تعاني الأجيال الأكبر سناً من أجل "فك شفرة" زملائهم الأصغر منهم. والتعبيرات مثل "صعب الإرضاء" أو "مدلل" أو "موهوب لكن كسول" هي مجرد أمثلة للعبارات التي نسمعها من المدراء والمتخصصين في الموارد البشرية، حيث يصفون بها موظفي جيل الألفية وجيل ما بعد الألفية الذين تتراوح أعمارهم بين العشرينات والثلاثينات. فهل يمكننا إلقاء اللوم على زملائنا الأكبر سناً؟ وكيف يمكنهم إرساء ثقافة الولاء بين هؤلاء الموظفين الشبان في الوقت الذي تنقّل فيه جيلنا بين 4 وظائف على الأقل قبل أن يصل إلى سن الثانية والثلاثين؟ وما الذي يتعين القيام به مع موظفين يتوقعون زيادة في الراتب أو ترقية كل عام، ويرغبون في إجازات تتيح لهم إشباع عدد لا يحصى من الاهتمامات؟
نحن كزملاء في العمل نجد أنفسنا على طرفي نقيض عند إجاباتنا عن الأسئلة السابقة. يعمل أحدنا مسؤولاً تنفيذياً للموارد البشرية ولديه 30 عاماً من الخبرة اكتسبها عبر العمل في العديد من البلدان، ولكنه عمل لدى أربع جهات عمل فقط. وهذا آخر يبلغ من العمر 32 عاماً وهو متخصص في المجال الإعلامي ويبلغ متوسط فترات خدمته في كل عمل حتى الآن أقل من ثلاث سنوات، ما يعني أنه في 10 أعوام قام بتغيير وظيفته بوتيرة أكبر من زميله في 30 عاماً.
ولكن عندما بادرنا إلى أن يفهم كل منا جيل الآخر، اكتشفنا أنّ الاختلافات بيننا وبين الجيل الذي نمثله من الناحية الرمزية ليست عميقة إلى هذا الحد. وهذا أمر مهم لأنه مع وجود خمسة أجيال تعمل حالياً جنباً إلى جنب، ليس علينا أن نقلق بشأن جيل الألفية فحسب، بل علينا أيضاً أن نقلق بشأن الأجيال السابقة واللاحقة له كذلك.
في حقيقة الأمر، نحن نرغب أساساً في تحقيق الأشياء نفسها في العمل وهي: الشغف والحب لما نقوم به، وتعلم الجديد كل يوم، ومساعدة الآخرين في مسيرتهم العملية، وكل ذلك مع توافر الإحساس العميق بوجود هدف وغاية. وقد توصلنا إلى هذه الاستنتاجات لا من خلال المقارنة بين تفضيلاتنا الشخصية فحسب، بل من خلال إجراء مقابلات مع المئات من أبناء الأجيال الأخرى.
كيف يمكننا تحقيق الانسجام بين الأجيال المختلفة؟ فيما يلي أهم 3 رؤى نقدمها لكم:
1- حب الوظيفة أهم من المقابل المادي
يكمن الجزء الأول من الإجابة في حسن تفسير الرسائل التي نرسلها، نحن الشباب، حول ما "نحبه" في وظائفنا.
عندما يرى المدراء من جيل الخمسينات والستينات الموظفين الشباب ممن يتنقلون باستمرار بين الوظائف، ويقرأون أنهم يفعلون ذلك لتحسين دخولهم، فقد يستنتجون من ذلك أنهم في "حرب اقتناص المواهب"، والتي لا ينتصر فيها إلا من يعرض راتباً أعلى من الآخر على الموظفين الشباب. وبالنظر إلى نتائج استطلاع غلوبال شيبرز (Global Shapers) "المشكّلون العالميون" الذي أجرته مؤسستنا في العام 2017، نجد أنّ "الراتب" يعتبر في الواقع أحد أهم المعايير بالنسبة للشباب عند التفكير في فرص العمل؛ حيث أشار نصف المشاركين تقريباً من جميع أنحاء العالم إلى أنّ المقابل المادي يأتي في قمة اهتماماتهم.
لكن ذلك لا يعني أننا مرتزقة لا نأبه سوى للمال، حيث يأتي "الشعور بالهدف والغاية" و"التأثير في المجتمع" في المرتبة الثانية بين الأولويات في استطلاع الرأي، حيث اختاره 40% من أبناء جيل الألفية ضمن أولوياتهم القصوى. كما أشاروا أيضاً إلى أنّ "التطور الوظيفي" و"التوازن بين العمل والحياة" باعتبارها من الأولويات الهامة لتوجيه اختياراتهم المهنية، بمعدل 4 و3 من كل 10 مشاركين على التوالي.
إنّ فكرة تحكم المال بشكل أساسي في اتخاذ القرارات المهنية ربما تعكس على نحو أوضح أيديولوجية جيل أكبر سناً من جيل الشباب. فقد أخبرنا رئيس تنفيذي من جيل الخمسينات والستينات ممن أجرينا مقابلات معهم أنه كان يرغب في مضاعفة راتبه كل أربع سنوات عندما كان شاباً. وأكد آخرون ذلك المنظور أيضاً: فقد كانوا يعتبرون المقابل المادي هو الأساس المطلق للبقاء في الوظيفة قبل وقت طويل من جيل الألفية.
إذاً، ليس مستبعداً بعد ذلك التفكير بأنّ يكون ذلك التوجه في جيل الشباب نحو الاهتمام الأساسي بالمقابل المادي في الحياة المهنية قد حدث تحديداً بسبب تطبيق الأجيال الأكبر سناً لنظام حوافز من أجل جذب الجيل الأصغر للعمل، ويحذو هؤلاء الشباب حذوهم. عندما نخبر جيلاً أصغر بأنّ المال هو كل ما عليهم التفكير به، فلماذا نتفاجأ عندما نراهم يطبقون هذا الدرس؟ وهناك قضية جدلية قرأنا عنها في السابق تفيد بأنّ: جيل الأنا الذي صنع بعد ذلك جيل الأنا أولاً ثم أنا ثم أنا قد اكتشف الآن أنه يتعامل مع نسخة مكبرة من نفسه.
ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون المال هو العنصر الحاسم الذي يتخذ الفرد على أساسه قرار البقاء في العمل أو تركه. وتهتم الأجيال الأصغر سناً بالفعل في غالبية الأحوال بعوامل أخرى غير مادية، مثل مرونة الإجازات، أو جدول العمل الذي يسمح بالتوازن بين الحياة والعمل، أو المهام الهادفة، لو أنّ هذه الامتيازات أُتيحت أمامهم. وحتى إذا غادر الموظف بسبب المقابل المادي، فربما لو قدم له صاحب عمله الحالي عرضاً أكثر فائدة وتوازناً لتمسك به ولم يتركه.
وبالنسبة للأجيال الأصغر سناً، فمن الجيد أيضاً أن نتذكر أنّ أموراً مثل العلاقة الجيدة مع زملائنا والعمل مع مدير نحترمه ونثق به تماماً تشكل أهمية كبيرة لنا. ونكرر، يمكن أن يلتحق الموظف بشركة ما من أجل المال، لكنه يغادر بسبب رئيسه في العمل. ومن خلال حواراتنا مع موظفي جيل الألفية والجيل الذي يليه أدركنا أنّ معظمنا يبحث عن التقدير الشخصي بقدر ما يبحث عن المقابل المادي. ففي بعض الأوقات، يكون لكلمة "شكراً" أثر أكبر من المتوقع.
وقد رأى أحدنا هذا المنطق في الواقع العملي عندما أخبرته صديقته الطموحة كيف قررت البقاء في الشركة متعددة الجنسيات التي تعمل بها عندما درست خياراتها المهنية أثناء فترة حملها، حيث قامت الشركة بترقيتها أثناء إجازة الوضع. ورغم أنّ ذلك يعني حصولها على زيادة في الراتب، إلا أنّ الرسالة التي حملها هذا التصرف في ثناياه كانت أهم بكثير بالنسبة لها وهي: إننا "نتقبل اختيارات حياتك الشخصية ونقدرها". وقد جعلتها هذه الرسالة التي تشير إلى تقدير الشركة لها أكثر حباً لشركتها، فعادت من الإجازة أكثر ارتباطاً بعملها من أي وقت سابق.
2- التعلم أهم من الترقية
يكمن الحل الثاني في إظهار مدى التزام الشركة بتوفير فرص التعلم للموظفين. وهنا أيضاً، قد تكمن الاستجابة المناسبة في التخلص من هيكلية الكفاءة التي يفضلها أبناء جيل الخمسينات والستينات والتي ترتكز على التقدم المهني ذو البعد الواحد.
فقد أبدى أحد أفراد جيل الخمسينات والستينات بصفة عامة تفضيله الشديد للتقدم المهني. ففي ظل اقتصاد متنام ومجتمع مزدهر، كان هذا التقدم المهني أمراً طبيعياً، وأدى في الكثير من المؤسسات إلى إفراز عدد كبير جداً من الألقاب الوظيفية، كما أدى إلى وجود هيكل إداري متعدد المستويات. وكان التدريب، إن وجد، يتكون من جلسات تدريبية متفرقة لمدة يومين أو ثلاثة أيام خارج مكان العمل. ولكن لم تعد هذه الهيكلية التنظيمية مجدية اليوم.
وقد نشأنا كأجيال شابة ونحن نرى أنّ التكنولوجيا تتغير باستمرار وأدركنا أنّ المعارف المكتسبة سرعان ما تصبح غير مستعملة. كما شهدنا أيضاً اندثار "ثوابت" في المجتمع، ورأينا تراجع أنظمة المعاشات والرعاية الاجتماعية القديمة وظهور اختلالات وزعزعة اقتصادية وتكنولوجية أدت إلى إزاحة الكثير من الوظائف، بما فيها، غالباً، وظائف آبائنا.
ومع توقع الكثير منا أن يعيش 100 عام ويعمل حتى نهاية السبعينات من عمره، بدأ يتشكل لدينا نموذج ذهني مختلف بشأن وظائفنا: ويتمثل ذلك في أننا بحاجة لأن نصبح آلات تعلم. إذ لن يصمد ما لدينا من مهارات وكفاءات أكثر من 5 إلى 6 سنوات. كما أصبح التعلم المستمر يشكل أهمية بالغة في حياتنا المهنية تزداد أكثر من أي وقت مضى.
وبالتالي، لكي تضمن الشركات البقاء والاستمرار في جذب الشباب واستبقائهم، قد يكون من الحكمة بالنسبة لها التوقف عن منح المزيد من الألقاب الوظيفية، والتركيز بدلاً من ذلك على توفير فرص للتعلم مدى الحياة. وكمثال على ذلك ما قام به أحدنا عندما أنجز عملية تخفيض للمستويات الإدارية أثناء توليه منصب رئيس قسم الموارد البشرية في المنتدى الاقتصادي العالمي (World Economic Forum)، حيث قام بتخفيض هيكل التسلسل القيادي من 10 إلى 4 مستويات فقط. كما يتعين كذلك مواءمة برامج التعلم بحيث تهتم بالتعلم العملي التطبيقي، وتنفيذ التكليفات الموسعة، والتنقل الوظيفي والجغرافي، وبرامج تعلم التوجيه والإرشاد.
قد تبدو هذه الخيارات مستغربة، إذا أخذنا في الاعتبار الكثير من الموظفين الذين يتركون مؤسساتهم بسبب نقص فرص التطور والنمو. ولكن من خلال التركيز على التحركات الأفقية والمزيد من الفرص التدريبية يمكن أن توفر المؤسسة مجالاً أوسع أمام الأجيال الشابة لتحديد أولوياتهم بصورة أعمق، وهي الاستمرار في تعلم مهارات جديدة.
3- "مساعدة الآخرين" يجب أن تكون مسعى مشترك بين مختلف الأجيال
وأخيراً، ماذا عن السماح لنا، نحن الشباب، بمساعدة الآخرين بطريقتنا الخاصة؟ قد يكون ذلك هو التغيير الأكثر انسجاماً من بين التغييرات الهيكلية المطلوبة للتوفيق بين الأجيال.
وتعتبر مساعدة الآخرين من واقع خبرتنا ذات معنى مزدوج، إذ أنها تتعلق أولاً، وفقاً لتعاليم فيكتور فرانكل، بـ "سعي الإنسان اللانهائي عن معنى لحياته"، ويتجلى ذلك في البحث عن هدف وغاية أسمى وأعمق من مجرد الحياة العادية. وبترجمة ذلك على أرض الواقع في الحياة المؤسسية المعاصرة، نجد أنّ موظفي اليوم الذين هم في العشرينات من العمر يفضلون مساعدة الآخرين من خلال القيام بأعمال لها أهداف مجتمعية تمثل "أعمال خير". وقد أدى ذلك إلى وجود ما يشبه سباق التسلح، حيث تسعى الشركات سعياً حثيثاً لإثبات أنّ أهدافها تخدم المصالح المجتمعية.
وفي المقابل، تعاني الشركات التي لا تسعى لتحقيق هدف وغاية سامية أخرى سوى الربح المادي في عملية تحفيز الموظفين الشباب من جيل اليوم. أما الشركات ذات التأثير المجتمعي السلبي، مثل شركات إنتاج التبغ، فهي مجبرة على دفع رواتب أعلى لموظفيها. إنها تدار بعقلية إرضاء المرتزقة الذين لا يبحثون إلا عن الربح المادي في أي مكان. أما إذا أخفقت الشركات في إتاحة الفرصة لموظفي جيل الألفية من أجل "مساعدة الآخرين" من خلال منحهم وظائف ذات هدف ومعنى، فهل سيكون أمامهم طريق آخر؟ نعم، هناك معنى آخر لـ "مساعدة الآخرين"، معنى يرتبط بالحاجة الفطرية لدينا بالاندماج في المجتمع، أي رغبتنا بأن نصبح جزءاً من شبكة اجتماعية. وهنا من الضروري أن يتكون النسيج الاجتماعي من منصات رقمية ومادية، لا من بنى جامدة تحكمها قواعد ميكانيكية، مثل أسبوع العمل الذي يستمر من الأحد إلى الخميس كل يوم من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة عصراً. فإذا أردت تنفير أحد موظفي جيل الألفية الموهوبين، حاول فقط إجباره على العمل لمدة 8 أو 10 ساعات إلزامية في اليوم. صدقني، لن تسير الأمور بسهولة بهذا الشكل.
أما إذا ما أُدير الأسلوب الثاني بشكل جيد، وهو أسلوب التواصل الاجتماعي في مساعدة الآخرين، فيمكن أن يكون ذلك مناسباً ويحقق الانسجام فيما بين الأجيال. والسبب في ذلك أنّ الطريقة المفضلة بالنسبة لأبناء جيل الخمسينات والستينات في مساعدة الآخرين هي مساعدة كل موظف على حدة في تحقيق أهدافه. وبعبارة أخرى، بينما يكون جيل الألفية راضياً إذا قدم ما يساعد في تغيير العالم، فإنّ ما يسعد جيل الخمسينات والستينات أكثر هو مساعدة زملائهم. ولذلك، فإنّ طريق التوفيق بين ما يرضي كل من الجيلين يتمثل في تعزيز برامج الإرشاد بين الأجيال المختلفة، ويعد ذلك من الموضوعات التي تناولها تشيب كونلي بالدراسة مؤخراً ضمن مجلة هارفارد بزنس ريفيو. وبينما يمكن لجيل الخمسينات والستينات مساعدة زملائهم الأصغر سناً على تحقيق أهدافهم، فيمكن أن نطلب نحن الشباب الخضوع للتوجيه فيما يتعلق بكيفية إضفاء المعنى المجتمعي على ما يقومون به من عمل.
وبالنسبة لنا بشكل خاص، فقد نجح معنا هذا الأسلوب. فمن خلال تبادل الآراء فيما بيننا، ازداد احترام كل منا لأهداف الآخر، وأصبحنا أكثر رغبة في العمل سوياً. واكتشفنا أنّ الغاية لا تأتي في كثير من الأحيان من الشركة، وإنما من الأشخاص الذين نعمل معهم والذين نعمل من أجلهم.
ما زال هناك الكثير من التحديات في إدارة شركات بمثل هذا القدر من التنوع بين الموظفين. ولا يعتبر العمل مع مختلف الأجيال سوى جزء واحد من هذا اللغز. لكن ما يدعو للاطمئنان هو أنّ هذه الأجيال على اختلافها إنما ترغب في تحقيق الشيء نفسه. وبينما يختلفون في أسلوب وطريقة تحقيق ذلك الشيء، فهناك طرق للتوفيق بين هذه الأقطاب المتباعدة.
أما الاستنتاج الأخير، فهو أكثر ما يدعو للاطمئنان: وهو أنّ أبناء جيل الألفية ليسوا بمرتزقة ماديين، فكل ما نتطلع إليه هو الحصول على مقابل مادي عادل. إذاً، علينا أن ننظر إلى زملائنا على أنهم يحتاجون إلى هدف سام وبوصلة أخلاقية وجهاز رادار لإرشادهم فيما يواجهونه من تحديات في حياتهم المؤسسية.