سيتعين على مجتمع الأعمال ممارسة الدور الحاسم لحل أكبر التحديات في العالم، مثل التغير المناخي وعدم المساواة. وسنكون بحاجة إلى رؤساء تنفيذيين يعون هذه التحديات ويرغبون بتحفيز التغيير العميق في طريقة عمل الشركات. كما أعلن قرابة 200 رئيس تنفيذي في رابطة المائدة المستديرة للشركات الشهر الماضي أن الغاية من الأعمال لم تعد مجرد تضخيم أرباح أصحاب المصلحة فحسب، ولكن، هل هم مستعدون للاستمرار؟
صدرت دراسة جديدة وهامة عن مواقف الرؤساء التنفيذيين في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، وهي تسلط الضوء على نظرة الرؤساء التنفيذيين لتحدي الاستدامة وغيره من التحديات العالمية الأخرى. وقد صدرت هذه الدراسة عن شركة أكسنتشر والميثاق العالمي للأمم المتحدة بعنوان: "العقد الذي يجب أن يتم إنجاز العمل فيه: دعوة لتحرك الشركات" (The Decade to Deliver: A Call to Business Action)، وهي تجمع تقييمات وآراء أكثر من ألف تنفيذي في العالم. ويتعمق هذا التقرير الذي يصدر كل ثلاثة أعوام في نظرة الرؤساء التنفيذيين للاستدامة. وقد وجدت في هذه البيانات أسباباً للتفاؤل والقلق على حد سواء، ولكنها على الأقل تبين أن دعوة رابطة المائدة المستديرة للشركات لتوسيع وجهة نظر أصحاب المصلحة لم تكن مجرد صدفة.
اقرأ أيضاً: الضرر المتوقع من انسحاب ترامب من اتفاقيات حماية المناخ
يبدو جلياً أن الرؤساء التنفيذيين يفكرون بشأن النقطة التي تنسجم فيها شركاتهم مع المجتمع. ونقل التقرير عن أليكس ريكارد، الرئيس التنفيذي لشركة بيرنود ريكارد (Pernod Ricard)، قوله "أحتاج إلى معرفة المكان الذي يريده لنا المستهلكون بعد عشرة أعوام، أعتقد أن الشركات التي تستهدف الربح فقط ستموت". (ملاحظة: كل الاقتباسات عن الرؤساء التنفيذيين في هذه المقالة مأخوذة من الدراسة).
يقوم تقرير هذا العام حول التغير المناخي وعدم المساواة على فكرة أن الوقت بدأ ينفد بشأن تغير المناخ، في دعوة للعالم لمراجعة نفسه. وتقول لنا الدراسة التي أجراها الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ في العام الماضي، أنه لدينا مهلة حتى عام 2030 لخفض الانبعاثات إلى النصف من أجل تفادي بعض أسوأ النتائج.
ويتمحور التقرير الجديد حول فكرة واحدة، وهي أننا لا نتحرك بالسرعة الكافية. وقد أخبرتني واحدة من المؤلفين الرئيسيين للتقرير، جيسيكا لونغ، وهي المديرة الإدارية لشركة أكسنتشر والمسؤولة عن الاستراتيجية والاستدامة إنه: "من المفترض أن تشكل هذه الدراسة دعوة للتحرك. يقوم كثيرون بعمل جيد، وتلتزم الشركات بالتزامات أكبر، ولكن لن تمكننا النشاطات والتصريحات الحالية وحدها من النجاة حتى عام 2030 من دون اتخاذ خطوات حقيقية".
إن هذا التقرير جدير بأن نمضي بعض الوقت لاستكشاف "النداءات الثلاثة للتحرك" التي حددها، وهي: (1) رفع الرؤساء التنفيذيين للطموح والأثر في شركاتهم، (2) "تغيير طريقة تعاوننا بنزاهة أكبر فيما يتعلق بهذه التحديات"، (3) "تعريف القيادة المسؤولة"، والتي أرى أنها تترافق مع التزام الرؤساء التنفيذيين بصورة شخصية بالتغيير كبشر.
التغير المناخي وعدم المساواة حول العالم
وبناء على سنوات عملي مع الشركات والرؤساء التنفيذيين حول هذه المواضيع، أجد أني أثناء قراءة التقرير أضع عدة تقييمات وبيانات ضمن فئات: الأمور التي لم تكن مفاجئة (المتوقعة)، والأمور المفاجئة، والأمور الواعدة، والأمور المثيرة للقلق.
