الرئيسة التنفيذية لشركة “23 آند مي” تتحدث عن الصعوبات التي واجهتها في التغلب على العراقيل التنظيمية

11 دقيقة
التغلب على العراقيل التنظيمية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في وقت متأخر من ليلة جمعة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2013، كنت في اجتماع خارجي لمناقشة الاستراتيجية، وتلقيت رسالة نصية من مساعدتي تقول إننا تلقينا مغلفاً عبر البريد من إدارة الغذاء والدواء الأميركية. آنذاك، كانت “23 آند مي” قد أمضت أعواماً في جدل مع تلك الإدارة حول طريقة تنظيم الشركة محاولة التغلب على العراقيل التنظيمية، لذا أقلقني هذا المغلف. فأجبتها برسالة تقول: “لا توقعي على استلامه!” آملة أن أكتسب مزيداً من الوقت، لكنها أجابت: “لقد تأخرت، فأنا وقعت واستلمته بالفعل”. تبين لنا لاحقاً أن المغلف يحتوي على رسالة تحذير غيرت مسار شركة “23 آند مي” إلى الأبد.

وفي صباح يوم الإثنين، نشرت الإدارة رسالتها في الصحف، وهو أمر نادراً ما تفعله بهذه السرعة. وبدأ الصحفيون بالاتصال. ثم اتصل ديفيد كيسلر، المفوض السابق لإدارة الغذاء والدواء الذي كان يقدم الاستشارات للشركة بصورة غير رسمية. قال: “آن، أعلم أنكِ ربما لا تشعرين بالقلق الشديد حيال هذه الرسالة، لكن نصيحتي هي أن تأخذيها على محمل الجد. فالإدارة غاضبة حقاً”.

كان عمر الشركة حينئذ ستة أعوام، وكانت تقدم الاختبار الوراثي (الجيني) المباشر الوحيد للمستهلك مع معلومات تتعلق بالصحة والمخاطر الصحية. وكنا نخوض حوارات مع الجهات الرقابية منذ البداية، لكن كنا قادرين على حل أي خلاف. غير أنه كان من الواضح أن هذه المرة مختلفة، فقد صدر أمر بالتوقف فوراً عن تقديم تقارير عن المخاطر الصحية. اقترحنا بعض التغييرات على طريقة تسويق الاختبار وعرضنا أن يقدم بناءً على طلب الطبيب، لكن الإدارة رفضت، ولم يكن ذلك كافياً.

لطالما أجدت التعامل مع التحديات، لكن هذه المرة شعرت بالعجز. أمضيت الأسبوع التالي وأنا أتصل بالمحامين وجماعات الضغط والخبراء العلميين وسمعت مجموعة متنوعة من الآراء. كان رد فعلي الأول هو الاعتراض على الرسالة، لكن سرعان ما أدركت أن ذلك لم يكن التصرف الصحيح. أجريت اجتماعاً كان ذا أثر تحويلي كبير مع فريق تنظيمي في شركة كبيرة للصناعات الدوائية، حيث طرح أفراده عليّ سؤالاً، وهو: “هل ترغبين بحل قصير الأجل يمكّنك من بيع الشركة والانتهاء من الأمر، أم تريدين البقاء في الشركة لعشرة أعوام أخرى؟” كان جوابي كالتالي: “أنا مع 23 آند مي لعشرة أعوام أخرى وأكثر”، فقالوا: “إذن، فلتجدّي بالعمل وأثبتي للوكالة أن هذا اختبار عالي الجودة يمكن للمستهلك فهمه. فهذا سيوقع أثراً أكبر على القطاع، لكن سيستغرق أعواماً”.

