مع ازدياد التهديدات التي تواجهها منازلنا وشركاتنا وغيرها من المؤسسات جرّاء الحرائق والفيضانات وموجات الجفاف، أصبح الخطر المناخيّ يشكّل مخاطر مالية أيضاً، إذ توصّل بحث نشره "المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية" (National Bureau of Economic Research) مؤخّراً حول التغير المناخي وأماكن البناء حول العالم إلى أنّ البنوك تقوم حالياً بالتخلّي عن القروض العقارية المسجّلة على المنازل في المواقع المعرّضة للخطر لصالح وكالتي "فاني ماي" (Fannie Mae) و"فريدي ماك" (Freddie Mac) للرهونات العقارية التي تدعمهما الحكومة الأميركية. ويشير هذا إلى أنّ أصحاب المنازل والمستثمرين يتّخذون قرارات تتعلّق بمواقع ممتلكاتهم دون حساب دقيق لتكلفة الأخطار المحتملة، وإلى أنّ الحكومة تتيح لهم هذا النوع من الإهمال. وينذر البعض أنّ فشل الأسواق هذا قد يسفر عن تكرار الأزمة المالية التي حصلت عام 2008، والتي أطلقت شراراتها أيضاً الرهونات العقارية المتهوّرة.
اقرأ أيضاً: إلزام الشركات بكشف المخاطر المتصلة بالمناخ يعود بالفائدة على الجميع
ولا يقتصر الأمر فقط على أصحاب المنازل الذين يجرون استثمارات باستهتار، بل تُعتبر العديد من الشركات أيضاً قليلة التبصّر في اختيارها لأماكن تأسيس أصولها الجديدة، كالمصانع، وفي اتخاذها قرارات بشأن أصولها الحالية الموجودة في أماكن تهددها هذه المخاطر بعد أن كانت تُعتبر آمنة. وفي الوقت الذي تستمر فيه جهود الإطراء في التخفيف من حدة التهديد من التغيّر المناخي على المستوى العالمي، إلا أن الأوان قد حان لتقبّل فكرة أن المناخ يتغيّر بصورة لا رجعة فيها، وأنّ علينا التغيير من طريقة تفكيرنا وفقاً لذلك. ولا يكفي أن نستمر في تكويم أكياس الرمل وتجهيز المضخّات في الأقبية وإخماد الحرائق وأن ننتظر عمليات الإنقاذ من الحكومة، بل نحن بحاجة إلى منهجيّة لأصحاب المنازل والشركات وأصحاب الرهونات العقارية والحكومات، أي المجتمع بأكمله، تمكننا من معرفة الأصول التي ينبغي علينا تعزيزها ومن تحديد مسارات العمل التي يمكننا اتخاذها.
لكن يبدو أننا نسلك الاتّجاه الخاطئ للأسف، ففي حين لا توجد شركات تأمين خاصة تؤمّن من مخاطر الفيضانات في المناطق السكانية في فلوريدا وفيرجينيا وغيرها من الولايات الساحلية بسبب ارتفاع منسوب البحر، تواصل البرامج المدعومة من الحكومة ممارسات التأمين على هذه المساكن مثل "البرنامج الوطني للتأمين ضد الفيضانات" (NFIP). وما يزيد الوضع سوءاً هو الافتقار العام إلى القيود المفروضة على المناطق التي يمكن البناء فيها ونوع البناء، إذ إنّ هذا المجتمع الذي يفخر أنّه يتمتع بالإرادة الحرة وتقرير المصير يكره أن يضع ضوابط لأصحاب الملكية حول ما يمكنهم بناؤه على أرضه، خاصة عندما تكون خطة البناء متوافقة مع المعايير الأولية للبناء والتقسيم النطاقي. نتيجة لذلك، نجد أن أعداداً متزايدة من الأفراد تنتقل إلى مناطق في قلب الخطر، مثل السهول الفيضية والمناطق الساحلية المنخفضة والمساحات الغربيّة شديدة الجفاف والمعرّضة لخطر الحرائق.
الخلل الوظيفي بين التغير المناخي وأماكن البناء
ما هو سبب هذا الخلل الوظيفي؟ في المقام الأول، تُعتبر جميع هذه العوامل الثلاثة، أي سياسات الرهونات العقارية والتأمين وتطوير الأراضي، أسيرة النظرة الرجعية، فهي تعتمد على تاريخ التخلف عن سداد القروض وتاريخ مطالبات التأمين وتاريخ الحرائق والفيضانات بهدف اتخاذ القرار. وقد يبدو ذلك منطقياً، إذ يوجد الكثير من البيانات التجريبية الموثّقة التي يمكننا استقاء قرارتنا منها. ولو حاولنا التنبؤ بدلاً من ذلك، سنخاطر في فتح باب التكهنات على مصراعيه بدلاً من مزايا أساليب النمذجة المختلفة، فضلاً عن وجود الكثير من الحوافز السوقية التي من شأنها أن تبقي أسعار المنازل مرتفعةً. لكن تبدو منهجية النظرة الرجعية اليوم عديمة النفع مع تسارع وتيرة المستجدات المناخية وآثارها المتتالية على الأرض.