الأمور التي لم تكن مفاجئة
يشعر قادة الشركات بضغط يدعوهم لبناء شركات مستدامة أكثر من أصحاب المصلحة الأساسيين. وعندما سئل الرؤساء التنفيذيون عن أصحاب المصلحة الذين لهم التأثير الأكبر على طريقة إدارة الاستدامة، كان العملاء والموظفون هم أصحاب أكبر نسبة من الإجابات. ومن ضمن مجموعات أصحاب المصلحة هذه، كان جيل الألفية والجيل الذي يليه (الجيل زد Generation Z) تحديداً هم من يريدون من شركاتهم التي يعملون لديها ويشترون منها أن تتخذ موقفاً من أمر ما. وكما قال باتريك ديكر، رئيس شركة "زايلم" (Xylem) ورئيسها التنفيذي: "إن الجيل الأصغر منجذب إلى غاية ورسالة أسمى: ’لماذا نفعل ذلك؟‘ وليس إلى الربح فحسب". ويبدو أن هذه المطالب تصبح غير قابلة للتفاوض أكثر فأكثر. يقول مارك هانتر، رئيس شركة "مولسون كورز" (Molson Coors) ورئيسها التنفيذي: "يبحث مستهلكونا وعملاؤنا عما يضمن أن نقوم بأعمالنا بالطريقة الصحيحة. ويصبح ذلك الحد المطلوب الأدنى".
اقرأ أيضاً: كيف تتدهور الأهداف الجريئة للشركات في ظل تغيّر المناخ؟
والمجال الآخر الذي لم يكن مفاجئاً لي هو التوتر الذي يشعر به الرئيس التنفيذي بشأن المقايضات المحتملة بين الاستدامة والمعايير المالية التقليدية. وعلى الرغم من شعوري بأن هذا التوتر مبالغ فيه دائماً، فالاستدامة تنشئ قيمة أعمال بطرق متعددة، إلا أن هناك توتر حقيقي بين الأرباح قصيرة الأجل والقيمة طويلة الأجل. وفي الواقع، يقول أكثر من نصف الرؤساء التنفيذيين إنهم "يواجهون مقايضة أساسية في الضغط الداعي للعمل وفق مستوى عال من الوعي بالتكلفة في سعيهم للاستثمار في الأهداف الاستراتيجية ذات الأجل الأطول".
بعض النتائج المدهشة حول التغير المناخي وعدم المساواة
ويعتقد 88% من الرؤساء التنفيذيين "أن أنظمتنا الاقتصادية العالمية تحتاج إلى إعادة التركيز على النمو العادل". وقد انتقلت المخاوف بشأن عدم المساواة من احتجاجات "الاحتلال" منذ عقد مضى إلى التيار الرئيس، ويرى الزعماء أنها مزعزعة للاستقرار. وكما قال أحد الرؤساء التنفيذيون، فإن: "الرأسمالية التي أطلق لها العنان ولّدت الفقر المدقع والظروف الاجتماعية الرهيبة والحالة الصعبة التي يعاني منها كوكبنا. وإذا لم يكن بإمكاننا إدارة انتقال اجتماعي أفضل للثروات فسنجد أنفسنا في ورطة".
أضف إلى ذلك أن بعض النتائج حول طريقة إنشاء الاستدامة للقيمة كانت غريبة نوعاً ما بالنسبة لي. وكما يقول المؤلفون، "يدرك الرؤساء التنفيذيون أن الاستدامة يمكن أن تحفز الميزة التنافسية"، ولكن عدداً قليلاً نسبياً من المستجيبين ذكروا إنشاء قيمة محددة: إذ يرى 40% القيمة في نمو الإيرادات في حين يرى 25% فقط القيمة في تخفيض التكلفة (الأمر الذي قد يعكس اختفاء المكاسب السهلة). لا يتفق رقم الإيرادات هذا تماماً مع إحصائية أخرى. فعند الحديث عن الحواجز التي تحول دون تطبيق الاستدامة، يشير 28% فقط من الرؤساء التنفيذيين إلى "غياب جذب السوق". وهذه مفاجأة سارة بعد سنوات من الشكاوى بأن الطلب على المنتجات المستدامة ضعيف.