خضعت الشركة لعملية تحول مؤلمة وتغيير كبير، وبقي منتجنا للفحص الصحي خارج الأسواق لعامين ريثما عملنا للحصول على تصريح إدارة الغذاء والدواء وغيرنا البنية التحتية الجوهرية للشركة كي تكون متوافقة مع قوانينها. وظفنا أشخاصاً جدد ودربنا الموظفين للعمل ضمن بيئة منظمة. لم يكن بإمكاننا اتباع أسلوب وادي السيليكون التقليدي المتمثل بالتكرار السريع وطرح المنتج، بل طبقنا نظام الامتثال للقوانين مع المرور بنقاط تحقق لضمان أن نلبي جميع المتطلبات الضرورية.

تغيير الثقافة صعب في أي شركة، وكان الأمر الاستثنائي في حالتنا هو أن الجميع أيد التغيير في نهاية المطاف، ويسألنا الناس كثيراً عن الطريقة التي اتبعناها لتحقيق ذلك. لم يكن هناك أي حل سحري، وإنما يرجع الفضل لرئيسة الشؤون القانونية والتنظيمية في شركتنا، كاثي هيبز، التي عملت مع فريقها على قيادة عملية التحول والالتزام بها. يتحقق التغيير عندما لا تتردد القيادة في رسالتها وتتمكن من جمع الموظفين حول رؤيتها.

شغف بالصحة

لقد ترعرعت في حرم “جامعة ستانفورد”. فوالدتي تدرّس الصحافة في ثانوية “بالو آلتو”، ووالدي عالم فيزياء مختص بالجسيمات في “جامعة ستانفورد”. تعلمنا من والديّ، أنا وشقيقاتي، أن نكون شغوفات بما نفعله في الحياة. وهذا ما دفعنا للسعي وراء وظائف نحبها والعمل فيها بجد. أختي سوزان هي الآن الرئيسة التنفيذية لشركة “يوتيوب”، وأختي جانيت هي أستاذة غير متفرغة مشاركة لمادة طب الأطفال في “جامعة كاليفورنيا” في سان فرانسيسكو.

منذ الصغر، كنت مهتمة بالصحة وجسم الإنسان، وكنت مقربة جداً من طبيب الأطفال الذي كنت أزوره، آلان بيرنستين، وكنت أحب رؤيته وإمطاره بالأسئلة. كان لدى عائلتي نسخة من كتاب “دليل ميرك” (Merck Manual) للتشخيص والعلاج، وكنت أمضي ساعات وأنا أقرأ فيه عن الأمراض. وعندما أصبحت في المرحلة الإعدادية كنت مفتونة بدراسات التوائم، التي تتمعن في اندماج البيئة مع العوامل الوراثية وتأثيره في بنية الإنسان الجسدية وسلوكه.

وبعد انتهائي من المرحلة الثانوية ذهبت إلى “جامعة ييل”، حيث تخصصت في علم الأحياء. أحببت علم الأحياء الجزيئي وكنت أفكر في الحصول على بكالوريوس ودكتوراه في الطب. لكن كان الأطباء الذين تحدثت إليهم يشعرون أن القطاع يتغير للأسوأ، وأن هناك مجالات عمل مثيرة للاهتمام أكثر بالنسبة لي. قمت بأبحاث كثيرة في المختبرات وأحببتها، لكني لم أجد أن شهادة الدكتوراه في الطب هي المسار الأنسب لي. بعد التخرج، عملت في وول ستريت كمحللة في قطاع الرعاية الصحية على مدى عدة أعوام، ثم تركت العمل كي أسافر وأتطوع في مستشفى وأحضر لامتحان القبول في كلية الطب.

الصور: روبرت كولدروود (المكتب)؛ جيسون مادارا (الأنبوب، نموذج الحمض النووي)
الصور من الأعلى وحسب اتجاه عقارب الساعة: مقر شركة ” 23 آند مي” في ساني فيل، كاليفورنيا؛ الأنبوب الذي يستخدمه العملاء لجمع لعابهم وإرساله بالبريد لأجل الاختبار؛ نموذج لجزيء الحمض النووي المفكك بشكل جزئي.