اقرأ أيضاً: أهمية تضمين ممارسات حشد التأييد في إجراءات الشركات بشأن التغير المناخي
لكن يوجد طريقة أفضل، إذ يشير البحث الذي أجريته وبحوث أخرى إلى وجود خمسة خيارات أساسية عند الاستثمار في القدرة على مواجهة الكوارث، ألا وهي: التدعيم وإعادة البناء والتعافي والحظر والانسحاب. ويمكن استخدام هذه الخيارات معاً باعتبارها أداة داعمة لاتخاذ القرار حول طريقة التصرف بالأصول المعرّضة للمخاطر المناخية.
التدعيم:
غالباً ما يوصى بهذا الخيار بشكل تلقائي لمواجهة المخاطر المتعلّقة بالمناخ، لكنّه لا يعتبر ردّ الفعل المناسب إلا في بعض الحالات. وأبرز مثال على ذلك هو "مركز تكساس الطبي" (TMC) في هيوستن، إذ بعد أن لحقت أضرار جسيمة بالمركز جراء إعصار "آليسون" في عام 2001، استثمر المركز مئات الملايين من الدولارات في تحسينات القدرة على مواجهة الكوارث، بما في ذلك وضع حواجز الفيضانات والجسور المعلّقة ورفع الأجهزة الإلكترونية عن مستوى الأرض وغيرها الكثير. وعندما ضرب إعصار هارفي ولاية هيوستن في عام 2017، غرقت الولاية نتيجة كميّات هائلة من الأمطار، واستمرّ الفيضان المحلّي لأسابيع، إلا أنه وبفضل إجراءات القدرة على مواجهة الكوارث لم يُصب المركز بأي ضرر. كان خيار الاستثمار في التدعيم في هذه الحالة منطقياً، أولاً لأن التكاليف المباشرة وغير المباشرة للتعرض إلى الكوارث كانت ضخمة، كما تمكّن المشفى من زيادة رأس المال على الرغم من أنّ الاستثمارات في القدرة على مواجهة الكوارث لم تكن ستعود بالنفع بشكل مؤكّد، إذ قد لا يضرب المنطقة إعصار ضخم آخر، وثانياً لأنه كان من الممكن تحقيق معدّل إنفاق رأسمال متزايد بالمقارنة مع الميزانية العامة بالكامل. لكن لا يُعتبر كلّ استثمار محتمل في القدرة على مواجهة الكوارث منطقيٌّ اقتصادياً، ولا يمكننا الاستمرار في الإنفاق على سياسات التأمين لمواجهة كوارث مثل ارتفاع منسوب البحار أو هطول الأمطار أو الحرائق إلى الأبد، بصرف النظر عن تكلفة هذه السياسات أو فوائدها. متى ينبغي علينا أن نسلك نهجاً مختلفاً إذاً؟
الانسحاب من أجل إدارة العلاقة بين التغير المناخي وأماكن البناء:
تأمّل هذا السيناريو المعاكس، إذ قررّ عدد من أصحاب المحال التجارية والمطاعم في إيليكوت سيتي في ميريلاند أن يغادروا بشكل جماعي قلب المدينة التاريخي ويتوجّهوا نحو أرض أكثر ارتفاعاً وجفافاً بعد أن ضرب فيضان نهريّ مدينتهم عدّة سنوات متتابعة. كان هذا الخيار هو الخيار الأنسب بالنسبة إليهم، فقد كان للفيضان التراكمي تأثير كبير بالمقارنة مع ميزانياتهم العامة، إذ كان ثمن التدعيم المتمثّل في رفع الأرضيات وبناء جدران عازلة لماء البحر مرتفعاً جداً في الوقت الذي كانت فيه مواردهم قليلة.
التعافي:
تُبنى غالبية الأبنية التجارية والشقق القريبة من المياه في كلٍّ من ميامي وميامي بيتش بارتفاع إضافي للطابق الأول، يسمّى السطح الحرّ، وتوضع التجهيزات الباهظة الثمن في مكان آمن في الطابق الثاني أو في طابق أعلى، في حين يوضع الأثاث والأدوات الأخرى في المستوى الأرضي وفي القبو، وتكون هذه الأدوات قادرة على مواجهة انغمار مؤقت في ماء البحر، حيث يمكن إخراجها وتنظيفها بسرعة ومن ثم إعادتها إلى الخدمة من جديد. وينطبق هذا النهج على ممرّات الألواح الخشبية الشهيرة في ساحة سان مارك في فيينا، فهم لا يلجؤون إلى خيار التدعيم ولا إلى خيار الانسحاب، وإنما يوظّفون جهودهم في سياسة "التأقلم مع المياه" وكيفية النهوض من جديد بأكثر الطرق توفيراً.