اقرأ أيضاً: قطاع الأعمال هو الخيار الأمثل لسد الفجوة القيادية في مسألة التغيّر المناخي
النتائج الواعدة والمطمئنة
وضعت الاستدامة على جدول الأعمال على نحو جدي الآن، وكن واثقاً أن هذا نصر سنوات عديدة قيد الإنجاز. يوافق جميع الرؤساء التنفيذيين في الشركات الكبيرة (بل 99% منهم)، على أن "قضايا الاستدامة مهمة لنجاح أعمالهم في المستقبل." (ملاحظة جانبية مضحكة: سيربط 62% من هؤلاء الرؤساء التنفيذيين أجورهم بنتائج الاستدامة). كما أن 94% منهم يشعرون بالمسؤولية الشخصية عن تحديد الهدف الأساسي للشركة ودورها في المجتمع. وفي خبر جيد آخر، يبدو أن بعض الحواجز التي تعترض العمل آخذة في الانخفاض. إذ أشار ربع الرؤساء التنفيذيين فقط إلى "عدم وجود ارتباط واضح بقيمة الأعمال"، وقال 8% فقط إن "نقص المعرفة" هو مشكلة.
وفيما يخص التغير المناخي الذي يعتبر أعظم تحد في التاريخ، تراجع مستوى الإنكار على مستوى الرؤساء التنفيذين بدرجة كبيرة (بحسب خبرتي المفترضة والبيانات في هذا التقرير). لم تعد الشركات ترى أن التغيير المناخي قضية يمكن لقادة المستقبل معالجتها، يقول الرئيس التنفيذي لشركة "باسف" (BASF) للكيماويات، مارتن برودرمولر: "نحن نعيش تأثير التغير المناخي فعلاً اليوم وكل يوم". كما يقول التقرير أن الرؤساء التنفيذيين يفهمون الحاجة إلى إجراء تغيير على مستوى الأنظمة من أجل معالجة قضايا بحجم قضية المناخ.
وظهرت مسألة جلية أخرى تدور حول ثقة المجتمع وتوقعاته، إذ قال ثلاثة أرباع الرؤساء التنفيذيين إن ثقة المواطنين ستكون حاسمة بالنسبة للتنافسية. يقول الرئيس التنفيذي لشركة ناتورا، جواو باولو فيريرا: "سيلحق ضرر كبير بأي شركة أو علامة تجارية إذا علم المستهلكون في أي وقت كان أنه ليس بالإمكان الوثوق بهاً". كما يوضح الرئيس التنفيذي لشركة "دي بيرز" ( De Beers)، بروس كليفر، الصورة أكثر بقوله: "سيأتي وقت يطرح فيه المستهلكون سؤالاً حاسماً، وهو ’هل يمكنني الوثوق بهذه العلامة التجارية؟‘، وإذا كان الجواب ’لا‘، فلن يشتروا منها شيئاً. وسيصبح هذا السؤال ثنائياً".
الأمر الذي لا يزال يثير القلق
تقلقني أربع نتائج. أولاً، بالنسبة لجميع الجوانب المشرقة، فإن الموضوع الكلي للتقرير يتحدث عن أننا لا نتحرك بسرعة كافية لتحقيق الأهداف العالمية (التي كانت تدعى سابقاً أهداف التطوير المستدام)، وهي إرشادات الأمم المتحدة فيما يخص الأهداف التي يجب علينا تحقيقها من أجل بناء عالم مزدهر ويعترف الرؤساء التنفيذيون بهذه الثغرة. إذ يعتقد 21% منهم فقط أن الشركات تلعب دوراً حاسماً في المساهمة في الأهداف العالمية. قال الدكتور رولف مارتن شميتس، الرئيس التنفيذي لشركة "رينيش ويستفاليان باور بلانت (آر دبليو إي أيه جي)" (RWE AG): "للأسف، هناك كثير ممن يتحدثون عن الأمر ليس إلا، ولكن ما نحتاج إليه هو المزيد من الأفعال".
ثانياً، لا تقوم الشركات والعالم بأسره بما يكفي فيما يخص التغير المناخي. على الرغم من أن 59% من الرؤساء التنفيذيين يقولون إنهم يستخدمون طاقة متجددة وذات مستوى منخفض من الكربون، إلا أن 44% فقط يرون أن مستقبل شركاتهم سيكون معدوماً في العقد القادم، ويقوم 41% منهم فقط بإزالة الكربون من سلسلة مواردهم. وتماشياً مع هذا المستوى الفاتر من العمل (مقارنة مع حجم الأزمة التي نمر فيها)، أحزنتني على وجه الخصوص رؤية أن ثلث الرؤساء التنفيذيين فقط يقولون أن لديهم هدفاً قائماً على العلم فيما يخص انبعاثات الكربون، أو يخططون لتحديده.
ثالثاً، بينت الاستبانة إيماناً محدوداً بالمستثمرين. مهما كان بيان رابطة المائدة المستديرة للأعمال، لن تقوم غالبية الشركات بأي خطوات حازمة إلا إذا أيقنت أن المستثمرين يثمنون جهودها فيما يتعلق بالاستدامة. وكما يقول الرئيس التنفيذي لشركة "إي دي إف إنرجي" (EDF Energy): "على الرغم من قيام مجتمع المستثمرين بحركة حقيقية مؤخراً، إلا أن هناك تفاوت كبير بين التصريحات العلنية للمصارف والمستثمرين وما يظهرونه خلف الكواليس من لا مبالاة تجاه الاستدامة". ولا عجب أن 12% فقط من الرؤساء التنفيذيين ذكروا أن الضغط الذي يمارسه أصحاب المصالح يشكل حافزاً.
وأخيراً، وصف الرؤساء التنفيذيون حالة عدم الاستقرار سياسياً واقتصادياً على أنها سبب تشتيت كبير. وقال ثلثا الرؤساء التنفيذيين إن التقلب الشامل هو عامل أساسي في استراتيجياتهم، وقال 42% إنه يخفض جهودهم فيما يخص الاستدامة. وبالنسبة لي، فإن هذا يسلط الضوء على الانفصال طويل الأمد عن الاستدامة، وهو الافتراض الضمني بأنها هي التي تشتت الانتباه عن الأعمال "الحقيقية"، لا مسار تحقيق الربح وبناء شركات مزدهرة. وبصراحة، إذا كان القادة ينتظرون أن يأتي وقت أقل تقلباً كي يتصرفوا بشأن تغير المناخ، فسيستمر انتظارهم إلى الأبد.
بالمجمل، يرسم لنا هذا التقرير صورة مختلطة، تشبه كثيراً العالم الواقعي الذي تعمل فيه هذه الشركات. لقد شهدنا بعض التقدم ولكن هناك ثغرات خطيرة ولا يزال لدينا الكثير لنفعله. وأنا أشعر بالراحة في حقيقة أن القادة يدركون الآن أننا مقصرون، وأن هذه القضايا معقدة بشكل لا يصدق، وأن علينا اتخاذ إجراءات حقيقية أكثر، ولكن، حسبما تقوله ليزا كينغو، المدير التنفيذي لميثاق الأمم المتحدة العالمي، فإن هؤلاء الرؤساء التنفيذيين: "ليسوا راضين عن التقدم الحالي ويدعون أقسامهم ونظراءهم للنهوض وتحويل الالتزام إلى أفعال".
وفي نهاية الحديث عن التغير المناخي وعدم المساواة حول العالم، ربما كانت أفضل نتيجة في هذا التقرير بأكمله هي بند العمل الثالث الذي ركزت عليه شركة أكسنتشر والأمم المتحدة، وهو منظور المسؤولية الشخصية. ووجدت في بحثي الخاص بشأن الرؤساء التنفيذيين أن منطق الجدوى التجارية في العالم كله ناجح حتى الآن فقط، ومن أجل تبني رؤية جديدة للشركات، يجب على الرؤساء التنفيذيين فهمها كأشخاص وإدماجها في روايتهم الشخصية الداخلية عن طريقة ملاءمة عملهم للعالم. يجب عليهم أن يطرحوا السؤال التالي: ما هو إرثي؟ وهذا سؤال جيد يجب علينا جميعاً الإجابة عنه.
اقرأ أيضاً: حجم الكارثة المناخية يعتمد على ما تقوم به الشركات خلال العقد المقبل