وفي حين كنت أفكر بالتقدم، أتيحت لي فرصة للعودة إلى التمويل في صندوق تحوط، حيث قمت باستثمارات واسعة في مجال الرعاية الصحية، وفي التكنولوجيا الحيوية والصناعات الدوائية والأجهزة الطبية والمستشفيات ودور رعاية المسنين وشركات إدارة المزايا الصيدلانية. كان الاستثمار طريقة ممتازة كي أفهم قطاع الرعاية الصحية في أثناء سعيي لاكتشاف خطوتي التالية. ومع استمراري بالتعرف على شركات الرعاية الصحية أيقنت أن القطاع لا يمثل اهتماماتي الحقيقية. التقيت بكثير من الأشخاص المذهلين، وكانوا يرغبون بصدق في تغيير قطاع الرعاية الصحية، لكن الحوافز المالية للنظام الكلي لا تعمل بهدف الحفاظ على صحة الناس. شعرت أن هناك مشكلة في ألا يجني أحد المال من بقائي بصحتي، في حين تجني شركات كثيرة المال حينما أمرض.

تدرس جانيت البدانة الوبائية ويمكنها التحدث عن التكاليف المرافقة لها وتأثيرها على الحياة. وبإمكاني من منظور وول ستريت أن أتحدث عن الفرص المتاحة لتحويل جميع الأمراض المترافقة التي تنتج عن البدانة إلى نقود، والسبب الذي جعل داء السكري المتنامي في العالم دافعاً للاستثمار في قطاع الرعاية الصحية.

لكني عرفت أن عليّ القيام بشيء مختلف. أمضيت أيامي وأنا أفكر بطريقة لتغيير النظام، فتيقنت في النهاية أن النظام غير قابل للتغيير. إذا أردت أن تغير نظام الرعاية الصحية، فعليك البدء بالبناء خارجه كلياً.

لطالما فتنني علم الوراثة في بحثي، وكان العلماء قد تمكنوا مؤخراً من وضع خارطة الجينوم البشري، وكان هناك حماس هائل بشأن ما سينتج عنها. كنت أجري بحثاً عن شركة تدعى “آفيميتريكس” (Affymetrix) كانت رائدة في ابتكار أول مصفوفة جينوم متكاملة، وهي طريقة منخفضة التكلفة لدراسة عدد من الاختلافات المعروفة بين البشر.

أتذكر محادثة أجريتها في أواخر عام 2005 مع أحد طلاب أبحاث ما بعد الدكتوراه في “معهد برود” (Broad Institute)، وهو مركز أبحاث الجينوم في جامعة كامبريدج في ماساتشوستس، إذ قال فيها: “آن، نحن على شفا ثورة. نحن على وشك فهم كل شيء”.

بعدها، تناولت العشاء مع خبير آخر في علم الوراثة كان يدرس داء السكري في جزيرة صغيرة في المحيط الهادئ. كان 100% من سكان الجزيرة تقريباً مصابين بالبدانة، ولكن 80% منهم فقط مصابون بداء السكري. ما الذي يحمي نسبة 20% المتبقية؟ كان الجواب على الأغلب متعلقاً بالعوامل الوراثية. قال لي: “لدي كثير من البيانات المختلطة، لكنها ليست كافية لفهم كل شيء”. لو كان لدينا مزيد من بيانات الصحة العالمية، لكان بإمكاننا فهم كل شيء.

كنت حينئذ أبلغ 32 عاماً، وأعيش في سان فرانسيسكو، وكنت قد بدأت للتو بالتعرف على سيرجي برين، وهو شريك مؤسس لشركة “جوجل”. وكنت محاطة بأشخاص ينشئون شركات تستخدم البيانات بطرق مثيرة للاهتمام أو يعملون فيها. بعض أصدقائنا كانوا موظفين في شركات الشبكات الاجتماعية، وتعلمت منهم عن الويب 2.0 وقوة الشبكات الاجتماعية. كان امتزاج هذه القوة مع المعلومات الوراثية قليلة التكلفة يشير إلى فرصة للقيام بأمر ثوري في الأبحاث.

