّد خبراء التفاوض منذ فترة طويلة أن اللطف والود في النقاش يؤتي ثماره على طاولة المفاوضات، فهو يُفضي إلى كسب تنازلات والحصول على جزء أكبر من القيمة. وقد أوضحت مقالة صدرت مؤخراً عن مجلة هارفارد بزنس ريفيو بعنوان "كيف تفاوض بلطف دون أن تكون لقمة سائغة؟" هذه النقطة، كما أوضحها كتاب الوكيل الرياضي الأسطوري رونالد شابيرو بعنوان "قوة اللطف: كيف تفاوض بحيث يفوز الجميع، وخاصة أنت" (The Power of Nice: How to Negotiate So Everyone Wins—Especially You!).
ووجدنا في بحثنا أن الأفراد يميلون إلى الاعتقاد أن اللطف سيمكّنهم من الفوز بصفقات أفضل، بيد أننا استنتجنا أن هذا الاعتقاد خاطئ عندما وضعناه موضع الاختبار.
قيّمنا الآثار الاقتصادية والشخصية لاتباع أسلوب اللطف والود في المفاوضات عبر أربع تجارب شارك فيها أكثر من 1,500 فرد. وتقصّينا آثار أسلوب التواصل بشكل مستقل عن اقتصادات الصفقة. وعلى الرغم من أن المصالح الاقتصادية قد تؤثر على طريقة التواصل، إلا أننا أردنا تحديد الآثار الحقيقية لأساليب التواصل، بدلاً من الخلط بينها وبين العوامل ذات الصلة بالاقتصاد، مثل تقديم عرض أكثر ربحاً. لذلك، نوّعنا أساليب تواصل المشاركين بين أسلوب اللطف والود من جهة، وأسلوب الحزم والصرامة من جهة أخرى. وطلبنا منهم تقديم عروض أولية متطابقة، وتتبعنا أنماط التنازلات. وبسّطنا العملية من خلال جعلهم يشاركون في مفاوضات حول قضية واحدة، وهو ما يُدعى بالتفاوض التوزيعي الذي ينطوي على التفاوض على سعر عنصر معين. وتختلف هذه المفاوضات عن المفاوضات متعددة القضايا التي تُدعى بالتفاوض التكاملي والتي لا تنطوي على قيمة ثابتة، وإنما تتيح توسيع حصة الأرباح.
انطوت إحدى دراساتنا على تجربة ميدانية عبر موقع "كريج ليست" (Craigslist.com)، حيث عادة ما تكون المفاوضات على الأسعار في هذا الموقع شائعة. كان لدينا مساعد بحوث يستخدم اسماً محايداً من حيث النوع الاجتماعي، "جود الحصري"، ويرسل رسائل من حساب بريد إلكتروني وهمي إلى البائعين الفعليين للهواتف الذكية على المنصة. نوّعنا أسلوب التواصل لدى "جود" بشكل عشوائي في الرسالة الأولية، لكن جود طلب في كل الرسائل تخفيضاً بقيمة 80% من السعر الأصلي للبائعين. وتتبعنا ما إذا كان البائعون على استعداد لتقديم عرض مضاد أقل من سعرهم الأصلي، وقيّمنا مقدار هذا التخفيض.
الود في التفاوض مقابل الحزم
وكتبنا نماذج الرسائل التي تستخدم اللغة اللطيفة والودية والأخرى التي تنطوي على الحزم والصرامة. وكتبنا ثلاث رسائل ودية مختلفة وثلاث رسائل حازمة مختلفة للتأكد من أن النتائج التي توصلنا إليها كانت نتيجة الاختلافات في أسلوب التواصل، وليس نتيجة الصياغة المحددة لرسالة معينة. على سبيل المثال، تضمنت إحدى الرسائل اللطيفة ما يلي:
مرحباً، أسعدتني رؤية منشورك حول الهاتف. يطابق جهاز الآيفون هذا ما أردت شراءه، لا بدّ من أن لديك ذوق رفيع. هل يوجد أي فرصة لأحصل على تخفيض بمقدار 80% من السعر المقرر؟ سأقدّر ذلك حقاً بالنظر إلى أسعار الهواتف المماثلة المعروضة للبيع حالياً، وسأكون ممتنة لك للغاية! أنا أقطن في المنطقة نفسها، ويمكنني لقاؤك في أي مكان مناسب لك. من فضلك إعلامي ما إذا كان السعر مناسباً لك بحلول يوم غد، وأشكرك جزيل الشكر على ما بذلته من وقت وجهد. أتمنى لك يوماً رائعاً، مع خالص التقدير، جود.