اقرأ أيضاً: تقنين استخدام المواد وما يعنيه ذلك بالنسبة للاقتصاد والتغير المناخي
إعادة البناء:
هذا هو الخيار الأساسي الذي اختاره العديد من أصحاب المنازل في هيوستن في تكساس وقاطنو هامتن رودز في ولاية فيرجينيا، إذ قامت "الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ" (FEMA) بدفع تعويضات لإعادة بناء الآلاف من المنازل عدّة مرات. وتُعتبر إعادة البناء خياراً رائعاً، خاصّة إذا كنت ثرياً أو كان بمقدورك الاستفادة من أموال غيرك. لكن يوجد بعض الأسئلة على المدى البعيد: هل ستتوفر هذه الأموال بشكل دائم؟ أم أنها ستُخصص لمن هم في حاجة أكثر من غيرهم، أو فقط إلى الأشخاص ذوي الدخل المرتفع؟ وجاء ذلك بحسب مجلة "يو إس نيوز آند وورد ريبورت" (U.S. News & World Report). ويوجد بالطبع تساؤلات حول المدّة التي سيستمرّ فيها دافعوا الضرائب الآخرون بتقديم المساعدة للقاطنين في المناطق الخطرة. وقد أجاز الكونغرس في السنوات الأخيرة إنفاق حوالي 200 مليار دولار سنوياً لتمويل جهود الإغاثة في حالات الكوارث في كلّ من ولايات كاليفورنيا وآيوا وتيكساس وفلوريدا ونيويورك وبورتو ريكو وغيرها، إضافة إلى تقديم الدعم "للبرنامج الوطني للتأمين ضد الفيضانات" (NFIP). وليس من الواضح فيما إذا كان هذا السخاء سيستمر للأبد وفي حالة العجز.
الحظر: يبدو أنّ هذه الاستراتيجية تتّبعها بالفعل شركات الرهون العقارية والتأمين الخاصة، فهم لا يستثمرون في المناطق المهددة بالخطر، وإنما يُحجمون عن الاستثمار فيها، وجاء ذلك بحسب تقارير الصحف. كما يتجنّب غيرهم من أصحاب الأصول الكبيرة، مثل "صناديق الاستثمار العقاري" وبائعو التجزئة الذين يبحثون عن مواقع لمتاجرهم، شراء الممتلكات أو البناء في مناطق مرتفعة الخطورة. إلا أننا قد نواجه قوانين السياسات العامة أيضاً، على سبيل المثال، أُجبرت شركة "باسيفيك للغاز والكهرباء (بي جي آند إي)" (PG&E) مؤخراً على تحمّل تكاليف الضرر الذي لحق بها إثر حرائق كاليفورنيا. وقد يقدّم أحد ما هنا حجةً قوية مفادها أنه كان على الحكومة حظر بناء هذه المباني من الأساس.
في النهاية، أرى أنه ستتزايد في السنوات المقبلة ضغوطات التوسع في العديد من المواقع الجاذبة، كالمدن الساحلية والولايات الغربية، لهذا سيُجبر الأميركيون على اتخاذ قرارات صعبة. لقد جعلتنا الرهونات العقارية المدعومة والتأمينات الرخيصة بصورةٍ مفتعلة نُقدم على تأجيل الحسابات الصعبة إلى وقت لاحق، لكن إذ رغبنا في تجنّب التعديلات على الأسعار، وما قد يلي ذلك من صدمة اقتصادية، فيجب على جميع أصحاب الأصول في المواقع المحتمل تعرضها للخطر أن يختاروا إحدى الطرق الموجزة أعلاه. ويعتمد اختيارنا للخيار الصائب في كل حالة على الظروف المتاحة ومستوى التعرض للخطر وتكاليف الأضرار المحتملة وتكلفة التدعيم والموارد المتوفرة. ويبقى التحدّي أمام أصحاب المنازل والمستثمرين ورؤساء المجالس البلدية وأمامنا جميعاً في أن نتطلّع إلى المستقبل بدلاً من الماضي، وأن نقوم بالاختيار بأنفسنا قبل أن تقوم الظروف بسلبنا الخيارات المتاحة بين أيدينا.
اقرأ أيضاً: الشباب يتولون زمام قضية التغيّر المناخي وعلى الشركات توخي الحذر