وفي ذاك الوقت تقريباً تعرفت على ليندا إيفي وبول كوسينزا. كانا يتحدثان حينها عن إنشاء شركة تقدم اختباراً وراثياً للمستهلكين مباشرة، وانضممت إليهما كشريكة في التأسيس. بعد سنوات من الشعور بالاستياء من نظام الرعاية الصحية والعجز عن فعل أي شيء حياله، أيقنت أني على الطريق لتجربة شيء مختلف قد يكون ثورياً. سمينا الشركة “23 آند مي”، نسبة لعدد أزواج الصبغيات التي تشكل الحمض النووي.

هل هو “أداة طبية”؟

أمضينا العام الأول في السفر من مكان إلى آخر، لمقابلة العلماء وجمع هيئتنا الاستشارية. عملنا مع كثير من الخبراء حول الأخلاقيات والخصوصية والمسائل القانونية، فقد شعرنا بمسؤولية تفرض علينا القيام بالأمر على النحو الصحيح منذ البداية، لأننا كنا نعرف أن الناس سيشعرون بالخوف. فهل هناك أمر أشد ارتباطاً بخصوصية الإنسان من حمضه النووي؟ وبنينا علاقات مع الجهات التنظيمية.

كانت المسألة الرئيسية تتعلق بما إذا كان يجب اعتبار الاختبار الذي نقدمه أداة طبية، أي أنه يندرج تحت تصنيف يخضع لقوانين إدارة الغذاء والدواء الأميركية. الأداة الطبية هي “كل ما يستخدم في تشخيص الأمراض وغيرها من الحالات الصحية، أو في العلاج أو الحد من الأمراض ومعالجتها أو الوقاية منها لدى الإنسان أو غيره من الحيوانات”. لم يكن واضحاً ما إذا كان هذا الوصف ينطبق على منتجنا أم لا. العصا الخشبية المستخدمة في الحلوى ليست أداة طبية، لكن إذا استخدمت كخافضة للسان، تصبح أداة طبية. كان اختبارنا الوراثي يخبر الناس عن المخاطر الطبية التي يحتمل إصابتهم بها، لكنه لم يهدف لتشخيص الأمراض أو معالجتها. إذن، هل كان “أداة طبية”؟

ناقشنا ما إن كان الوعاء الذي يستخدمه المستهلك لجمع لعابه وإرساله لنا بالبريد يعتبر أداة طبية، وما إذا كان الاختبار يعتبر أداة طبية، وما إن كانت المعلومات التي نقدمها تخضع لقوانين إدارة الغذاء والدواء. أجرينا عدة مقابلات شخصية مع مسؤولين من إدارة الغذاء والدواء، وكان هدفنا أن نكون على قدر كاف من الشفافية وأن نكون منفتحين على الاستماع إلى آرائهم. كانت هذه منطقة جديدة بالنسبة لهم أيضاً، ونوه آندرو فون إشنباخ، الذي كان مفوض إدارة الغذاء والدواء حينئذ، إلى أن الوكالة لم تعتبر أن اختبارنا خاضع لقوانينها. فهمنا من هذه النقاشات الأولى أن ما نقترحه لا يتطلب مراجعة إدارة الغذاء والدواء له قبل طرحه للتداول في السوق.

لم أدرك مدى تأثير السياسة الشديد في طريقة تنظيم القطاعات إلا بعد ذلك بأعوام. ففي عهد إدارة جورج دبليو بوش، كان لدى إدارة الغذاء والدواء أوامر بعدم المبالغة في الإجراءات التنظيمية، وفي عهد الرئيس أوباما، زادت الوكالة إجراءاتها الرقابية. وبحلول عام 2010، وبعد أن بدأت شركة منافسة هي “وولغرينز” ببيع اختبار الحمض النووي، بدأ مجلس الشيوخ بعقد جلسات الاستماع.