في حين تضمنت إحدى الرسائل الحازمة:
رأيت منشورك بخصوص الهاتف! يطابق جهاز الآيفون هذا ما أردت شراءه. أنا على استعداد لدفع 80% أقل من السعر المقرر. ولا يوجد مجال للتفاوض حول هذا السعر بالنظر إلى أسعار الهواتف المماثلة المعروضة للبيع. أنا أقطن في المنطقة نفسها، ويمكنني لقاؤك أينما كنت. أخبرني إذا كان السعر مناسباً لك بحلول يوم غد، أو أنني سأواصل البحث عن جهاز آخر، جود.
تواصل جود مع 775 بائعاً عبر البريد الإلكتروني، حيث أرسل رسائل ودية إلى نصفهم، ورسائل حازمة إلى النصف الآخر. وأوقفنا المفاوضات بعد هذه الرسالة الأولى لكي لا نلحق الضرر بفرص البائعين في عقد صفقة مع مشتري حقيقي. وعند تلقينا أي رد، أجبنا البائع على الفور قائلين، "شكراً لك على رسالتك، لكنني قررت شراء هاتف مختلف".
لقد وجدنا أنه من المحتمل أن تُفضي الرسائل اللطيفة والودية إلى عرض مضاد مثل الرسائل الحازمة والصارمة، حيث بلغت النسبة نحو 31% في كلتا الحالتين. لكن في حين حصلت الرسائل الحازمة على رفض قاطع أو رفض صريح بنسبة 24% مقارنة بالرسائل اللطيفة بنسبة 14%، كانت الرسائل اللطيفة أكثر احتمالاً أن يجري تجاهلها تماماً بنسبة 54% مقارنة بالرسائل الحازمة بنسبة 45%. ومن الأفضل في هذا النوع من المفاوضات عبر الإنترنت الحصول على رفض قاطع من مجرد التجاهل، لأن الرفض سينطوي على رد يتيح لك محاولة التفاوض على السعر.
كان التخفيض الذي قدّمه البائعون أكبر عندما كانت رسالة جود حازمة وصارمة. حيث كان البائعون أكثر استعداداً لقبول عرض التخفيض بمقدار 80% عندما جاء من مشتري حازم (نحو 13%) مقارنة بمشتري ودود (أقل من 9%). ونظراً إلى أن متوسط سعر الهاتف في عيّنتنا كان 435 دولاراً، فإن هذه النتائج تعني أن الطلبات الحازمة والصارمة حققت وفورات أكبر بمقدار 35 دولاراً لكل هاتف مقارنة بالطلبات اللطيفة والودية.
يبدو أن الحزم قد يقود في بعض الأحيان إلى صفقات أفضل أكثر من اللطف، على الأقل في التفاوض التوزيعي.
ثم أجرينا دراسة مختبرية حتى نتمكن من مراقبة عملية التفاوض بأكملها، وليس فقط العرض الأول والعرض المضاد. وأحضرنا 140 مشاركاً إلى المختبر وجمعناهم للتفاوض معاً بشكل مجهول عبر الإنترنت. وطُلب من بعضهم تأدية دور المشترين، في حين طُلب من الآخرين تأدية دور البائعين بشكل عشوائي، وقمنا بتحفيزهم بهدف تحقيق أفضل صفقة شراء لوعاء. وطُلب من المشترين تقديم العروض الأولى نفسها واستخدام أساليب تواصل مختلفة.
على سبيل المثال، كتب أحد المشاركين الذي طُلب منه أن يكون لطيفاً:
مرحباً! كنت أنظر إلى وعاء السكر الجميل هذا، وأرغب بشدة في شرائه بهدف أن أُكمل مجموعة الأواني لدي. إنها آخر قطعة أحتاج إليها لاستكمال المجموعة التي يستخدمها قريب عزيز علي عندما نقضي بعض الوقت معاً، وشراؤه سيعني لي الكثير، لكن ليس لدي الكثير لأقدمه، يمكنني عرض مبلغ 250 دولاراً إذا كان ذلك يناسبك. في انتظار ردك!
على النقيض من ذلك، كتب أحد المشاركين الذي طُلب منه أن يكون حازماً:
مرحباً! أريد شراء وعاء السكر منك، وأستطيع أن أقدم لك 250 دولاراً فقط. هل اتفقنا؟
كان لأساليب التواصل هذه تأثير كبير على نجاحهم. وانتهى الأمر بالمفاوضين الودودين بدفع مبالغ أكثر بنسبة 15% لنفس القطعة مقارنة بالمفاوضين الصارمين والحازمين. وذلك لأن البائعين قدموا عرضاً مضاداً أولياً أكثر حدة وكسبوا المزيد من التنازلات من المشترين الودودين خلال المفاوضات التي استمرت 10 دقائق.
استمتع المشترون الحازمون بالتفاوض بقدر ما تمتع به المشترون الودودون، لكنهم كانوا أكثر ارتياحاً بنتائجهم. ولا يبدو أن البائعين اهتموا بالنهج الأكثر حزماً، إذ إنهم استمتعوا بالتفاوض مع كلا النوعين من المشترين على قدم المساواة. وبالتالي، لا يبدو أن المشترين يستفيدون اقتصادياً أو شخصياً أو اجتماعياً من أسلوب لطيف وودود. لم لا؟ تشير نتائجنا من تحليل نصوص المفاوضات إلى أن البائعين كانوا ينظرون إلى نظرائهم الودودين على أنهم يمتلكون قدرة أقل في الهيمنة، وربما اعتقدوا أن بإمكانهم الحصول على تنازلات أكبر منهم. وبالنسبة إلى سبب عدم تمتع البائعين بالتفاوض مع المشترين الودودين بدرجة أكثر من المشترين الحازمين، نتوقع أن السبب يكمن في استغراق هذه المفاوضات وقتاً أطول، أو أنها قد تركت البائع يشعر بالذنب.
وخلافاً للنصيحة الشائعة، يبدو أن أسلوب التواصل اللطيف والودود يعيقنا في الواقع في هذا النوع من التفاوض العقيم حول السعر. ولكن سيكون من المهم تقصّي تأثير الأسلوب على المفاوضات التكاملية. إذ قد يكون اللطف أكثر فعالية عند توسيع الحصة مقابل توزيعها. ويجب أن تتناول الأبحاث المستقبلية أيضاً ما إذا كان النوع الاجتماعي والتوقيت يؤثران في كيفية تلقي أسلوب التواصل والاستجابة. على سبيل المثال، قد يساعدك افتتاح مفاوضات بموقف صارم وحازم وإنهاءها بموقف ودي على كسب نتيجة أفضل مع الحفاظ على الصداقة الحميمة.
وعلى الرغم من أن النتائج التي توصلنا إليها تسلّط الضوء على التكاليف الاقتصادية الواضحة لممارسة "اللطف والود" ، إلا أنها لا تعني ضمناً أنه يجب على الجميع أن يصبحوا حمقى. وتُعتبر جميع المفاوضات بمثابة مزيج من خلق القيمة والمطالبة بها بهدف جعل الحصة الشاملة أكبر وتأمين جزء منها لأنفسنا.
ويجب أن يدرك المفاوضون أن سلبيات اللطف في التفاوض كثيرة وقد يزيد اللطف من صعوبة المطالبة بالكثير من القيمة، لاسيما في سياق تنافسي محض. ومع ذلك، قد يستحق هذا السعر إنفاق أموالنا عليه في بعض الأحيان. على سبيل المثال، إذا كنت تتفاوض مع زميل أقدم حول تقاسم مشروع تافه، فقد يكون من المفيد أن تُهزم على المدى القصير في سبيل الحفاظ على العلاقة على المدى الطويل. ويجب أن يتحمل المفاوضون تلك العواقب عن وعي وعن قصد، بدلاً من التمسك بافتراض أن التساهل سوف يدفع الآخرين إلى رد الجميل.
اقرأ أيضاً: