أرشيف مشروع أبولو/وكالة ناسا (NASA)
أوقفت جوجل في يناير/كانون الثاني مشروع "تايتان" (Project Titan)، المبادرة الهادفة لتغطية الأرض بشبكة الإنترنت اللاسلكية عن طريق الاستعانة بالطائرات المسيّرة التي تعمل بالطاقة الشمسية. وكان هذا المشروع الأخير ضمن مجموعة من المشاريع الطموحة التي أوقفتها جوجل. وبالإعلان عن ذلك، خلص البعض في وسائل الإعلام إلى أن مشروع جوجل الطموح كان مهملاً في الأساس.
"المشاريع الطموحة" (Moonshots) هو المصطلح الذي تُفضّله الذراع الاستكشافية للشركة والمعروفة باسم إكس (X)، والتي تذكر على موقعها الإلكتروني ما يلي: "تتمثل مهمتنا في ابتكار تقنيات (المشاريع الطموحة) وإطلاقها والتي نرجو أن تتمكن يوماً ما من جعل العالم مكاناً أفضل بشكل جذري".
يُعد مفهوم المشاريع الطموحة فكرة جذابة بشكل كبير، سواء كنت مؤسسة تعمل على الابتكار في السوق أو منظمة غير ربحية تتناول المشاكل الاجتماعية أو حكومة تحاول الإدارة بشكل أفضل. ويجب أن نكون قادرين على التفكير بعمق وتنفيذ تلك الأفكار بنجاح مهما كان قطاعنا أو تركيزنا، وإلا فنحن عالقون في القيام بتحسينات متزايدة.
ولكن المشاريع الطموحة مرتفعة التكاليف وعالية المخاطر، كما يوحي اسمها. إذ تبدو أحياناً كمجال خاص يقتصر على الأشخاص الخارقين والمتفائلين المضللين. كيف يمكننا أن نحصل على الصيغة الصحيحة للمشاريع الطموحة لإتاحة هذا النهج للابتكار الرائد؟ وكيف يمكن لشركتك القيام بذلك بشكل صحيح إذا كانت جوجل تبدو غير قادرة على جعل مصنع المشاريع الطموحة الخاص بها ينجح؟
في البداية، يمكننا أن نتعلم شيئاً من خلال مراقبة طريقة نجاح مشروع ناسا الطموح الأساسي.
بدأت مساعي ناسا للصعود على سطح القمر في مايو/آيار من عام 1961، مع إعلان الرئيس جون كينيدي أن الولايات المتحدة ستضع رجلاً على القمر خلال عشرة أعوام. في ذلك الوقت، تساءل المكلفون بتحقيق ذلك الهدف ما إذا كان تحقيقه ممكناً. وبعد ثمانية أعوام وإنفاق 24 مليار دولار أميركي (150 مليار في مقاييس وقتنا الحالي)، هبط نيل أرمسترونغ على سطح القمر بينما شاهده 600 مليون شخص على أجهزة التلفاز. وسُمّي هذا الهبوط أعظم إنجاز تكنولوجي في تاريخ البشرية.
من الواضح أن هذا الإنجاز كان مشروعاً طموحاً بالمعنى المجازي والحرفي كذلك. ويبدو ظاهرياً كما لو أن مشروع وكالة ناسا حقق أمراً يكاد يكون مستحيلاً بشكل عجيب. ولكن عندما تُمعن النظر، سترى أنه لم يكن هناك شيء خيالي للغاية حيال ذلك. في الواقع، تمّ ذلك في معظمه بواسطة التفكير السليم والعزيمة. ويمكن أن ينطبق نهج كهذا على مؤسستك وأقصى طموحاتها.
هذه بعض الدروس المستفادة من مشروع وكالة ناسا الطموح:
توجيه الطاقات الموجودة. عندما أطلق الرئيس كينيدي مبادرة الصعود إلى سطح القمر، كان برنامج الفضاء الأميركي جارياً بالفعل لمدة عامين، وكان مشروع ميركوري (Project Mercury) قد أرسل مؤخراً رجالاً إلى الفضاء. لم يكن الرئيس كينيدي يرسم مساراً جديداً من الصفر؛ بل كان يوجه الكفاءات القائمة لتحقيق النتيجة المرجوة، مع هدف مركّز. لإيجاد مشاريع طموحة ناجحة، لا تبدأ من مرحلة التخطيط الأولي. بل اعط التوجيهات والطموح والأهمية إلى المبادرات التي هي قيد الإعداد بالفعل.
تجنُّب الأسلوب التوجيهي. عندما حدد كينيدي الهدف، أوجز عبارات محددة (ضع رجلاً على القمر وأعده سالماً) وأعطى مهلة محددة (قُم بذلك بحلول نهاية العقد). وخلافاً لذلك، ترك المجال مفتوحاً فيما يتعلق بكيفية تحقيق ناسا لذلك الهدف. ناقش موظفو ناسا الطريقة المثلى للقيام بالأمر في كل مرحلة. هل يجب إطلاق مركبة من الأرض؟ أو تجميعها في الفضاء؟ أو إرسال مركبة قمرية مستقلة لتهبط على سطح القمر بينما تدور المركبة الفضائية ذاتها؟ كان من المحتمل أن يُظهِر كل قرار الفرق بين النجاح والفشل؛ والأهم من ذلك، تُركت مسألة اتخاذ القرارات بيد الأشخاص الذين كانوا أقرب إلى التحديات والذين يمكنهم الإجابة عنها بالشكل الأنسب. لإيجاد مشاريع طموحة ناجحة، حدّد ماهيتها وزمانها، ودع سبل تحقيقها للأشخاص الأقرب إلى المشكلة.
اتخاذ خطوات بسيطة في سبيل الأفكار العظيمة. كان مشروع ناسا الطموح عبارة عن مجموعة من 23 مهمة فردية صغيرة النطاق. أُجريت 12 مهمة ضمن مشروع جمناي (Gemini missions) و11 مهمة أبولو (Apollo missions) منذ عام 1961 وحتى الهبوط على سطح القمر في عام 1969، وكان لكل منها الفرق وخرائط الطريق والأهداف والنجاحات والإخفاقات الخاصة بها. أتاح هذا لوكالة ناسا أن تقيس نتائج كل خطوة في هذا السبيل بشكل ملموس، في حين تهيئ جدران حماية بينها لاحتواء الخسائر في حال الفشل. تُشكّل أفضل المشاريع الطموحة مجتمعة سلسلة من المشاريع أو الأهداف الأصغر حجماً بكثير من أجل خدمة تصوّر واحد ضخم.
الحصول على عائدات على استثمارك في أثناء العمل. كان كينيدي واضحاً منذ البداية في قوله أن العائد الحقيقي على الاستثمار لمشروع الهبوط على سطح القمر سينتج عن هزيمة الاتحاد السوفييتي في السباق إلى الفضاء. ولكن أبرزت كل مهمة إضافية تفوّق الولايات المتحدة على السوفييت في الفضاء، مانحة الولايات المتحدة عائدات على استثماراتها بفاعلية خلال المسيرة بأكملها. طوّر هذه الأنواع من المشاريع بحيث لا تحصل على العائدات عند نهايتها فقط.
العمل مع الآخرين. على الرغم من توظيف ناسا لـ 35,000 شخص تقريباً وتكليفها فريقاً مؤلفاً من أفضل المهندسين في العالم إبان الأعوام التي أجرت فيها مشاريع جمناي وأبولو، شاركت 12,000 شركة كبرى في إنجاز مشروع الصعود إلى سطح القمر. بُنِي صاروخ ساتورن 5 (Saturn V) وحده من قبل ثلاث شركات مختلفة. وحشدت ناسا كل شريك محتمل لتكوين بيئة عمل متكاملة وضخمة مؤلفة من الخبراء المختصين الذين يعملون من أجل تحقيق هدف واحد. احصل على أفضل الخبرات الممكنة من خارج مؤسستك لتضيفها إلى خبراتك الأساسية.
الإبلاغ عن التقدم المحرز باستمرار. حوّلت ناسا نفسها من وكالة حكومية سرية إلى جهاز للعلاقات العامة والتسويق عندما تعهدت مشروع بلوغ القمر، ولم تحشد موظفي العلاقات العامة العاملين لديها فحسب، بل شركاءها أيضاً من قبيل آي بي إم (IBM) وبوينغ (Boeing) لمساعدتها على نشر الخبر. قامت هذه الشركات بذلك على أساس أن دافعي الضرائب الأميركيين، الذين مثّلوا أصحاب المصلحة في النهاية، بحاجة لأن يفهموا ويهتموا بالمهمة وتطورها. اِحرص على أن تروي قصتك بأسلوب جيد للأشخاص الأكثر أهمية.
إذا تمعنت في حالات النجاح الكبرى في يومنا الحالي – مثل آيفون (iPhone) وخدمات أمازون ويب (Amazon Web Services) وسبيس إكس (SpaceX) – لوجدت أنه يتم اتباع مناهج مشابهة. (أعلنت شركة سبيس إكس للتو - التي أخذت بتقليد القواعد التي تتّبعها ناسا - أنها ستُرسل السيّاح في رحلات حول القمر في عام 2018). لم تَقُم هذه المشاريع والمؤسسات التي تديرها على إتقان التقنيات الصعبة بشكل عجيب فقط، بل على الاستفادة من المعارف والخبرات والطاقة القائمة لخدمة بعض الأهداف الكبيرة.
تقتضي هذه الأوقات حلولاً جريئة للمشاكل الكبيرة والفرص الكبيرة. ونحن بحاجة إلى مشاريع طموحة، إلا أننا بحاجة إلى مشاريع طموحة فاعلة بدرجة أكبر. ويجب ألا يكون تحقيق ذلك مستحيلاً، بل يجب أن يتعلق الأمر فقط بفهم التدابير الصحيحة الواجب اتخاذها ومتابعتها.