وضح مفوض إدارة الغذاء والدواء الجديد أن علينا الخضوع لقوانينها. وفي اجتماع عام مع إدارة الغذاء والدواء في عام 2010، قلنا إننا سنمتثل لقوانين الوكالة وسنشارك في التوصل إلى الطريقة المناسبة لتنظيم شركتنا. فالجهات التنظيمية بحاجة إلى المعلومات من الشركات كي تتمكن من فهم الفروق الدقيقة في العمل الذي تقوم به. ساعدنا إدارة الغذاء والدواء في صياغة المعايير والقوانين التي بدت منطقية، وكنا نعتقد أننا نحرز تقدماً. لكن عندما نستذكر ما حدث، يبدو لنا جلياً أننا كنا أبعد مما ظننا عن التوافق مع الوكالة.

بحلول عام 2013، كانت شركة “23 آند مي” تبلي بلاء حسناً. كنا قد بعنا نصف مليون مجموعة فحص للحمض النووي وجنينا أكثر من 126 مليون دولار لتمويل المشاريع. بعد أعوام من النمو البطيء، كان السوق قد بدأ بالانطلاق. ثم، فجأة، أتت رسالة التحذير تلك.

نهج الشاطر

حتى الآن، لست واثقة تماماً من سبب هذا التغير الكبير والسريع في رأي إدارة الغذاء والدواء بشركة “23 آند مي”. كنا نروج لمنتجنا الجيني بصورة مكثفة عن طريق إعلانات التلفاز والرسائل البريدية إلى المنازل وبعض أغلفة المجلات، لكن لا أعتقد أن السـبب كان أياً من ذلك، وإنما كانت كلها مجتمعة. مهما كان السبب، عندما استلمنا الرسالة كانت الوكالة قد فقدت صبرها.

حالفنا الحظ لأن منتجنا استخدم لغرضين هما مساعدة الناس في فهم أصولهم العرقية وأسلافهم، وفهم ما تتنبأ به جيناتهم فيما يتعلق بصحتهم. كانت إدارة الغذاء والدواء تجبرنا على التوقف عن بيع المنتج الصحي، لكن كان بإمكاننا الاستمرار ببيع منتج الأسلاف، وكان بإمكان زبائننا باستمرار الحصول على معلومات عن أحماضهم النووية غير المفسرة.

ساعدت حملتنا على التلفاز في حصولنا على عدد كبير من الطلبات بصورة استثنائية، أكثر من 200 ألف طلب في غضون بضعة أشهر قبل وصول رسالة التحذير، وكان مختبرنا مكتظاً بهذه العينات. كان بإمكان إدارة الغذاء والدواء منعنا من إجراء الاختبارات والإصرار على أن نعيد الأموال للمستهلكين، وكان أثر ذلك سيكون كارثياً على الشركة وربما كان سيؤدي بنا إلى الإفلاس. لكنها لم تفعل ذلك، إذ كان مسموحاً لنا إرسال النتائج الصحية للزبائن الذين اشتروا الاختبار قبل 22 من نوفمبر/تشرين الثاني، 2013. اعتبرت ذلك إشارة إلى أن الوكالة أرادت العمل معنا وأنها ترى إمكانات كبيرة في منتجنا الجيني.

علمنا من أشخاص تربطهم علاقات بإدارة الغذاء والدواء أن بعض المسؤولين فيها كان لديهم شعور قوي بأن عليهم السيطرة على شركة “23 آند مي” وكبح جماحها. فتواصلنا مع مستشارين في القطاع كانوا يعرفون الوكالة جيداً ويفهمونها وتربطهم علاقات قوية ببعض موظفيها. كنت أرغب ببدء حوار معهم، لكن بعضهم لم يرغبوا بالتحدث معنا حتى. عندما راسلت واحدة من المستشارين، ردت بالرسالة التالية: “أنا لست من المعجبين بشركة 23 آند مي”. تابعت إرسال الرسائل، وحصلت على كثير من الأسباب التي تدفعها هي وغيرها لعدم الإعجاب بما قمنا به. كان بدء هذا الحوار مع المعارضين مهماً كي أفهم تماماً ما يجب أن أتوقعه والتوقعات التي يجب علينا تلبيتها، وأثبت أن رغبتنا في حمل المسؤولية والعثور على مسار للتقدم كانت حقيقية وصادقة.

