4 مجالات في إدارة الشركات سيُحدث فيها الذكاء الاصطناعي تغييراً جذرياً

7 دقيقة
التعميمات
مصدر الصورة: بي إم إميدجيز/ غيتي إميدجيز

ملخص: لطالما اعتمد البشر على التعميمات بوصفها أسلوباً يختزل العمليات الذهنية، وبوصفها طريقة لإدارة الأعمال بكفاءة. لكن مثلما تتيح التطورات الجديدة التي يشهدها الذكاء الاصطناعي إمكانية الانتقال من الاعتماد على مجموعة صغيرة من الشخصيات التي تمثل العملاء (قوالب نمطية لشخصيات العملاء) إلى القدرة على تقديم عدد هائل من المنتجات والرسائل المخصصة، فهي تكشف لنا أيضاً عن عالم أوسع من التفاصيل الفريدة والمتغيرة باستمرار. يبين لنا فيلسوف التكنولوجيا، واينبرغر، والمخطط الاستراتيجي في مجال الابتكار في الأعمال، زانيني، أربعة مجالات برزت فيها أهمية الجزئيات وفائدة استخدامها في الأعمال والحياة: الاستراتيجية، وإدارة المواهب، واختيار القيادات، وإدارة سلاسل التوريد. إن قادة الأعمال الذين يدركون هذا التوجه هم الأقدر على رؤية الفرص الجديدة واتخاذ القرارات الأفضل في هذه المجالات جميعاً.

نردد على الدوام أن كل شخص فريد من نوعه، غير أننا حين نواجه كمية أكبر مما نستطيع التعامل معه من المواصفات والتفاصيل والخصوصيات المتعلقة بشخص معين؛ نستبعد ما هو فريد ونتعامل مع التعميمات من خلال الفرز ضمن مجموعات واستخدام القوالب النمطية وما شابه. على سبيل المثال، تصمم الشركات الحملات الإعلانية بحيث تتوافق مع قطاعات الأسواق، أو تنشئ عدداً من الشخصيات التي تمثل العملاء، قد تكون 3 أو 10 شخصيات، أو حتى 50 شخصية!

لطالما اعتمد البشر على تعميمات كهذه منذ فترة طويلة، لكننا أصبحنا جاهزين لتحقيق نقلة نوعية أخيراً. لنفكر فيما يحدث عندما يستخدم الذكاء الاصطناعي تفاعلات أحد العملاء السابقة مع موقع شركتك الإلكتروني من أجل تخصيص توصيات المنتجات التي يعرضها؛ في هذه الحالة، سيركز الذكاء الاصطناعي على المواصفات الفريدة لهذا العميل، ولذا سيقدم خدمة أفضل لكل من العميل والشركة على حد سواء.

سيصبح الاعتماد على التفاصيل والمواصفات والجزئيات الدقيقة المعيار السائد في مجالات الأعمال جميعها تقريباً، لأنه سيعالج مشكلة التكاليف الهائلة الناجمة عن اعتمادنا على التعميمات التي تمثل بطبيعتها عمليات تبسيط تؤدي إلى نبذ المعلومات القيمة.

نحن نرى هذا التوجه بالفعل في أسلوب استخدامنا للذكاء الاصطناعي بوصفه مجرد أداة، لكن إذا تعمقنا في فكرة الذكاء الاصطناعي نرى أنه يشكل منظوراً جديداً تماماً لشركاتنا والعالم المحيط بنا. هذا ما تفعله كل تكنولوجيا جديدة تتمتع بقدر كبير من الأهمية، بدءاً من القرن السابع عشر عندما كانت الساعات تمثل أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا، وكان الناس ينظرون إلى الكون بأسره على أنه تجسيد لآلياتها الميكانيكية، وصولاً إلى عصر الكمبيوتر حيث أعدنا تفسير الكثير من أفكارنا الأساسية -بدءاً من الحمض النووي ومروراً بالثقوب السوداء ووصولاً إلى الموت الحراري للكون- من خلال مفهوم المعلومات التي تتحول من مدخلات إلى مخرجات عبر منطق محدد مسبقاً.

والآن، حان دور الذكاء الاصطناعي. كما سنشرح في الفقرات التالية، تجعلنا فكرة الذكاء الاصطناعي نرى العالم من خلال خصوصياته وتفاصيله المتغيرة على الدوام، فهو منبع لسيل جارف من الجزئيات التي يرتبط بعضها ببعض في مشهد تسوده الفوضى الخلاقة والنشوء الإبداعي، حيث يمكن اكتشاف أنماط تتجاوز قدرتنا على الاستيعاب. باختصار، إنه عالم يصبح كل شيء فيه استثناء.

سينجم نمونا الاقتصادي عن هذه القدرة الجديدة على التعامل مع الجزئيات والتفاصيل، أي الاختلافات المحددة بين الأشخاص والأشياء والمواقف (على الرغم من التحديات الجديدة المتعلقة بالقيم، مثل العدالة والشفافية والاستقلالية)، والقادة الذين يدركون هذا التغير هم الأقدر على تسخير الإمكانات.

باعتباري كاتباً مختصاً بالتكنولوجيا وتلقى دورات تدريبية تخص المسائل الفلسفية، وباعتبار زميلي، زانيني، باحثاً ومستشاراً في ممارسات الإدارة المبتكرة، فإننا نشهد هذه الأنماط بالفعل في أنحاء عالم الأعمال كافة. ونعرض فيما يلي 4 أمثلة سريعة.

الاستراتيجية

ينبع الجزء الأكبر من قيمة الاستراتيجيات العالية المستوى من حقيقة أنها عوامل ثابتة في عالم متغير. فالاستراتيجية تستشرف المستقبل الذي يمتد حتى عام أو 5 أعوام أو حتى 10 أعوام، وتصوغ رؤية شاملة من القمة إلى القاعدة غامضة بما يكفي لتكون واسعة النطاق.

ولهذا، فالاستراتيجية البعيدة المدى معرضة لإغفال الإشارات الصغيرة -أي الجزئيات- التي تنبئ بحدوث تغيير في أفق المخاطر والفرص المستجدة، يتضمن هذا أحداثاً بسيطة غالبيتها غير مهمة، مثل رفرفة جناحي فراشة، غير أن بعضها يمثل أثر الفراشة إذ تطلق سلسلة من الأحداث المتتالية التي يمكن أن تتحول إلى إعصار يستهدف شركتك.

لهذا السبب، إذا كانت الشركات ستصغي إلى مفكرين من أمثال ريتا ماكغراث، ممن يدعون الشركات إلى البحث عن "ميزة عابرة"، فيجب عليها أن تكون في حالة تأهب شديد لالتقاط الإشارات الضعيفة التي تنذر بتغييرات عميقة. تقع هذه المهمة تماماً ضمن نطاق قدرات الذكاء الاصطناعي، كما يتجلى في شركات مثل زيغنال لابز (Zignal Labs) وديتاماينر (Dataminr) التي تولد مليارات نقاط البيانات من عمليات المسح اليومية لآلاف المصادر، وتحدد الأعاصير التي تنذر بها رفرفة الأجنحة الرقيقة.

هذه بعض المهام التي يستطيع الذكاء الاصطناعي تنفيذها بوصفه أداة. أما بوصفه فكرة، فهو ينبهنا إلى فكرة الأحداث البسيطة هذه، ويدفعنا إلى البحث عنها. نرى هذا بالفعل في الشركات التي تعمل على تمكين الخبرات الموزعة في صفوفها. من شأن وجود مساحة للحوار المستمر في الزمن الحقيقي متاحة أمام الجميع (لا سيما الذين يعملون على مشاريع جديدة أو يتدارسون فرصاً جديدة يمكن أن تُحدث تحولات جذرية على مستوى المؤسسة بالتعاون مع زملاء من أقسام مختلفة) أن يمكّن الموظفين من التحدث عما يثير اهتمامهم، مثل وجود توجه مستجد وأثره المتوقع في القطاع الذي تعمل فيه الشركة. قد تكون هذه المنصة أول مكان تجري فيه ملاحظة الإشارات الصغيرة وفهمها بأسلوب تعاوني، وربما يؤذن بميلاد نقلة استراتيجية.

يؤدي هذا إلى تغيير مفهومنا عن مكمن المعرفة في المؤسسة، حيث كنا ننظر إليه على أنه مجموعة محددة من الخبراء، ليصبح شيئاً أقرب إلى "شبكة عصبونية" مجازية من المحادثات العابرة، التي استهل الذكاء الاصطناعي الكثير منها (لكن ليس جميعها) وعمل على تجميعها بالاعتماد على شبكة التواصل التي يديرها، والتي تربط مجموعة واسعة ومتنوعة من الأشخاص عبر طبقات الهيكلية الهرمية للمؤسسة. قد تظهر بعض المعلومات القيّمة جداً عندما يسلط النظام الضوء على اتفاق وطيد أو خلاف بناء بين أشخاص ينتمون إلى أقسام وظيفية لا تتفق فيما بينها غالباً، مثل قسم المبيعات وقسم البحث والتطوير، أو القسم المالي وقسم الموارد البشرية.

إدارة المواهب

في الإدارة التقليدية للمواهب، يعتمد استقطاب الأشخاص على مؤهلاتهم وخبراتهم السابقة وغيرها من الأدلة الواضحة التي تعبر عن مهاراتهم. وبعد توظيفهم، عادة ما تسترشد الشركة في تطويرهم بنماذج كفاءة عامة، وهي نماذج متشابهة لدى الشركات التي تعمل في المجال نفسه. أما النتيجة فهي تصور موحد عن قدرات الموظفين واهتماماتهم يناسب شركات القطاع الواحد كلها.

لكن الذكاء الاصطناعي قادر على تغيير ذلك. إذ يستطيع كشف مهارات مهمة قد لا تتوافق مع قائمة المهارات المرجعية المتفق عليها، مثل إجادة التعامل مع الحالات الاستثنائية أو تقبّل النقد. انطلاقاً من هذا، يمكنه أن يجمع بين الأفراد ليتعاونوا على العمل في مشروع معين، أو يشكل مجموعات المصالح الداخلية، أو يقوي الروابط الاجتماعية ويعمل على توسيعها.

على سبيل المثال، تعمل منصة غايدر (Guider) للتعلم والتطوير على جمع المتدربين بالمدربين المناسبين باستخدام نظام ذكاء اصطناعي يأخذ بعين الاعتبار أكثر من 100 عامل مختلف بناءً على سلوك المستخدمين، بدلاً من أن تطلب منهم تحديد مجموعة من المهارات التي تثير اهتمامهم. كما بإمكانها أيضاً أن تقدم تقارير مفصلة ومحددة يمكنها توجيه عمليات التواصل والعلاقات بين المتدربين والمدربين.

في ضوء فكرة الذكاء الاصطناعي، تنتظرنا تغيرات أكبر من ذلك حتى؛ فبدلاً من التفكير في مسيرتنا المهنية من حيث الوظائف ذات الأوصاف الرسمية المستمدة من الفئات التقليدية، قد نبدأ التفكير في أنفسنا كما يرانا الذكاء الاصطناعي، فنحن مجموعات فريدة من القدرات والاهتمامات مستعدة للمشاركة في فرص لا يسعنا التنبؤ بها.

الأدوار القيادية

تتنبأ ورقة بحثية نشرتها الهيئة التدريسية في مركز القيادة الاستراتيجية في الكلية الحربية التابعة للجيش الأميركي، بأن الذكاء الاصطناعي "سيؤثر مباشرة في الهيكل التنظيمي للجيوش". على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي أن "يحدد الجندي الذي يتمتع بأعلى مستوى من الوعي بالظروف المحيطة ويسلمه قيادة الوحدة العسكرية، ويوزع بقية أفراد الفريق على الأدوار الداعمة".

إذا كانت هذه هي الطريقة التي يجب أن تنتقل فيها الصلاحيات بناء على استجابة مباشرة لخصوصيات موقف مصيري يتعلق بمسألة حياة أو موت، فلماذا لا نطبق الطريقة نفسها في الظروف الأقل خطورة؟

في الواقع، قد يجمع الذكاء الاصطناعي بين الهيكليات الهرمية الناشئة -الديناميكية والمرتبطة بالمواقف- التي تتيح انتقال الصلاحيات بسلاسة إلى الأشخاص القادرين على تحقيق قيمة مضافة فريدة من نوعها في موقف معين، بغض النظر عن مؤهلاتهم الرسمية أو مناصبهم ضمن سلسلة القيادة. لعل هذه إحدى الطرق التي تتيح استخدام الذكاء الاصطناعي، الذي يتعرض لانتقادات بسبب ميله إلى التحيز، لتمكين الأشخاص الذين يخالفون المعايير التقليدية للقيادة في طريقة تفكيرهم وتصرفاتهم.

إدارة سلاسل التوريد

خلال التسعينيات، كان لا يزال من الضروري أن تكون سلاسل التوريد بغض النظر عن درجة تعقيدها بسيطة بما يكفي ليتسنى للعقول البشرية فهمها وإدارتها. أما الآن، فقد بدأ الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة يحدث تحولاً في عمليات محطات الحاويات وسير عمل الخدمات اللوجستية وعمليات تجديد المخزونات والتنبؤ بالطلب والتوجيه وكل عنصر آخر تقريباً من عناصر إدارة سلاسل التوريد، من خلال استيعاب كميات هائلة من البيانات وإعادة التنسيق بين الخدمات اللوجستية في الزمن الحقيقي.

على سبيل المثال، تستخدم شركة هاير (Haier)، وهي ثالث أضخم شركة مصنعة للأجهزة المنزلية في العالم، منصة الإنترنت كوسمو بلات (COSMOPlat) للربط بين الملايين من عملائها المستهلكين وعشرات الآلاف من عملائها الباعة في أنحاء العالم كافة. تعمل كوسمو بلات على تفسير مئات الآلاف من المدخلات التي يقدمها العملاء المستهلكون، وسرعان ما تحولها إلى مواصفات تصميمية. وبعد ذلك، توزع هذه المواصفات على شبكتها الهائلة من الموردين للحصول على عروض أسعار. تستطيع كوسمو بلات إقامة صلات غير متوقعة، مثل الاستعانة بمختص في عزل الثلاجات ليصنع مادة تخفف اهتزاز الغسالات. تعمل كوسمو بلات أيضاً على دمج شبكات الشركات الأعضاء فيها لإدارة التوزيع والخدمات اللوجستية، بناء على نقاط القوة التي تتميز بها هذه الشركات في كل منطقة.

ولهذا، تتيح لنا فكرة الذكاء الاصطناعي رؤية سلاسل التوريد كما كانت على الدوام: شبكات فضفاضة منسقة تلقائياً من الموردين والشركاء. يؤثر ذلك في كيفية إدارة الشركة بأكملها بطرق تتجاوز مجرد اختيار البوتات التي تدير سلسلة التوريد الخاصة بها. أو على حد تعبير مؤسس هاير، جان رومين، يجب أن تصبح الشركة "غابة مطيرة" تتكيف ذاتياً، أي معقدة ومبدعة ومترابطة الأجزاء إلى حد كبير، وتخدم الجزئيات المتعلقة بكل موقف من المواقف.

منذ قرن من الزمن، كتبت المفكرة الرائدة في مجال الإدارة ماري باركر فوليت قائلة إنه "ليس لأحد أن يصدر الأوامر لشخص آخر، بل يجب أن يتفق الاثنان على تلقي الأوامر من الموقف الراهن الذي يجمعهما".

بتنا الآن قادرين على التعامل مع المواقف بمستوى غير مسبوق من التفاصيل والفروق الدقيقة. وهذا لا يعني التحلي بمستويات أعلى من الكفاءة فحسب، بل يعني أيضاً تدفق الصلاحيات وصولاً إلى الموظفين المكلفين بالمشاريع المصيرية الواعدة التي تتطلب التعاون بين أقسامهم المختلفة، حيث سيكون لديهم ما يحتاجون إليه من المعلومات والمهارات والأدوات اللازمة لتحقيق التوازن الملائم بين العوامل المتضاربة في كل قرار يتخذونه على حدة.

آثار فكرة الذكاء الاصطناعي بطبيعة الحال ليست قابلة للتنبؤ كما يبدو من خلال شرحنا فيما تقدم؛ ما دامت فكرة الذكاء الاصطناعي تُظهر لنا عالماً يتكون من تفاصيل مترابطة فيما بينها بصورة فوضوية، فكيف يمكن التنبؤ بهذه الآثار؟ لكننا على قناعة بأن النقلة إلى عالم التفاصيل والجزئيات ستكون لها آثار عميقة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي