تمر الولايات المتحدة بأزمة موارد بشرية على جميع المستويات الحكومية. حتى بين أولئك المتخرجين من برامج الشؤون العامة، حيث شهد الاهتمام بالانضمام إلى القطاع العام انخفاضاً لا سيما بعد تقاعد "جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية" وتطلع "جيل الألفية" إلى أماكن أخرى يستطيعون فيها ترك بصمتهم في المجتمع.
لكن القضية ليست مسألة أرقام فحسب. لأن تقديم الخدمات الحكومية العامة بشكل أكثر فعالية، يتطلب المزيد من التنوع في القوى العاملة الحكومية. أظهرت الدراسات أنّ الموظفين الحكوميين أكثر قرباً وارتباطاً بالمجتمعات التي يخدمونها، ويمكن تحسين نتائج الخدمة إما بجعل الموظفين الحكوميين أنفسهم يتصرفون بشكل مختلف أو بجعل المستفيدين يتجاوبون معهم بشكل مختلف. وبالنسبة لقوات الشرطة في جميع أنحاء البلاد، تبدو هذه الحاجة إلى التنوع ملحة بشكل كبير وضرورة لأن ما نسبته 75% تقريباً من موظفي الشرطة هم من البيض.
إذاً، كيف نشجع المزيد من الناس على تقديم طلبات التوظيف في القطاع العام، ولا سيما في قطاع الشرطة؟
لا شك أنّ الأمر ليس سهلاً. لا تمتلك أقسام الشرطة نفس الأدوات المتاحة التي تملكها شركات القطاع الخاص، حيث لا يوجد مكافأة عند توقيع العقد، وليس هناك مرونة كافية في المسميات الوظيفية، وهناك العديد من القيود الأخرى. أما ما لديهم بالفعل فهو مهمة نبيلة ذات تأثير قوي، وقوى عامة حالية سجلت مستويات عالية من التحفيز على الخدمة الحكومية. وبسبب هذا الوضع، لا عجب أنّ أقسام الشرطة تعتمد على شعارات الخدمة الحكومية لتوظيف عناصرها. أما أقسام الشرطة التي تبذل جهدها لتوظيف عناصر جديدة، فغالبيتها تستخدم نفس نسخة "الخدمة الحكومية": حيث توجه رسائل التوظيف هذه إلى المرشحين المحتملين وتدعوهم غالباً بهذه العبارات: "تقدم إلى الخدمة" أو "أجب نداء الخدمة".
لكني أعتقد أنّ الأشخاص الذين يحفزهم نداء الخدمة الحكومية هذا وحسب (دون أي محفزات أخرى) هم أشخاص مهتمون أساساً بالعمل في القطاع العام. لذلك، إن أرادت أقسام الشرطة أن تضم مجموعة عناصر جديدة لقواتها، لا بدّ عليها أن تضع محفزات لأولئك الأشخاص المناسبين للخدمة الحكومية لكنهم حالياً لا يقدمون على وظائفها. وفي هذا الجانب، نعرف من بحوث علم النفس السلوكي أنّ حتى التغييرات الصغيرة في طريقة صياغة الفرصة يمكن أن تغير بشكل كبير الفئة التي تتفاعل معها والوقت الذي تتفاعل فيه. وهكذا قررتُ اختبار ما إن كانت إعادة صياغة رسالة التوظيف في قوات الشرطة ستساهم في دفع المزيد من فئات المجتمع المختلفة على التفكير في الانضمام لقوات تطبيق القانون أم لا.
وللقيام بذلك، قمت بالتعاون مع فريق الرؤى السلوكية ومبادرة قياس جودة المدن (What Works Cities Initiative)، لإجراء تجربة ميدانية ترمي إلى توسيع مجموعة من يقدمون طلبات التوظيف لتشمل الأشخاص الذين لم يفكروا من قبل في شغل وظيفة في قوات تطبيق القانون. اخترنا بشكل عشوائي 10,000 شخص تقريباً في الفئة العمرية ما بين 18 و40 سنة، وأرسلنا لهم بطاقات بريدية تشجعهم على تقديم طلب توظيف في قسم الشرطة. ومن خلال هذا التصرف أردنا معرفة ما إن كانت البطاقة البريدية ستحفز الناس على التقديم للوظائف بأعداد أكبر مقارنة مع مجموعة مختارة كعامل ضبط في التجربة تم اختيارها عشوائياً هي أيضاً ولم ترسل لها البطاقات البريدية. والأهم من ذلك، أننا قمنا أيضاً بإنشاء أربع نسخ مختلفة من البطاقة البريدية، تحمل كل واحدة منها عبارات تحفيزية مختلفة للانضمام للشرطة، وذلك بغية معرفة الطريقة الأكثر فعالية للحصول على طلبات توظيف أكثر.
كل بطاقة بريدية كانت مخصصة للمرسل إليه، وتضم صورة لضابط شرطة حالي، ذكر أميركي من أصول أفريقية، في أحد جوانبها، ورسالة موقعة من قبل هذا الضابط في الجانب الآخر. ويتمثل الفارق الوحيد بين النسخ الأربع لهذه البطاقة في الشعار وبضعة سطور من الرسالة.
وهكذا نقرأ في النسخة التي تحمل تحفيزاً تقليدياً على الخدمة الحكومية:
إنني سعيد لكوني جزءاً من الشرطة، لأن هذه الوظيفة تجعلني أشعر أنني أستطيع إحداث فرق في مدينة تشاتانوغا التابعة لولاية تينيسي الأميركية. إن كنت من أولئك الأشخاص الجاهزين للخدمة، فأنت الشخص الذي نبحث عنه.
في النسخة الأخرى، التي تركز على التأكيد بوضوح على الأثر الإيجابي لهذه الوظيفة نقرأ:
إنني سعيد لكوني جزءاً من الشرطة، لأن هذه الوظيفة تجعلني أشعر حقاً أنني أستطيع إحداث فرق في مدينة تشاتانوغا. تصوّر فقط ما الذي يعنيه لك ولمجتمعك أن تصبح ضابط شرطة.
وفي النسخ الأخرى، أردنا أن نختبر ما إن كنا نستطيع إثارة التحفيز الداخلي للأشخاص بالحديث عن مدى صعوبة عمل ضباط الشرطة. وقد قمنا بذلك استناداً إلى الدليل العلمي الذي يقول أنّ صياغة أحد المهام كتحدّ غالباً ما يؤدي إلى جعل الأفراد متعثري الأداء يؤدون أعمالهم بشكل أفضل. هكذا نقرأ في نسخة التحدي من البطاقة البريدية ما يلي:
إنني سعيد لكوني جزءاً من الشرطة، لأنها وظيفة مليئة بالمفاجآت غير المتوقعة: إنها عمل صعب لكنه مجزي حقاً! إن كنت من أولئك الأشخاص الذين يثبتون أنفسهم في البيئات الصعبة، فأنت الشخص الذي نبحث عنه.
من جانب آخر، أردنا كذلك اختبار مزايا التحفيز الخارجي، وذلك بالتلميح إلى الأمان الوظيفي الذي يتمتع به موظفو الشرطة، لأنها هذه الفائدة من أوضح مزايا الوظائف الحكومية. وهكذا كانت نسخة الأمان الوظيفي من البطاقة البريدية كما يلي:
إنني سعيد لكوني جزءاً من الشرطة، لأنني أطوّر باستمرار مهاراتي وقدراتي: فمهامي هنا ليست مجرد عمل، بل مهنة كاملة. إن كنت تبحث عن مهنة طويلة الأجل، فأنت الشخص الذي نبحث عنه.
أما النتائج فقد كانت مذهلة، لأنّ البطاقة البريدية التي تضم عبارات الخدمة الحكومية لم تحفز الناس ولم تشجعهم على تقديم طلب التوظيف تماماً مثل تلك المجموعة التي لم تتلق أي بطاقة إطلاقاً (مجموعة ضبط التجربة). وفي المقابل، رفعت رسائل التحدي ورسائل الأمان الوظيفي احتمالية تقديم الشخص لطلب التوظيف بثلاثة أضعاف من المستوى العادي. أما بالنسبة للرجال والنساء ذوات البشرة الملونة فقد كان التأثير أوسع نطاقاً. هكذا ارتفع احتمال تقديم الأشخاص ذوي البشرة الملونة الذين تلقوا رسالة التحدي لطلب التوظيف في الشرطة بأربعة أضعاف من المعدل العادي. والأهم من ذلك، لم نجد أي مؤشر على أنّ نوعية المتقدمين للتوظيف تأثرت سلباً بزيادة أعدادهم. بعد ذلك، تتبعنا كل مرشح عبر عملية التوظيف ووجدنا أنّ نتائجهم في الاختبارات المطلوبة ليصبحوا ضباط شرطة مماثلة للنتائج التي حققها المرشحون في مجموعة ضبط التجربة.
بدأت قوات الشرطة في كامل أرجاء الولايات المتحدة باستخدام هذه التحليلات، وشرعت بصرامة في اختبار مناهجها في التوظيف ومعرفة ما الذي ينجح منها في المجتمعات المستهدفة. على سبيل المثال، نعمل الآن مع قسم إدارة شؤون الموظفين بشرطة لوس أنجلوس وفريق الابتكار التابع لحاكم الولاية وذلك لضم قوة علوم النفس السلوكية مع تأثير شبكاتالتواصلالاجتماعي بغية اختبار طرق جديدة لجذب المرشحين من خلال فيسبوك.
وهذه الخطوة ما هي إلا البداية فحسب. لأن تحدي بناء قوات شرطة أكثر تنوعاً يبدأ بالفعل بعملية جذب مرشحين جدد، لكنه يتطلب أيضاً إعادة النظر في كيفية اختيار المرشحين. ويعتبر عدم الانحياز عند إجراء المقابلات الشخصية للتوظيف وغيرها من أدوات الاختيار أموراً مهمة بوجه خاص، وبهذا الصدد نجد أنّ حتى التعديلات الصغيرة في هذه الإجراءات تؤدي إلى نتائج وآثار كبيرة. فقد وجدتُ في إحدى الدراسات الأخرى التي أجريتها رفقة زملائي أن تغيير اللغة في عملية الاختبار يمكن أن يسد الفجوة العِرقية في معدلات القبول، ما يضمن للمزيد من المرشحين والأقليات العرقية الأخرى النجاح واجتياز المقابلة. وإذا تمكنا أيضاً من تقليص الأعباء الإدارية التي نكلف بها المرشحين، الذين يضطرون للانتظار لأكثر من سنة قبل أن يتم توظيفهم، لربما نتمكن من تحسين تنوع مجموعة المتقدمين للتوظيف بشكل عام.
لا بدّ علينا أيضاً أن ندرس بعناية كيفية دعم هؤلاء المرشحين الجدد عندما يجتازون بنجاح عملية التوظيف ويبدؤون مزاولة مهامهم. وإذا كنا نود الاعتماد عليهم في تغيير ثقافة حكومية تعود إلى عقود من الزمن وتحسين علاقتهم مع المجتمع الذي يعملون فيه، فسنحتاج إلى أكثر من مجرد ضخ دماء جديدة في قطاع التوظيف الحكومي. لأننا سنحتاج إلى ضمان أنهم يمتلكون الموارد الشخصية والمؤسساتية التي تساعد على إجراء التغيير من دون أن يؤثر ذلك على صحتهم ورفاهيتهم.
لكن المؤسسات لا تتغير بين عشية وضحاها. غير أنّ التجارب العلمية مثل هذه التي قمنا بها يمكن أن تساعدنا على معرفة ما الذي ينجح في كل مرحلة من مراحل عملية التغيير التي تجرى من أجل خلق أماكن عمل أكثر تنوعاً ودعماً للمجتمعات التي تخدمها في نهاية المطاف.