ترأست كاثي هيبز العمل مع إدارة الغذاء والدواء، وكنت قد وظفتُها بمنصب المستشار القانوني الأول بعد بضعة أشهر من تلقي رسالة التنبيه. أمضت كاثي أكثر من 10 أعوام كمستشارة قانونية وعملت مع شركتين أخريين في مجال علم الوراثة، كما عملت أيضاً في قطاع الأدوات الطبية. كانت مرشحة مثالية للوظيفة. والأهم هو أنها رأت الإمكانات الكبيرة فيما كنا نحاول فعله بأسلوب عملنا المباشر مع المستهلكين وأبحاثنا. وكانت تؤمن بقدرتنا على أن نثبت لإدارة الغذاء والدواء أن اختبارنا دقيق ويمكن للمستهلكين فهمه من دون مساعدة طبيب أو مستشار في علم الوراثة. كان انضمامها إلى الشركة نقطة تحول كبيرة. على الرغم من أن المهمة الجوهرية للشركة لم تتغير، فقد علمنا أن علينا اتباع نهج مختلف كي نثبت لإدارة الغذاء والدواء أن منتجنا الجيني آمن للمستهلكين.

لم يبد لي نهج الإدارة منطقياً في البداية، لكن كاثي تمكنت من تبسيطه ومساعدتي على فهمه. ومع توليها المسؤولية، لم أحضر الاجتماعات بشأنه إلا عند الضرورة. كان من الضروري أن أقدم لها دعماً قوياً من دون أن أقود عملية التحول بنفسي.

لقد أتحنا للملايين منهم المشاركة في الأبحاث، ما جعل شركة “23 آند مي” أكبر مجتمع لدراسة العوامل الوراثية في عالم الأبحاث.

وفي سبيل الحصول على ترخيص إدارة الغذاء والدواء، كان علينا الاتفاق معها على المتطلبات التي يجب أن نفي بها. وفي النهاية، ركزنا على إثبات نقطتين؛ الأولى أن الاختبار سليم، والثانية أن الزبائن قادرون على فهم النتائج التي نرسلها إليهم.

كان إثبات صحة اختبارنا وبياناتنا عملية واضحة عموماً ومبنية على ما سجلته المنتجات الجينية الأخرى في مراجعات ما قبل الطرح في الأسواق. بيد أن التحدي الأكبر تمثل في التوصل إلى طريقة لإثبات أن المستهلك المتوسط في الولايات المتحدة قادر على فهم نتائج اختبارنا وطريقة تفسيرها بوضوح. لذا، أجرينا دراسات على فهم المستخدم، وأجرينا دراسات استقصائية على مئات الأشخاص، من جميع الأعمار ومن مختلف الأصول العرقية والخلفيات الثقافية، وطرحنا أسئلة معيارية لمعرفة ما إذا كانوا يفهمون المعلومات، ويفهمون أن امتلاك عامل وراثي يعني زيادة احتمال الإصابة بمرض معين، وأن عدم وجود العامل الوراثي لا ينفي الخطورة. أثبتنا مرة تلو الأخرى أن التقارير التي نقدمها يمكن فهمها فعلاً بنسبة لا تقل عن 90%.

في فبراير/شباط من عام 2015، بعد نحو 15 شهراً من استلام رسالة التحذير تلك، تلقت شركة “23 آند مي” أول ترخيص تصدره إدارة الغذاء والدواء يتيح البيع المباشر لاختبار جيني يوضح حالة العوامل الوراثية التي يحملها المستهلك، ما يساعده على معرفة العوامل التي قد لا تؤثر على صحته هو وإنما قد تؤثر على صحة عائلته في المستقبل. وبعد عامين، تلقينا أول ترخيص من إدارة الغذاء والدواء لإصدار تقارير حول المخاطر الصحية الوراثية تقدم معلومات للمستهلكين عن احتمالات إصابتهم بمشكلات صحية معينة. ومنذ ذاك الوقت، أضفنا أمراضاً كالتي تظهر في مراحل متأخرة كداء ألزهايمر وباركنسون، وبناءً على ترخيص آخر من إدارة الغذاء والدواء، أضفنا المتغيرات في العاملين الوراثيين (BRCA1) و(BRCA2) التي تشير إلى ارتفاع احتمالات الإصابة بسرطان الثدي أو المبيض أو البروستاتا. وفي خريف عام 2018، منحتنا إدارة الغذاء والدواء الترخيص الوحيد لتقديم معلومات للمستهلك مباشرة حول علم الوراثة الدوائي، أي طريقة تأثير العوامل الوراثية لدى المستهلك في طريقة استجابته لأدوية معينة.

رؤية طويلة الأمد

أميل بطبعي لرؤية الجانب المشرق من كل شيء، وذلك ينطبق بالتأكيد على التجربة التي خضناها مع إدارة الغذاء والدواء. فقد زادت من قوة شركتنا وأدت إلى صنع منتج أفضل يلبي معايير أعلى، والفريق الذي حقق ذلك واجه التحدي وتعلم ما لم يكن يعرفه ونفذ الخطة بدقة. وأكثر ما أفتخر به هو مناصرتنا لحصول الناس على الاختبار بصورة مباشرة، فأنا أؤمن أن الناس على اختلاف مستويات ثقافتهم قادرون على تولي مسؤولية صحتهم.

ومن خلال تقديم منتج يسير التكلفة للمستهلك مباشرة، مكّنا ملايين الأشخاص من معرفة معلومات حول أحماضهم النووية والأمراض التي يحتمل إصابتهم بها، الأمر الذي ساعدهم على اتخاذ الفحص النافي للجهالة لوقاية أنفسهم منها. كما أتحنا للملايين منهم المشاركة في الأبحاث، ما جعل شركة “23 آند مي” أكبر مجتمع لدراسة العوامل الوراثية في عالم الأبحاث. ونشرنا أكثر من 150 دراسة وأنشأنا فريقاً خاصاً لتطوير علاجات جديدة بناءً على المعلومات الجينية.

مثلاً، عند انتشار جائحة “كوفيد-19” في بداية عام 2020، بدأنا سريعاً بدراسة تهدف لمعرفة ما إذا كانت هناك أي عوامل وراثية ترتبط بظهور الأعراض الحادة لدى المصابين بالفيروس. وفي غضون خمسة أسابيع، سجلنا في دراستنا قرابة نصف مليون شخص ومنهم عدة آلاف ممن تأكدت إصابتهم بفيروس كورونا. لا تقتصر دراستنا على العملاء الحاليين لشركة “23 آند مي”، وإنما سعينا لإشراك 10 آلاف شخص آخر ممن كانوا يتلقون علاج “كوفيد-19” في المستشفيات. من الممكن ألا نتوصل إلى ارتباط قوي بين العوامل الوراثية واختلاف شدة الأعراض، لكننا نعلم من أبحاث سابقة أن العوامل الوراثية لها دور في قابلية الإصابة بأمراض معدية أخرى وشدة أعراضها، ومنها الملاريا والنوروفيروس (norovirus). وبناءً على ما سنتوصل إليه، قد تتمكن النتائج من المساعدة في تقييم الاختلافات في احتمالات الإصابة بين الأشخاص وفي طرق علاج الفيروس بين المرضى.

مضى 13 عاماً منذ أنشأنا الشركة، وتواصل معنا آلاف الزبائن كي يخبرونا عن التغيير الذي أحدثته شركة “23 آند مي” في حياتهم وإنقاذها لهم في بعض الأحيان، لقد تمكن الشركة من التغلب على العراقيل التنظيمية. وتتمثل رسالتنا اليوم في مساعدة الناس على فهم فوائد الجينوم البشري، وستبقى رسالتنا هي منارتنا على الدوام. أشعر وكأننا بدأنا للتو.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .